صفحات الحوار

المقدس، الإلهي، الديني:حوار مع هنري ميشونيك

أجرى الحوار : بيار ـ مارك دو بيازي

ينتمي هنري ميشونيك Henri Meschonnic) (، بوصفه متخصصا في اللغة، إلى الجامعيين الذين أسسوا جامعة فانسين Vincennes) ( إبان الحقبة البنيوية. أستاذ مستحسن من لدن طلبته، كاتب ذو أسلوب صقيل، بإلهام متمرد غالبا، منظر معروف عالميا بأعماله حول الشعرية (Po’tique)، الإيقاع، الأسلوب، العلامة وحول قراءاته النقدية للأدب. (هوغو) أو الفلسفة (هايديغر، سبينوزا)، كذلك فقد فرض نفسه كمبدع، عبر العشرات من الأعمال الشعرية. على أن هنري ميشونيك عثر على المجال الأمثل في الدراسات والترجمات التوراتية كي يوفق بين مواهبه كعالم لغة وشاعر، بإصدارين لدى غاليمار، اللفات الخمس (1970)، يونا والدال الشارد (1981)، وقد صدرت له منذ عهد قريب جدا ثلاثة عناوين جديدة لدى Descl’e de Brower) ( : أمجاد (ترجمة المزامير، 2001)، في البدء ( ترجمة سفر التكوين، 2002 ) والأسماء (ترجمة سفر الخروج، 2003). فقد برهن على معنى ومفترضات هذا العمل في بحث ذي نبرة، كالعادة، شخصية جدا (تأثير التوراة في الفلسفة، دار نشر بايار، 2004 ).

*تبنت المسيحية الرسالة التوراتية ثم، والأهم من ذلك، أننا تعرفنا التوراة عبر الترجمات المسيحية في الغرب. هل ينبغي التوفر، بالنسبة لكم، على تاريخ لاقتباس، لاختلاس أو لانتحال؟

*أقول إنه، بالأحرى، تملك : إنها ثيمة إسرائيل الحقيقي (verus Isra’l) ،للاهوت المسيحي للتجسيد. ما هي الفكرة ؟ إسرائيل القديم، المتعلق بالعهد القديم vetus Isra’l) ( لم يكن سوى إعلان عن صورة أخرى (المسيحية التي جاء بها المسيح) تعتبر من الآن فصاعدا إسرائيل الحقيقي. فتلك النظرية ترتكز على ما ينبغي تسميته بالنموذج اللاهوتي للعلامة. يصرح العهد الجديد بحقيقة العهد القديم، ثم إن العهد القديم يصمد بقدرما يجسد الجديد : فهو في ذات الوقت قابل للإخفاء، مخفي ومصان. بالضبط مثلما يحدث في العلامة اللسانية، حيث يكمل المعنى دلالة الصوت، مع العمل على إخفاء الجزء الصائت للعلامة التي بالرغم من ذلك تستمر في التواجد، لكنها تصبح غير دالة بعد انكشاف المعنى. أعتقد، والحالة هذه، أنه فيما وراء النظرية المسيحية للتجسيد، فإن غالبية الترجمات ترتكز، بالنسبة لمبدئها الأساس، على هذا التمثيل المزدوج وهو تمثيل ناقص إلى حد كبير للعلامة. ماذا يفعل المترجمون ؟ فهم يعتبرون وجود الشكل والمضمون: فمن جهة وجود المادة الفيلولوجية، وهي متممة نسبيا، حيث يصبح من غير المجدي البحث عن نقل التفرد، ومن جهة أخرى وجود المعنى، وجود المضمون الذي سيشكل أخيرا الرهان الأساس للنص الأصلي، وخلف هذا الأخير ينبغي على الشكل أن يتوفر على أدب الانمحاء. بالتأكيد إن ذلك بسيط للغاية، إنه شيء مقبول، لكن هل هذه هي الترجمة حقيقة؟

انمحاء بإمكان مشاريع أقل براءة بكثير أن تختفي وراءه، [ مشاريع ] تركز بالضبط على المعنى، من أجل إثبات أطروحة التجسيد تلك على سبيل المثال. لأنه من فرط تحريف المضامين بهدف جعل إسرائيل الحقيقي مرئيا جدا، فإننا ننقاد بسهولة إلى رفض إسرائيل القديم ، ثم تحريمه، أعني تبرير النزعة المعادية لليهودية …

نعم، فإن الأمر يتعلق بمظهر آخر للمشكل، على أن نتائجه تعتبر جدية فعلا. وبهذا الصدد فإني أحب الاستشهاد بإشعياء النبي 3،40. فمنذ قرون، ترجم ولازال يترجم: ‘صوت صارخ في البرية: أعدوا طريق الرب’. إن المقطع الرئيس والحالة هذه لايكمن هناك إطلاقا، ثم إن الإيقاع يبرهن على أنه ينبغي أن تترجم الآية هكذا ‘صوت ينادي في البرية، أعدوا الطريق’. بداهة، فإن الرسالة لاتمت بصلة إلى التجسيد : صورة أخرى لله (ضمنيا المسيح) ستحل محل إله العهد القديم. لا، فإن الأمر يتعلق، خلافا لذلك، بجزء من الذاكرة يحمل تاريخه : تاريخ أول منفى ببابل، الأمر بالعودة، التماس طريق يتعلق الأمر بتعبيده صوب الأرض المقدسة عبر البرية. كذلك فهو أمر أبدي بالسير نحو المستقبل. لكنها ليست بشارة تعود إلى مسيح ما. أنتم تلاحظون أن هذا التفاوت البسيط للإيقاع يجعلنا نغير المعنى تماما، وليس المعنى فقط، بل الأخرويات حقيقة. سوء فهم آخر، لاينتبه هذه المرة إلى خطإ حول الإيقاع بل إلى نحت صيغة نادرة: ‘إله الجيوش’ الشهير. لاتمت تلك الكلمة، في العبرية التوراتية، والتي تترجم بـ’الجيوش’، بصيغة الجمع بأي صلة بذلك المعنى: إنها تشير إلى الشمس، القمر، الكواكب، العدد اللانهائي للأجسام الكوكبية. ينبغي ترجمتها بـ: ‘إله النجوم العديدة’. ما الداعي إلى تصور صيغة نادرة، معنى لن يكون له سوى توارد واحد ؟ إن ذلك ليس بريئا. إن هذا يصلح لمعارضة، كما فعل هيغل ذلك في كتاب روح المسيحية ومصيرها، مسيحية تفهم بوصفها دينا للمحبة، بيهودية عسكرية وميالة للثأر كديانة بدائية، مجبولة على الكراهية، العنف والثأر. وبالفعل، فإن ‘إله العساكر’ يساهم بمكر في تلك الصورة المضادة لليهودية.

*لكن كيف يستطيع مترجم للتوراة التخلص من تأثير قناعاته الدينية الشخصية ؟ بواسطة أي أعجوبة أو منهج تعتقدون شخصيا أنكم نجحتم في التحرر من ذلك ؟

*نعم، فعلا، فإن الشروح تكون دائما أكثر أو أقل دينية، بما في ذلك حينما تتوارى خلف مقاربات علمية، تاريخية أو فيلولوجية: وفي الواقع، فإنها تنهض كلها ضمنا عن اللاهوتي. ومن أجل إدراك ذلك بوضوح، ليس من حل آخر سوى الارتياب في كل ما قيل، كتب وترجم، ثم أن ينزوي المرء في الحدود الضيقة لموضوعه مع اتخاذ الحيطة تجاه أقل تفصيل. باختصار، ينبغي العودة إلى دال النص الذي يقترح علينا التفريق بوضوح بين ثلاثة أبعاد تكميلية ومميزة في نفس الوقت : المقدس، الإلهي والديني. وقد منحنا سفر التكوين مثلا وسيلة جلية جدا لفهم ما هو المقدس بالمعنى الذي ينبغي فهمه فيه، بالنسبة لي. المقدس Le sacr’) ( هو الاتحاد بين الإنساني والكوني، مع توسط الحيوانات. إنه زمن الخرافة، حيث الحيوانات تتكلم. تكلم الحية حواء. لايتعلق الأمر هنا بأي لغة يتم الكلام بها. لنلاحظ أن ذلك شكل قضية أزعجت القديس أوغسطين ابتداء من الآية الثالثة من سفر التكوين ؛ فعند قراءته: ‘وقال الله ليكن نور’، تساءل أوغسطين : ‘بأي لغة تكلم الله ؟’ غير أن السؤال لامعنى له طبعا. كلم الله كائناته كلمت الحية حواء. وهذا هو الأهم. فقد تم تجاهل العديد من الإشارات، من جل المترجمين قاطبة، تفهم بوصفها الآثار المرئية للمقدس، لذلك الانصهار بين الإنساني، الحيوانات والكون. فعلى سبيل المثال حينما يتم الكلام عن صغار اليمامة، توظف التوراة عبارة مخصصة بدقة للبشر: ‘ابن’ اليمامة. يرتبط ذلك المقدس كوسط منصهر ارتباطا وثيقا بالـ’إلهي’، يحصل ذلك ابتداء من الآية العشرين من الاصحاح الأول. لكن لو تعلقنا بالنص أكثر، فإن ذلك الإلهي لايتضمن أي شكل ديني. إنه يتطابق ببساطة مع خلق الحياة: الزاخرة، المزدحمة، قوة طاقة على التواجد والتي تتجسد في الكائنات الحية.

*لنسلم بتعريفكم الثابت للمقدس والإلهي. على أنه يتوجب عليكم التسليم كذلك أنه مع موسى، ثمة شكل ديني يقحم نفسه في النص التوراتي، لم يكن سوى بالشريعة … ماهي الألواح، إن لم تكن التدوين ذاته للديني ؟

*لا، لا أعتقد ذلك .فعندما نزل موسى من الجبل واستشاط غيظا من أولئك العبرانيين الذين صنعوا العجل الذهبي، قام بتكسير الألواح، التي تحمل الوصايا العشر لازالت تعتبر إلى الآن صورة إيثيقا صافية للحياة. فهي لم تبق متوقفة على الديني. يأتي الديني مع الكتاب الثالث من أسفار موسى الخمسة Le Pantateuque) (، في سفر اللاويين. فما هو ذلك الديني ؟ وضع تقويم، إقامة الأعياد، توزيع الأوامر والتحريمات، تنظيم جماعي للعبادات، مجموعة من الضوابط تتضمن اللاهوتي ـ السياسي : إنه تحول المقدس والإلهي إلى فضاء اجتماعي من الطقسنة ritualisation) (. آنذاك يصبح الديني باعثا للإثيقي. تتضمن التوراة بالمعنى الذي سآتي على تعريف تلك المفاهيم، أبعادا ثلاثة مقدس، إلهي، ديني، ثم إنه يعمل على جمعها لكن مثل عناصر متميزة والتي يستدعي منا النص التوراتي بإلحاح التمييز بينها. ينفصل الإلهي عن المقدس في سفر الخروج، 3، 14 : عندما التمس موسى من الله اسمه. ما هي الفكرة ؟ تتضمن آلهة المصريين خمس مائة اسم إله. كما يمكن القول أن الإلهي يوجد مبددا كليا في المقدس : فأقل خلوة للطبيعة والحياة اليومية كانت مأهولة من طرف ألوهية ما، ثم إن ذلك الخليط يسمح بالسحر، الافتتان، ضرب الرمل. بالإمكان التأثير في الآلهة، أو حتى أن يظهر المرء سخطه إزاء هذا الإله أو ذاك، لكن في عالم مجمد بسياج الإلهي. جواب الله في الآية 14 من الاصحاح 3، تبعا لترجمتي: ‘أنا أصير ما أشاء أن أصير’. أترجمها ‘أنا أصير ما أشاء أن أصير’ لأنه في العبرية يتم تقديم الصيغة ضمن فعل وجد غير مكتمل، صيغة يمكنها أن توافق الحاضر كما المستقبل. فلماذا لم يتم اتباع تقليد القديس جيروم Saint J’r’me) ( الذي ترجم (ego sum qui sum ) ( ‘ أنا من أنا ‘ أو ‘ أنا هو أنا ‘ ) ؟ لأن تلك الصيغة هي استعادة لصيغة أخرى، حيث قال الله في الآيتين أعلاه ( 3، 12 ) : ‘أنا أكون معك’ متحدثا بشكل واضح عن المستقبل. ثمة اختيار هنا إذن بين قراءة سهلةlectio facilior) ( وقراءة صعبة lectio difficiolior) ( .وغالبا ما يكون حل السهولة في الأخير الأقل خصوبة. كما أن الحل الأصعب يتضح أكثر قوة. إن ذلك اللامكتمل الذي يفتح مستقبلا غير منته يفي بوعد، وبين تعبيري الفعل وجد ‘tre) (، توجد نبرة فاصلة صغرى: ‘أنا أصير’ ما ‘أشاء أن أصير’. وقد تم تأويل هذا المحور النحوي مثل اسم موصول ( الذي أو من). إني أفهم ذلك كوصل: إنه إحياء، تكرار للوعد، لكنه لايحافظ على حدته إلا أن يكون اتجاهيا، مرجأ. فقد تم الإعلان عنه ببساطة باعتباره صائرا إلى التحقق. ففي الوقت الذي ينفصل فيه الإلهي عن المقدس، فإنه يتحدد مثل إخفاق استهلالي للمسيحية، كغير قاطع وأولي لفكرة نهاية التاريخ. فالذي يبتدئ لن تكون له خاتمة أبدا ويجعل من الإنسان كائنا دائما للمستقبل. فالإلهي هو الذي يشرع اللانهائي للقصة ولانهائي المعنى. هنا وكما هو الشأن في موضع آخر، لاأعمل إلا على إبراز وجهة نظر، دون ادعاء أن الأمر يتعلق بـ ‘الـ’ حقيقة العائدة إلى النص. فأنا سوسيري فيما يتعلق بهذا : ففيما يخص اللغة، يقول سوسير أننا لانمتلك سوى وجهات نظر. بيد أن كل واحد يتضمن منطقه وانسجامه الداخلي. إني أشتغل بهدف استخراج الانتظام الداخلي لوجهة النظر تلك التي هي وجهة نظري والتي أبنيها بواسطة عناية قصوى بالإيقاعات، بالدوال وبقوة اللغة.

*فقط وجهة نظر من بين وجهات نظر أخرى ؟ ألم تكونوا دائما لطفاء أيضا مع أسلافكم. كيف تقرأون المترجمين الآخرين للتوراة ؟

*مثلما كان لينين يقرأ صحافة اليمين.

عن المجلة الأدبية الفرنسية : Le Magazine Litt’raire ) ( عدد : 448 ديسمبر 2005

Elhassan125@hotmail.com

ترجمة : الحسن علاج

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى