صفحات الرأي

المهمّة لا تنتهي بمجرد إزاحة الطغاة!


د. نقولا زيدان

يخطئ أنصار ومؤيدو بل صانعو الربيع العربي في اعتقادهم أن معركتهم مع الأنظمة الديكتاتورية التي أطاحوا بها، معركة سهلة مطواعة وان مهمتهم التاريخية قد انتهت بإزاحة الطغاة. فالمشكلات العصية التي تواجهنا في مرحلة ما بعد الثورة لأشد تطلباً للتصدي لها وابتداع حلول جذرية، تستدعي كفاحاً مضنياً حثيثاً ومتابعة من النخب والقيادات المجرّبة والفصائل الطليعية، كي لا تضيع هذه المأثرة التي استأثرت وما زالت باهتمام البشرية جمعاء. والأمثلة على ما نرى واضحة وضوح الشمس لا تحتمل أي استكانة أو تلكؤ أو أنصاف حلول. أليست هي كذلك حال الثورة التونسية والهجمة التي تقودها السلطة الجديدة في ضرب الديموقراطية والاعتداء المتمادي على الحريات والمكاسب المعيشية هناك التي دفعت النقابات العمالية والرابطات الديموقراطية أثماناً باهظة لترسيخها طيلة عقود زمنية مديدة؟ أليست هي كذلك أيضاً حال الثورة الليبية التي لم يطل ربيعها حتى تكشف الوضع الليبي عن هشاشة لا مثيل لها وفوضى عارمة حتى بتنا في وضع فيه ما فاق التوقعات من الصراعات القبلية والجهوية والتقاتل الداخلي فلم نعد نعرف معه من يحكم من هناك. كما يتخبط الوضع المصري في أزمات اقتصادية معيشية أمنية في ظل حكم الحزب الواحد الذي يحظى برضى السياسة الأميركية لكنه يفتقد المصداقية والفاعلية والعطف الجماهيري. كما يبدو الوضع اليمني بعد الإطاحة بعلي عبد الله صالح في حال مؤسفة من التمزق القبلي والجهوي في ظل غياب أي إصلاحات جدية تطاول مؤسسات الدولة وتؤمن للطبقات الشعبية الشغل والخبز والدواء؛ فإذا كان مهماً مطاردة “القاعدة” فمهم أيضاً إرساء الوفاق الوطني والعدالة الاجتماعية.

وتستأثر الثورة السورية وقد مضى عليها 18 شهراً باهتمام الشعوب العربية وقواها الحية ونخبها الطليعية، بل المجتمع الدولي بأسره. وتقترب الأزمة السورية بسرعة من نهاية عامها الثاني، بكل مآسيها وهذا الكم الهائل من الدمار والدماء والأشلاء وهذه الفظائع التي تفوق الوصف من إعدامات ميدانية واغتصاب وحرق الأحياء وتمثيل بالجثث وممارسة التعذيب والذبح والتصفية… فالنظام الأسدي يخوض حتى رمقه الأخير حرباً داخلية شاملة لتعطيل الحلقة الأخيرة من الربيع العربي. ليس هذا فحسب، بل يعمد الى ابتكار شتى أنواع الكذب والتضليل والمراوغة والتلاعب لزعزعة المعارضة الثورية السياسية والمسلحة وإجهاض كل مبادرات المجتمع العربي والدولي.

إن التنوع والتمايز في صفوف المعارضة داخل سوريا وخارجها ليبدو أمراً طبيعياً ومألوفاً عندما نراه بالمنظور الثوري ومنطقه السليم، تماماً كما كانت عليه حال الثورات عبر التاريخ وبالأخص الحديث والمعاصر. فالثورة الفيتنامية كما الثورة الجزائرية ومن قبلهما الثورة الروسية والفرنسية كلها كانت جبهات ضمت في صفوفها قوى وأحزاباً وحركات متنوعة متعددة ولم تكن عناصرها المكونة اطلاقاً متطابقة متأحدة (standardize) ذات لون سياسي واحد ولغة سياسية واحدة كما يحلو لنا أن نتصور ونشتهي. إنما ما كان يجعل منها جبهة واحدة هو برنامج الحد الأدنى الثوري أو مجموعة الاهداف الثورية المرحلية. إلا أن خصوصية الثورة السورية وخصوصية الحياة السياسية السورية في ظل النظام الأسدي على امتداد أربعين سنة من الحكم الديكتاتوري الفاشي يثير الآن نقاشات حادة. فقد تطلب نشوب الثورة السورية جهوداً جبارة وتضحيات هائلة بذلتها النخب السياسية من مثقفين وأكاديميين ونقابيين وأحزاب وحركات سياسية متنوعة متراوحة ابتداء من الراديكاليين الى المعتدلين الى المعتدلين جداً. وقد استطاع النظام الأسدي المستند الى ورم متشعب من حكم المخابرات وأجهزة القمع والمعتقلات وتسلط فئوي عائلي محكم، أن يدجّن ويصادر ويلغي أي حياة سياسية وأي معارضة ويصادر جميع مؤسسات المجتمع المدني. لذا كان طبيعياً أن يتشكل ثقل المعارضة وجسمها الرئيس خارج سوريا في وقت بدت فيه معارضة الداخل السوري إما خجولة أو ملتبسة تثير تساؤلات محقة في حين ومجحفة في حين آخر. وقد لعب نظام بشار الأسد بإتقان على هذه التساؤلات مستهدفاً ثقة الجماهير الشعبية بالمجلس الوطني والجيش السوري الحر، ومستنبتاً رموزاً مختلفة في صفوف معارضة الداخل وبالأخص التنسيقيات الوطنية التي تضم في صفوفها في آن معاً معارضين شرفاء وعملاء مدسوسين من قبل النظام الأسدي نفسه الذي لا يحتمل اي معارضة جدية قط.

وتُطرح الآن أكثر من أي وقت مضى أسئلة باعثة على القلق نظراً لأهميتها وخطورتها لأنها تشكل تحديات جسيمة للثورة السورية ومهامها العاجلة من قبيل “ما العمل للحؤول دون أن تعتري المعارضة أي انشقاقات في صفوفها الأولى وطليعتها الأمامية، حتى لا يطول عمر النظام، فلا تضيع الفرصة التاريخية بإسقاطه؟” وكذلك “كيف بالإمكان اجتذاب واحتضان وضم النخب من معارضة الداخل الى جبهة المعارضة الواسعة وتطويق وعزل العناصر المدسوسة التي زرعها النظام الأسدي في صفوف هذه التنسيقيات؟” “ألسنا الآن بحاجة ماسة الى جريدة مركزية وتلفزيون وإذاعة مركزيين تقوم بمهمة ايصال الوعي السياسي ونشر الدعاية الثورية فتطاول كل مدينة وقرية سورية فتربطها بالقيادة الثورية؟”.

إن الرهان على المخاض الثوري المحتدم وعلى الحتم التاريخي في سقوط النظام الأسدي وحده ليس كافياً، بل مطلوب العمل على نشر الوعي بضرورة التعبير بكل الوسائل المتاحة والممكنة وتعجيل المهمة الملحّة، واقتناص اللحظة التاريخية والظروف الدولية المناسبة، لإسقاط هذا النظام. في ذلك يضع المكافحون السوريون حداً للبطش الوحشي ولإراقة المزيد من الدماء والدمار الهائل الذي يلحق بالشعب السوري، ويحققون انتصار الثورة وقضاياها العادلة فيشهدون بذلك ولادة سوريا شابة من طراز جديد.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى