إن السنوات الأربع التي مرت على سوريا، بما فيها من عنف وقسوة، لم تؤد فقط إلى تدمير المساكن والبنية التحتية، ولا هددت وحدة البلاد والنسيج الاجتماعي والوطني السوري فحسب، بل غيّرت أيضاً المفاهيم ومنظومة القيم الوطنية والقومية والأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها تغييراً كبيراً. فلم يعد الشعب السوري هو نفسه الذي كان قبل أربع سنوات، وتحول المجتمع السوري إلى مجتمع آخر غير الذي كان قبل الانتفاضة.
لقد تغيرت المفاهيم الوطنية والقومية المستقرة في ثقافة الشعب السوري ومشاعره منذ عقود طويلة، وصار تقويمه لها وموقعها لديه مختلفاً عما كان عليه طوال تاريخه الحديث. فلم تعد القومية العربية والقضية الفلسطينية هي القضايا الأساسية التي تشغله أو تثير اهتمامه أو يلهج بها باستمرار، مثلما كانت حاله سابقاً. كما لم يعد الموقف من العدو الإسرائيلي والاحتلال والهيمنة الأجنبية والتدخل العسكري الخارجي يقوم على الأسس ذاتها التي كانت تحدد مواقفه قبل ذلك. فقد أصبح الشعب السوري متساهلاً تجاه هذه القضايا، يراها بنصف عين، ولا تثيره فجاجتها كما كانت العادة، ولا يستنكرها بالحزم نفسه، ذلك لأنه غرق في مصيبته ومحنته الوطنية ولم تعد علاقته بتلك القضايا ذات أولوية بعدما تغير سلم الأولويات القومية والوطنية لديه، وذهب الوقت الذي كان فيه السوري يعتبر نفسه مواطناً عربياً بالدرجة الأولى ثم سورياً بعد ذلك، وأنه قومي عربي أولاً، ووطني سوري ثانياً. لم تعد الأحداث في البلدان العربية الأخرى تثير اهتمامه كما كانت الحال عليه قديماً. وفي الوقت نفسه، في مقابل ذلك، نما لديه الحس الديموقراطي الذي لم يترسخ سابقاً في عمقه الثقافي، لكمونه قياساً بالهموم القومية. وأصبح يجاهر بأهمية النظام الديموقراطي والتعددية السياسية والحوار وفصل السلطات ورفض النظام الشمولي، وكأنها بدائل قومية. وفي الخلاصة، أصبح المواطن مواطناً سورياً أولاً، وينادي بنظام ديموقراطي ثانياً. أما الهموم العربية، فلم تعد ضمن أولوياته، كما لم يعد يثق كثيراً بجدوى الأخوة العربية ولا بالرأي العام العالمي أو بالتضامن الأممي، ولا يأمل خيراً من مساعدات الدول الأخرى له. وهو على يقين أن دول العالم تبحث عن مصالحها بالدرجة الأولى، وأن حديثها عن الديموقراطية والتعاون والتضامن، إنما هو كذبة كبرى.
لم يعد السوري يحترم القانون والنظام كمواطن صالح، وذلك بسبب غياب الدولة أو ضعفها وتهافتها، وانفلات فئات اجتماعية عديدة من عقالها وتمردها على القانون والنظام، سواء كانت هذه الفئات من المسلحين النظاميين أو غير النظاميين، أو من موظفي الدولة وعمالها، أو بسائر أبناء الشعب العادي. وصار المرء يلحظ ممارسات غير قانونية في مختلف جوانب النشاط اليومي، وبشكل كثيف وفاضح، كالمخالفات السكنية والبناء من دون ترخيص والتهرب من دفع الضرائب، والاستخفاف بحقوق الدولة، وإقامة حواجز فردية من دون أن يندرج ذلك في إطار أي خطة أمنية..
إن الخطير في القيم السورية الجديدة، هو الموقف من العمل والربح والخسارة والأسعار والأجور والملكية عامة، إذ صار التوجه نحو ربح الصفقات والفساد والتهريب والابتزاز والخداع والبلطجة والطرق غير المشروعة. والملاحظ أن أسلوب الربح هذا لم يعد مستنكراً من أفراد المجتمع بشدة، بل كثيراً ما يحض البعض البعض الآخر على ممارسته. وصار العمل والعيش خلافاً للنمط الاستهلاكي مسار سخرية في كثير من الأحيان. كما لم يعد لمفهوم الملكية لدى السوريين صفة التقديس (الملكية مقدسة في نصوص دستور «البعث») فلم يعودوا يستهولون كثيراً تدمير بيوتهم أو نهب أثاثهم، والأمر يتكرر عند خسارة الأعزاء المقتولين سواء بواسطة العنف أو بالتعذيب أم بغيرهما، حتى صار الموت حدثاً عادياً لدى عامة السوريين.
انتفت في حياة السوريين تقريباً النشاطات الثقافية، فلم تعد المحاضرات أو الندوات أو المعارض التشكيلية أو المسرحيات، أو حتى الإنتاج التلفزيوني والسينمائي والحفلات الموسيقية إلا نادراً. كما لم يعد غياب هذه النشاطات كافياً لإشعار السوري بنقصٍ ما في حياته اليومية، مع تراجع الأمن وتقدم القذائف وغلاء الأسعار الأسطوري والقلق من الحاضر والمستقبل على السواء.
لقد أصبح مفهوم الزمن مختلفاً لدى السوري عما كان عليه، فصار عادياً أن يضيّع وقتاً طويلاً في طريقه إلى عمله أو العودة منه من دون تذمر، كما صار طبيعياً أن يوقف عسكري الحاجز مرور السيارات مدة غير محددة، من دون أن يجرؤ أحد على سؤاله عن السبب. وصار الانتظار ساعات أمام محطة الوقود أو تأخر قدوم بائع المازوت أو الغاز أمرا عاديا.
تدهورت العلاقات الاجتماعية كثيرا خلال هذه السنوات، سواء بسبب تجمع أكثر من أسرة في بيت واحد، أو لعدم إمكانية القيام بالزيارات أو تلبية الدعوات، فيما الاحتفال بالأعراس والمشاركة بمراسم العزاء صارت غير ضرورية، بحيث لم يعد السوري يهتم بتأدية واجباته الاجتماعية، ولم تعد الرابطة بين الأصدقاء أو بين الأهل متينة، وصار من غير الاستثنائي أن يمكث السوري في بيته أياماً عدة من دون أن يخرج إذا كانت ظروفه لا تقتضي الخروج.
لقد تغيرت مفاهيم الشعب السوري وقيمه وتقاليده وأنماط عيشه خلال أربع سنوات. ولعل إعادة بناء سوريا المقبلة يقتضي بالدرجة الأولى إعادة إنتاج مفاهيم وقيم جديدة تعيد السوريين إلى حالتهم الطبيعية، وتخلصهم من بعض القيم الطارئة التي فرضتها ظروف استثنائية، ولعل إعادة البناء هذه هي الأصعب والأكثر تعقيداً.
السفير
