حمّود حمّودصفحات الرأي

الماضي لا يمضي والمجتمعات الإسلامية أسيرة تعصّب «جوهري»؟!: أصوليّة الاستشراقي واستشراقيّة الأصولي/ حمود حمود

 

 

أحدُ أوجه الاستشراقي، ما قبل وما بعد الحداثي، أنه أصوليٌّ في عمق تشريقه للآخر، واحديٌّ ويقيني جداً أشدّ من صلابة الأصولي في كثير من الأحيان. هناك الكثير من عُقد أبنية الاستشراق الثقافي المتوارثة، بخاصة تلك التي تتعلق بتصوير وتمثيل الآخر، إحداها هي أنّ الشرق يمتلك جواهر ثابتة لا يمكنها أنْ تتأثر بعمقها بالتغييرات التاريخية كما هو حال الغرب الفائق حضارياً (فالتقدم هو فقط حكرٌ على الغرب، لأنه غرب، لأنه مسيحي…الخ). وقد اعتُبر الإسلام، كدين وثقافة، الجوهرَ الثقافي الأبرز والأصيل الذي يحدد اتجاه وبُعْدَ الشخصية المسلمة والعربية. وبناء على هذا، فليس هناك من تحوّلٍ تاريخي يمكن أنْ يؤثر على هذه الشخصية طالما أنها محكومة ببنى جوهر ثابت، بالطبع «الجوهر» الذي يستشرقه ويعيد تشريقه المستشرق وفق ما يتخيله. أمّا مسألة ما هي طبيعة هذا الجوهر، فهذا أمر يتبع طبيعةَ المدرسة أو المناهج الميثودولوجية الاستشراقية المتبعة والمتموضع وفقها المستشرق. وهذا الأمر قد أدى، من بين ما أدّاه، إلى نتيجتين: الأولى، إلى قيام صراعات في النقد الغربي في درس، أو ربما في تنميط جوهر الإسلام (وهي بالفعل صراعات على جوهر الإسلام)؛ والثانية، هي المصادقة ضمنياً، وأحياناً علنياً، على صعود الإحيائيات الأصولية في المشرق (وهو الأمر الذي سنتعرض لها في هذه العجالة السريعة)، هذا فضلاً عن كثرة الدعاوى الغربية إلى قيام كيانات طائفية-أصولية تأخذ شكل الدولة.

وبغض النظر عن الصراعات داخل مدارس النقد الغربي في تنميط جوهر الإسلام، فإنّ كثيراً من المدراس الاستشراقية (تلك التي ولدت في أجواء ما قبل الحداثة، وحديثاً من فضاءات ما بعد الحداثة) قد قالت بجوهرٍ واحد، أصلٍ واحد، إسلامٍ واحد، هو الذي يتحكم بمسرى ومصير المجتمعات العربية؛ فكل ما يجري في المجتمعات العربية يرتد إلى هذا الجوهر. وإذا كان الأمر على هذا النحو، فإنّه لا غرابة أنْ نسمع أنّ المجتمعات العربية لأنها إسلاميةُ الجوهر، فقدَرُها أنْ يحكمها إسلاميون. فالإسلام السياسي والأصولي، لا يُدرس صعودُه وفق النقد التاريخي والتحولات التي تمر بها المجتمعات المسلمة، بل وفق تنميطات جوهرانية، وهي في معظمها جوهرانيات ثقافوية سليلة الأفكار العضوانية والداروينية الحيوانية التي انعكست على النقد الثقافي. هكذا، فالأصولية ليست أمراً طارئاً يمكن لتحوّلٍ تاريخي ما أنْ يصعدها أو يسقطها، بل الأصولية هي من طبيعة الأشياء، الأصولية هي «جوهرٌ» مسجونةٌ به الشعوب العربية! من هنا لا نستغرب النظر الذي تناول صعود الإخوان المسلمين على أكتاف الربيع العربي بأنه إثبات ثقافي لهم على عضوانية المجتمعات العربية، لا بل إنه من الطبيعي وجود وحكم «داعش» طالما أنّ هذه المجتمعات هي إسلاميةُ التكوين، ليغدو صوت داعش هو الصوت الجوهري الأصيل الذي يعبر عن أصالة هذه المجتمعات!

تلك النظرة نجدها سائدةً اليوم بعمق مع تقدم المدارس النقدية في مسارب نقد ما بعد الحداثة وفي أروقة الزيف الفكري الذي تتطبع به أفكار التعدديات الثقافية. إنها نفسها هذه الأفكار التي تدعو سياسياً إلى قيام كيانات طائفية-أصولية في المنطقة المشرقية وذلك بحسب «الأصول» الثقافية التي تتحكم بشعوبها، وبأنه يجب أنْ تتوجه السياسات الدولية للعمل في هذا الإطار: أصوليون شيعة يحكمون مناطق الشيعة وأصوليون سنة يحكمون مناطق السنة، لأنّ ذلك أفضل تعبير عن أصالتها الثقافية. بيد أنّ الإشكالية المهمة في هذا السياق تقع في عمق ذاك الالتقاء، أيضاً الجوهري، في مثل هذه الدعوات مع الدعوات الأصولية نفسها التي تنادي وفق هذه البارادايمات الإحيائية إلى العودة إلى «الجوهر الواحد» (لكن الجوهر الذي يتخيله ويستشرقه الأصولي وفق نظائمه الثقافوية. ولنا أنْ نلاحظ هذه الدعوات بعمق عند حسن البنا، وحديثاً بدأت تصعد مع صعود الإخوان المسلمين في مصر قبل إسقاط رئيسهم محمد مرسي)، طالما أنّ هذه المجتمعات قائمة على أسس دينية ثقافية، بحسب نظيمة الأصولي الذهنية. لكن ما المعني بالضبط بهذا الالتقاء بين المستشرق والأصولي التقليدي؟

طالما أنّ الأصولي والمستشرق يعملان خارج التاريخ، فلا غرابة أنْ تصدر مقولاتهما عن أسس مخيالية ويتخيلان أصولاً ثقافية، ويلتقيان عند زوايا عدة، نُجمل منها:

– المستشرق يقول بجوهرانية أصيلة تتحكم بمصير المجتمعات الإسلامية؛ والأصولي يقول ذلك كذلك.

– قليلاً ما يغري المستشرق درس المجتمعات المسلمة سوسيولوجياً بحسب السياقات التاريخية المعقدة المتموضعة وفقها (مثلاً، يضع مسلمي إندونيسيا ومسلمي دمشق في سلة واحد ثم يصدر الحكم عليهم وفق الأصولية الثقافية التي يستشرقها المستشرق). مثل هذا المستشرق يمتلك ذهنية واحدية إطلاقية في تمثيل المجتمعات التي يعتبرها «أخرى» عنه؛ فإشكاله إشكال توتاليتاري ثقافي: المجتمعات الإسلامية هم هكذا، وهذا هو الإسلام! (يقول المستشرق). الأصولي أيضاً لا يبتعد بتوتاليتاريته عن هذا، فهو الآخر لديه ذهنية يقينية صلبة. وأيضاً قليلاً ما يقبل الأصولي الاختلاف، وقليلاً ما يُعير انتباهه إلى الاختلافات السياقية التاريخية في النظر إلى المجتمعات المسلمة المختلفة سوسيولوجياً. فطالما أنّ هذه المجتمعات هي مسلمة أصالاتياً، فهي كلها تقع في بوتقة ثقافية واحدة. إنه يقول كذلك أنه هناك إسلام واحد فقط، هو الذي يجب أن يتحكّم، من خلال خيال هؤلاء الإسلاميين، بقدر المجتمعات المسلمة.

– يستخدم الأصولي ألفاظاً من قبيل: يجب أن تعود شعوبنا إلى رشدها، إلى جادة الحق، إلى الجهاد، إلى عصر السلف الصالح…الخ، وإنْ اقتضى الأمر اللجوء إلى العنف. أما المستشرق فإنه يعتبر مثل هذه الدعوات هي من طبيعة مجتمعاتٍ مُقفلٍ عليها بقفل كبير هو العودة إلى الماضي، ولا مناص أمامهم إلا الإسلاميون وحكمهم. الماضي كما هو عند المستشرق الماضي الذي لا يمضي، فهو كذلك عند الأصولي. وبالطبع، الحاضر، بأثقاله التاريخية، مسقطٌ لحساب مثل هذه الذهنيات.

– لنلاحظ مثل هذا الالتقاء اللاعرضي: ثمة زيفٌ مبطن يقع به الاستشراقي وهو أنه حينما يقرأ عن مبادرات تاريخية أو نجاحات تقدمية أو نظريات فكرية في بعض المجتمعات المسلمة، فإنه يعزوها مباشرة إلى الغرب المتفوق، الغرب الذي يتخيله كذلك (مثلاً كل نظرية فلسفية، كل مذهب فكري متقدم عن الآخرين، هو بالضرورة التاريخية سليل التأثير الغربي)، في حين أنّ كل تخلف يعزى تلقائياً إلى الثقافة الإسلامية! الأصولي، كذلك الأمر يمتلك مثل هذا النظر، لكن على نحو معكوس، فكل ما تصاب به المجتمعات المسلمة لا يدرس وفق الشروط السياسية والتاريخية عموماً بل يعزى مباشرة إلى الغرب الكافر أو الصليبيين واليهود. وأياً يكن الأمر، فإنّ العنوان الكبير لمثل هذه النظرات، مرة أخرى، هو إسقاط التاريخ.

هناك لا شك أكثر من ذلك من الالتقاءات الفكرية بين الاستشراقي والأصولي، لا سبيل لحصرها هنا، بَيْدَ أنّ النقطة المهمة أنه ما بين أصولية الاستشراقي واستشراقية الأصولي تقعُ تلك الأرض الصلبة التي تقف عليها هاتان النظيمتان في الاستناد إلى ثقافويات عضوانية تُبنى عليها خرائط سياسية (كما يجري الآن في الخرائط الجديدة للمشرق) بعيدة كل البعد عن طموحات الشعوب في الحرية والحداثة. إنّ مثل هذا الالتقاء الفكري بين الاستشراقي والأصولي هو السبب الرئيس لشرعنة الإحياء الأصولي، وهي شرعنة إذا كانت في كثير من الأحيان ضمنيةً، فإنها في مناسبات عديدة كانت علنية (لنتذكر اللقاءات الودية بين الأصولي الخميني وبين ميشيل فوكو وشرعنة الأخير على قيام كيان دولة أصولية في عمق المشرق، تحت دعاوى المقهورية وحق الثقافات لإنشاء كيانات لها وفق السياسات الزائفة لتعددية الثقافات).

(كاتب سوري)

المستقبل

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى