صفحات العالم

المعارضة السورية: سجن الماضي وأفق الثورة


مركز الجزيرة للدراسات

تسعى المعارضة السورية إلى تشكيل مجلس وطني موحد يواكب الثورة المطالبة بإسقاط نظام بشار الأسد، لكنها تعاني من انقسامات في صفوفها ورثتها من الصراعات الإيديولوجية العائدة إلى مرحلة الحرب الباردة، ومن ضعف في قدرتها على تمثيل المجتمع السوري وحشده لأن النظام السوري مارس عليها القتل والسجن والتهجير فحرمها من تشكيل قواعد شعبية، والمتوقع أن الثورة السورية الجارية ستفرز قيادة جديدة وتفرض على المعارضة إعادة بناء تتلاءم مع الواقع الجديد.

فالانتفاضة أخذت الجميع على حين غرة. فليس للمعارضة التقليدية فضل في تفجرها ولا هي استطاعت أن توفر لها غطاء سياسيا. لكن الانتفاضة أيضا كانت بمثابة موجة كبيرة صاعدة، دفعت الجميع إلى الأمام ورفعتهم إلى أعلى. وبفعلها دخلت المعارضة التقليدية المشهد السياسي والإعلامي الدولي. وفي سياق التفاعل مع الانتفاضة تشكل في الداخل تجمع مستقلين (مؤتمر سميراميس) وإطار سياسي منظم (هيئة التنسيق الوطنية)، التي ضمت أساسا الناصريين والشيوعيين الذين كانوا تركوا إعلان دمشق بعد انعقاد مجلسه الوطني آخر 2007. وانعقدت مؤتمرات عديدة في الخارج، لكنها تجد صعوبة في التغلب على عوامل التشتت، وأسباب ذلك تضرب بعمق في التاريخ السياسي السوري.

الحزب القائد: الموت السياسي

الانتفاضة: ميلاد سياسي

منذ مطالع العهد البعثي عام 1963 قام النظام السياسي في البلد على احتكار الحياة السياسية، وعدم تقبل وجود أحزاب أخرى. لم يعن ذلك على الدوام استئصال الأحزاب الأخرى، لكنه لم يمكنها في أي وقت من العمل في المجال العام بحرية. فلا تستطيع عقد اجتماعات علنية، ولا إصدار صحف بكل حرية، وعليها أن تتحسب كثيرا في نقد النظام القائم. ولم يندر أن أُعتقل محسوبون عليها. في أساس هذه السياسة، ثمة نظام الحزب الواحد الذي كان منتشرا في مناطق كثيرة بالعالم آنذاك، وكانت الأحزاب الأخرى في سورية تصدر عن هذا الأساس نفسه، وإن اختلفت المرجعية الإيديولوجية لها عن تلك الخاصة بـ”حزب البعث العربي الاشتراكي”. ولذلك فإن معارضي نظام البعث وقتها، أي في ستينات القرن العشرين ومطلع سبعيناته لم يقترحوا أبدا نظام تعدد الأحزاب أو حرية العمل السياسي أو تداول السلطة العمومية، بل شكلوا جبهة وطنية تضم “الأحزاب التقدمية”، وهذه مُعرّفة بإيديولوجياتها وليس ببرامجها أو سياساتها العملية، الناصريين والشيوعيين، والبعثيين طبعا. ويُستبعد من هذا الإجماع الإسلاميون، المعرفون بإيديولوجيتهم الدينية أيضا، وكانوا يمثلون الرجعية نفسها في أعين التقدميين في تلك الأيام. حتى إذا جاء عام 1970، العام الذي استولى فيه حافظ الأسد، وزير الدفاع آنذاك، على السلطة، أقام بالفعل جبهة وطنية تقدمية في عام 1972 ضمت شيوعيين وناصريين، بقيادة حزب البعث الذي سينص الدستور الدائم الذي صدر بعد نحو عام من تشكيل الجبهة على أنه الحزب القائد للدولة والمجتمع، وأنه يقود جبهة وطنية تقدمية تعمل على تحقيق أهداف الجماهير العربية. لكن في الواقع كانت الجبهة إطارا للموت السياسي لا للحياة السياسية في البلاد. فقد خسرت أحزابها استقلالها، وقبلت أن تكون حواشي الرداء الملكي لحزب البعث، الذي آلت به الأيام هو ذاته إلى حاشية على الثوب الملكي للرئيس حافظ الأسد.

الأحزاب التي أرادت أن تبقى حية مستقلة وجدت نفسها مسوقة إلى الاعتراض على النظام  كله كي تبرر وجودها. وهذا أفضى بها إلى السجون، الشكل الآخر للموت السياسي في البلاد.

وبالفعل كانت السجون مصير تنظيمات يسارية وناصرية وبعثية، قضى أعضاؤها فيها سنوات طوالا بين ثمانينات القرن العشرين وأواخره. قبل ذلك لم تكن أيام هؤلاء هنيئة في ظل النظام، لكنه لم يتعمد الاستئصال التام لتنظيماتهم إلا في الثمانينات.

على أن الغرم الأكبر وقع على الإسلاميين. هؤلاء خصوم سياسيون وإيديولوجيون في آن. وأعداء حربيون أيضا. معلوم أنهم دخلوا في مواجهة مسلحة مع النظام في أواخر سبعينات القرن الماضي، انتهت بخسارتهم وباعتقال عشرات الألوف من المحسوبين عليهم وإعدام الألوف. في صيف 1980 كان النظام أصدر القانون رقم 49 الذي يقضي بإعدام المنتمين للإخوان المسلمين. وفوق أنه غير دستوري على ما قال حقوقيون في حينه، فإن هذا القانون الذي لا يزال ساري المفعول آية في الظلم لكونه يعاقب على ما يكون المرء لا على ما يفعل، الأمر الذي يخالف فلسفة الحق جوهريا.

وبعد مذبحة حماه في فبراير/شباط 1982 التي يُحتمل أن نحو 30 ألفا قد قضوا فيها، استتب الأمر للنظام، لم تعكره غير مجموعات يسارية وناصرية، وبعض البعثيين الموالين للنظام العراقي، وقد استطاع دون صعوبة تذكر اعتقال أعضائها. وهكذا طاب له الأمر حتى نهاية القرن. في المجمل كانت سورية بلا حياة سياسية ولا أحزاب سياسية من أي نوع في نهايات عهد الأب، وقد وافقت نهاية القرن العشرين.

ذوهو ما يفسر أن أمر توريث الحكم من الأب إلى الابن في الجمهورية العربية الأولى قد مر دون إشكال.

أُفرج عمن بقي من سجناء زمن الأسد الأب، اليساريين والبعثيين، في مطلع عهد الابن. خرجوا إلى عالم تبدل كثيرا سياسيا وإيديولوجيا وتكنولوجيا. وخلال سنوات اعتقالهم المديدة كانت عقيدة الحزب الواحد قد أفلست، وتطور لديهم جميعا، وإن بتفاوت، حس ديمقراطي متقبل للتعددية. أما الإسلاميون فلم يفرج عن بعض قدمائهم إلا في السنوات اللاحقة.

دفع نظام الابن ثمنا زهيدا للتوريث تمثل في “ربيع دمشق”، الاسم الذي أطلق على تلك الأجواء التي خُنقت بعد ذلك على دفعتين: في فبراير/شباط 2001 حين تولى عبد الحليم خدام تخوين المعارضين، ثم نهائيا في سبتمبر/أيلول من العام ذاته حيث اعتقل عشرة من رموز ذلك الربيع الخاطف. من المهم القول أن  أبطال “ربيع دمشق” كانوا من معارضي نظام الأسد الأب، معتقلين سياسيين سابقين ومثقفين مهمشين، وليسوا من جيل الرئيس الوارث (34 عاما حينها).

أما الإسلاميون فكانوا رهيني الحبس أو المنفى. كان ألوف منهم نجوا بحياتهم إلى البلدان العربية أو الغرب في عقد الثمانينات. لكنهم واكبوا “ربيع دمشق” القصير من منافيهم بإصدار وثيقة منفتحة في لغتها ونبرتها سميت “ميثاق الشرف الوطني” (3 أيار/ مايو 2001).

والخلاصة أن ما بات يطلق عليه منذ تفجر الانتفاضة السورية بالمعارضة التقليدية يضم التنظيمات ذات الأصول اليسارية والقومية العربية والإسلامية التي هي في الواقع معارضة نظام حافظ الأسد. وهذه التنظيمات تتميز بكبر السن لقادتها، وبالتحرك ضمن الأطر الفكرية والتنظيمية المتوارثة عن فترة الحرب الباردة.

تَشَكل لهذه المعارضة التقليدية إطارٌ جامعٌ في خريف 2005 تمثل في “إعلان دمشق”، وقد ضم جميع معارضي نظام حافظ الأسد تقريبا، بمن فيهم الإخوان المسلمون، ومعهم أكثر الأحزاب الكردية. لكن لم تمض شهور قليلة على الإخوان حتى دخلوا في تحالف مع عبد الحليم خدام، النائب السابق للرئيس السوري (الأب ثم الابن)، وكان “انشق” في نهاية عام 2005، قبل أسابيع من تأسيس جبهة الخلاص الوطني.

وفي نهاية 2007 انعقد المجلس الوطني لإعلان دمشق في مدينة دمشق بحضور 168 شخص، وانتخب قيادة له، لكن سرعان ما خرج منه الناصريون والشيوعيون، في سياق تميز بكثير من الصراع، ثم أُعتقل أبرز قادة الإعلام المنتخبين.

وهكذا وصلت المعارضة التقليدية إلى آخر ذرى نشاطها، ثم أخذت تفقد زمام المبادرة.

والحاصل هو أن المعارضة لا تزال أسيرة ماضيها، تجد صعوبة في التواصل مع الجيل الشاب وتطلعاته وخبراته ومطالبه، ومن ثمة بطيئة الحركة والتفكير. والأهم أنها لم تكن قادرة على حشد المعارضة الكامنة الواسعة في المجتمع السوري، هذه التي أظهرت الانتفاضة اتساعها وطاقتها الاحتجاجية الكبيرة.

السنوات الأخيرة سجلت ما يقارب فراغا سياسيا في المعارضة: فتور في العلاقة بين المعارضة “العلمانية” والإسلاميين، وبين الداخل والخارج حيث يقيم أكثر الإسلاميون. ولم تظهر أية مبادرة سياسية لتجاوز هذا الوضع في السنوات الخمسة الأخيرة.

الانتفاضة: ميلاد سياسي

على أن الانتفاضة كانت التجربة المكونة لما يمكن تسميتها المعارضة الجديدة في سورية. هذه معارضة شابة، غير إيديولوجية، غير منتظمة في أطر سياسية معروفة، وهي تملك منذ الآن تقاليد في العمل الميداني لا يملك ما يناظرها المعارضون التقليديون.

وأداة عمل هذه المعارضة الجديدة هي “المظاهرة”، أي محاولة احتلال مناطق من الفضاء العام لبعض الوقت، وتحدي النظام فيها. ورهانها هو إسقاط النظام، إما عبر مظاهرات كبرى حاسمة تبدو حتى اليوم متعذرة، أو عبر استنزاف قواه بما لا يحصى من المظاهرات خلال شهور طويلة.

ومن الجسم الممتد لهذه المعارضة الجديدة يحتمل أن تتكون أحزاب المستقبل وحركاته السياسية وتياراته الفكرية. وربما تتطور هيئات التنسيق التي تشكلت بعد الانتفاضة، وتولت تنظيم العمل الميداني والتغطية الإعلامية والتواصل بين النشطاء، والتعبير عن مواقف وتصورات سياسية أحيانا، لتكون مادة أولية لأحزاب ومنظمات سياسية في المستقبل.

أما المعارضة التقليدية، فإما أن تعيد تشكيل نفسها أو تنهار. لكن إعادة التشكيل تفرض عليها  التكيف مع زمن مختلف وإيجاد حلول لمشكلات مغايرة عما ألفت. قد يكون الإسلاميون استثناء مبدئيا من هذا الحكم، لكن ليس من المستبعد إذا ما سقط النظام أن نشهد تمايزات متنوعة في صفوفهم، بين داخليين وخارجيين، وشباب وكهول، ومعتدلين ومتشددين.

على أن صورة المعارضة التقليدية يمكن أن تكون أقل سلبية إذا لم يكن المطلوب منها أن تكون البديل الجاهز حتى لا تصير الأوضاع غير مستقرة في سورية بعد زوال النظام. وليس ضروريا كذلك أن تكون وحدة المعارضة في إطار تنظيمي واحد. هذا غير ممكن، وغير عملي أيضا على ما تدل تجارب سابقة، وعلى ما تشهد التجربتان المصرية والتونسية. ما قد يكون ممكنا ومفيدا هو بلورة توافقات مشتركة على بعض المبادئ الكبرى، مثل “اللاءات الثلاث” التي استقر عليها مثقفون ومعارضون سياسيون تقليديون والمعارضة الجديدة: لا للعنف، لا للطائفية، لا للتدخل العسكري الخارجي؛ ومعها نعم لنظام ديمقراطي تعددي قائم على المواطنة المتساوية والحريات العامة وحكم القانون.

وقد تستعيد المعارضة التقليدية بعض الأهمية في مواجهة أصوات عارضة على المعارضة الجديدة أخذت ترتفع مطالبة بالتسلح أو بالتدخل الخارجي. لكن المعارضة التقليدية لا تستطيع مواجهة ميول من هذا النوع دون ارتباط أوثق بالمعارضة الجديدة، أي بالانتفاضة والأنشطة الاحتجاجية في ميادينها.

مركز الجزيرة للدراسات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى