صفحات الرأي

المواطَنَة والأقليّات العرقيّة والدينيّة في الوطن العربي – سورية نموذجاً/ رفيق الأحمد

 

 

أخذ موضوع الأقليّات يفور في شكل ملفت للنظر في المنطقة العربية منذ أواسط القرن الماضي، وتعود غالبيّة الدراسات في هذا الموضوع إلى مصادر غربية أو بتمويل غربي، واهتمام إسرائيلي كبير، لا سيما بعد عدوان حزيران (يونيو) 1967.

تباينت مجتمعات العالم العربي في عدم تقبّل مفهوم الأقليات، العرقيّة أو الدينيّة، استناداً إلى منطلقين:

1- العقيدة الإسلامية التي تعدُّ جميع بني البشر أمة واحدة «وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ» (الحجرات 13). على رغم وجود تعدديات عرقية وتكتلات على أساسها، كثيراً ما كانت تؤدّي إلى حروب وانقلابات ومذابح.

2- القومية العربية استناداً إلى التركيز على التوجّه الإنساني للفكر القومي العربي. مع الإشارة إلى أنّ هذا الفكر تماهى مع العرب المسيحيين الذين رأوا في الفكرة القومية طريقاً للخروج من ظلّ النظام الملّي للدولة العثمانية، ولهذا فقد اكتفى القوميون بتجنّب التعامل مع الأقليات، كأنها غير موجودة (وفق أحمد جباعي في أطروحات أولية حول تجديد الفكر القومي).

وقد حاولت غالبية مجتمعات الأقطار العربية في المشرق والمغرب تجاوز مفهوم الأقليات الدينية أو المذهبية (في المشرق، لا سيما بلاد الشام والرافدين) والعرقية (في البلدان المغاربية) منتقلة إلى تبنّي المواطنية التي تعني الرابطة التي تجمع الأفراد والجماعات بكيان الدولة من حيث الحقوق والواجبات والمسؤوليات، الأمر الذي يجعل المواطن الفاعل الأساسي في ممارسة السلطة من طريق المؤسسات الشرعية من دون أن يلغي ذلك انتماءاته القومية وعقائده الدينية ومشاعره الإنسانية العالمية.

يرى الدكتور سعد الدين إبراهيم عالم الاجتماع المصري من خلال الدراسة التي أجراها مركز ابن خلدون، أنّ الأقليات العرقية أو الدينية، سمة أساسية من سمات الوطن العربي. ويقدر أن 15 في المئة من سكان المنطقة العربية هم من الأقليات.

ومع عدم قبول تعبير الأقليات في إطار المواطنية والحياة السياسية الديموقراطية، التي تشمل حرية الفكر والعقيدة، والتي تدغدغ أحلام المواطنين في جميع الأقطار العربية، وشكّلت الركن الرئيسي لانتفاضات الحراك العربي، فإنّ دراسة الواقع السوري يمكن أن تقدّم صورة واضحة عن المواطنة في الأيديولوجيا العربية المعاصرة، وتشكّل إجابة لحملات إبراز الأقليات والدفاع عنهم، غطاءً لعدم وصول الحراك العربي القائم إلى شاطئ الأمان، وتحقيق المبتغى من الحرية والعدالة الاجتماعية.

تشكّلت سورية المعاصرة كجزء أساسي من بلاد الشام نتيجة فشل قيام الملكية الفيصلية من جهة، وللاتفاق الفرنسي البريطاني على تقسيم بلاد الشام والعراق في ما بينهما وفق معاهدة سايكس – بيكو، من جهة أخرى. وبقيت تحت الانتداب الفرنسي منذ 1920 وحتى السابع عشر من نيسان (أبريل) 1946.

وقد سادت طيلة هذه المدة حالةٌ من الثورات والمقاومة ضد الوجود الفرنسي، قادها وشارك فيها شرائح المجتمع السوري جميعاً بمختلف انتماءاتهم العرقية والدينية، وإذا ما طبّقنا معايير مفهوم الأقليات ومصطلحه (وفق الدراسات الغربية ودراسة د. إبراهيم سعد الدين)، فنرى أن سورية الحالية ضمّت غالبية مسلمة من حيث الانتماء الديني و (سنيّة) من حيث الانتماء المذهبي، على رغم أنّ التعبير المذهبي لم يكن متعارفاً عليه أو مستعملاً لدى الغالبية العظمى من السوريين بحكم قبول كل من يقول أنّه مسلم بالإسلام. عليه، فقد كان (العلويون – النصيريون) الذين يشكّلون حوالى 10 في المئة من تعداد السكان، وكذلك (الدروز الموحدّون) 3 في المئة، والإسماعيليون (بزعامة الآغا خان) 1 في المئة يصنّفون جميعاً داخل التعداد الإسلامي، من دون اعتبار للمذاهب. أمّا المسيحيّون، و (الذين يعدّون وفق النظرة الإسلامية الأقرب استناداً إلى الآية القرآنية الكريمة في سورة المائدة 82) «ولتجدنّ أقربهم مودّة للذين آمنوا الذين قالوا إنّا نصارى ذلك بأنّ منهم قسّيسين ورهباناً وأنّهم لا يستكبرون». ووفق الحديث النبوي: «لهم ما لنا وعليهم ما علينا»، وذلك، بمختلف مذاهبهم من أرثوذوكس وكاثوليك وإنجيليين (بروتستانت)، فيشكلون حوالى 10 في المئة أيضاً، مع اختلاف في توزعهم الجغرافي، حيث يتوزع المسيحيون في كل البقاع السورية خلافاً لتجمّع العلويين في مناطق محددة (الجبال الساحلية السورية، والتي أخذت اسمهم) وكذلك الدروز (السويداء ومنطقتها) والإسماعيليين (السلمية والقدموس).

أمّا الأقليات العرقية التي لم تكن تمثّل أيّ خلاف اجتماعي بحكم ما ذكرته عن تبنّي مفهوم المواطنية من جهة، وعن مفهوم وحدة الأمة من جهة أخرى، والتي تمثّل الحقوق والحريات العمود الفقري لمفهوم المواطنيّة الجامعة للأفراد جميعاً، في وعاء الدولة المجسّدة في الحقوق والواجبات.

فلقد كان الأكراد يشكلون النسبة الأكبر 10 في المئة (مسلمون) يليهم بنسب أقل السريان (مسيحيون) والأرمن الذين هاجروا إلى بلاد الشام هرباً من الاضطهاد الذي لحقهم ببلدانهم، ووجدوا في ملجئهم ملاذاً آمناً بحكم تقبّل مجتمع هذه البلدان للنازح المسالم والمحتاج، يضاف إليهم الشركس والألبان والآرناؤوط والكريتيون (جزيرة كريت اليونانية) والتركمان، وغيرهم. والمعروف أن أكبر الأحياء الدمشقية هو حي المهاجرين، والذي يضم مهاجرين من أقوام مختلفة وجدوا بدمشق (الشام شريف) ملجأً آمناً وسكناً مريحاً بحيث تحوّلوا إلى مواطنين سوريين متساوي الحقوق والواجبات كما الأكراد (في شكل خاص في حي الأكراد – ركن الدين بدمشق – وعفرين بريف حلب) والعرب وجميع الأعراق الأخرى.

عليه، فقد برز من جميع شرائح المجتمع السوري زعماء وثوّار قادوا العمل الثوري والسياسي من أجل استقلال سورية وحريتها وتأسيس حياة سياسية ديموقراطية برلمانية، فكان سلطان باشا الأطرش (درزي) قائداً للثورة السورية، وكان إبراهيم هنانو (كردي) قائداً لحركة المقاومة والثورة في حلب وجبل الزاوية في منطقة إدلب، وزعيماً للكتلة الوطنية حتى استشهاده، وكان د. عبدالرحمن الشهبندر من أبرز المقاومين والخطباء والزعماء الدمشقيين، وكان فارس الخوري (مسيحي) زعيماً بارزاً في الحركة الوطنية والعمل السياسي والديبلوماسي فانتخب رئيساً للمجلس النيابي بعد إعلان استقلال سورية، ووزيراً للخارجية وممثلاً لسورية في مؤتمر وضع ميثاق الأمم المتحدة بسان فرنسيسكو، كما كان الشيخ ناصر الدين الألباني والشيخ عبدالقادر الأرناؤوط وليون زمريا وميخائيل إليان وهاشم الآتاسي ومحمد سليمان الأحمد (بدوي الجبل) وغيرهم كثر جداً، من أبرز الأسماء بين السياسيين والعلماء والشعراء والمحدّثين، فلم يكن هناك تفكير أو تفرقة أو شعور بالانتماء لأقلية، على رغم محاولات المندوبين الفرنسيين والدعايات والمحاولات التقسيمية.

وبقي الشعب السوري متمسّكاً بوحدته ضمن مفهوم المواطنية السورية وتقاليده الاجتماعية الحميميّة.

مع استلام البعث السلطة نتيجة الانقلاب العسكري ضد سلطة انفصال الإقليم السوري عن الجمهورية العربية المتحدة، ونتيجة للدعم الذي حظي به تنظيم البعث السوري من بعث العراق الذي استلم السلطة نتيجة الانقلاب العسكري الذي أطاح حكم عبدالكريم قاسم في الثامن من شباط (فبراير) 1963، أي قبل شهر واحد من الانقلاب السوري وبرز من قادة البعث فيه (علي صالح السعدي) وعدد من رفاقه البعثيين المتعصّبين للحزب، فقد استطاع البعث السوري إبعاد القوى الوحدوية التي شاركت في الانقلاب ضد سلطة الانفصال، بتسريحها وهي موفدة إلى العراق للتنسيق معه عسكرياً، ومن ثم اعتقالها أو تصفيتها، ونتيجة للتعصّب الأيديولوجي الذي تبناه الحزب ولغالبية أبناء الطوائف (غير السّنّية) التي بقيت ملتزمة التنظيم البعثي بحكم توجه غالبية أبناء الشعب السوري إلى الاتجاه الوحدوي (الناصري في ما بعد) والمؤيّد استمرارَ أو إعادة توحيد الجمهورية العربية المتحدة. فقد اشتدّ التعصّب المناوئ للوحدة السابقة خشية هيمنة الغالبية المسلمة (السنّية بحكم التكوين المجتمعي المصري) وتمّ رفع شعار لا وحدة من دون شروط مسبقة تضمن استمرار شخصية كل قطر. وهو ما حاول البعثيون مراعاته من خلال محادثات الوحدة الثلاثية بين مصر وسورية والعراق، والتي توصّلت إلى ميثاق السابع عشر من نيسان 1963، والذي لم يرَ النور في ما بعد بسبب استمرار هيمنة الفكر الحزبي البعثي على سورية والعراق، والذي أدّى إلى النتائج الحاصلة الآن (والتي تحتاج إلى دراسة خاصة ومعمّقة).

لقد أوجدت هذه الحالة فكراً طائفياً من نوع جديد على رغم شعارات، العلمانية والتقدمية، فقسّمت المجتمع السوري وفق الدراسات المخابراتية الطائفية إلى مذاهب، وأعراق، وريفي، ومديني، وعشائري، وقبائلي، وأشياء ومسميات أخرى أسوأ مما ذكرت بكثير، أخلاقياً واجتماعياً.

لقد تمّ، لا سيما، بعد استلام حافظ الأسد الحكم في السادس عشر من تشرين الثاني (نوفمبر) 1970، والذي أطلق عليه اسم الحركة التصحيحية (ويقصد تصحيح مسيرة البعث) ترسيخ توزيع المناصب القيادية الحزبية والحكومية والوظائف العليا وفق نسب التوزيع الديني المذهبي، فأعطى للعلويين كحد أدنى في البداية وزيرين في الحكومة تمت زيادتهم في ما بعد من دون حساب. وأعطى للمسيحيين وزيرين من مذهبين مختلفين غالباً، وللدروز وزيراً واحداً وكذلك للإسماعيليين، ولم يعط للتوزيع العنصري أيّ حساب، وأعطى التوزيع نفسه لمناصب القيادات البعثية التي عاملها على أنها مساوية للمناصب الحكومية من حيث الرواتب والتقاعد مع التقدم عليها بروتوكولياً، بحكم ما نصّ عليه الدستور الدائم في قيادة حزب البعث للدولة والمجتمع. وهو ما أثار خلافاً بين القوى التي رحّبت بحركة حافظ الأسد في البداية، فاعترض د. جمال الأتاسي من داخل الجبهة الوطنية واللواء محمد الجراح من خارجها على نص هذه المادة. في حين أصرّ حافظ الأسد عليها، تشبهاً بقيادة الأحزاب الشيوعية، فانسحب الأتاسي وطُرد من كلية الطب بجامعة دمشق، وسُجن الجراح، وتم تشكيل الجبهة على هوى البعث وقيادته وفق ما أراده الأسد (حزب البعث قائداً للجبهة، والحزب الشيوعي السوري، والاتحاد الاشتراكي العربي بقيادة جديدة فرضها حزب البعث بواسطة مخابرات أمن الدولة وتعيين فوزي الكيّالي أميناً عاماً بدلاً من الأتاسي، والوحدويون الاشتراكيون بــشقـيّـهم إسماعيـــل ومـــصطــفى، والاشتراكيون العرب – بقايا تنظيم أكرم الحوراني بشقيهم، قنّوت وعثمان). وقد ترأس القيادة المركزية للجبهة حافظ الأسد وعيّن نائباً له محمود الأيوبي.

بدأت بعد فترة بسيطة لعبة تفتيت الأحزاب وتقسيمها فانقسم الحزب الشيوعي إلى تنظيمين (بكداش وفيصل) وإبقاء تنظيم رياض الترك خارج الجبهة بتنظيم أخذ اسم حزب العمل الشيوعي واعتقال الترك ونائبه، كما انقسم الوحدويون الاشتراكيون إلى قسمين (إسماعيل والأسعد بعد إعادة جناح أدهم مصطفى إلى حزب البعث في شكل فردي) وتمّ ضمّ رئيسي اتحادي العمال والفلاحين إلى قيادة الجبهة (من البعث). وتقسيم الاتحاد الاشتراكي العربي إلى تنظيمين بعد إبعاد الكيالي عن قيادة الجبهة وطرده من الاتحاد لمعارضته سياسة النظام في معالجته انتفاضة حماة، (وتشكيل قيادتين جديدتين بإشراف أمن الدولة الأول لحمادة والقاضي والثاني لجعيداني والقدسي).

ومع تقليل الاهتمام بالجبهة، مع تنامي التركيز على قيادة الأسد، صارت رئاسة اجتماعاتها تتم من نواب الرئيس التي تتالى عليها بعد خفوت نجم الأيوبي كل من زهير مشارقة وسليمان قدّاح، بحيث تحوّلت الجبهة، في أعين جميع المواطنين، إلى ديكور تزييني لمظهر التعددية السياسية، مع امتيازات لأعضائها، جعلتهم يتمسّكون بها، خشية فقدانها، في ظل حرمان لغالبية أبناء الشعب، ومنعٍ من استيراد السيارات إلّا باستثناء رئاسي!

والسؤال المثار في شكل كبير هو، هل إحياء فكر الأقليات من النظام السوري كان نتيجة لانتماء الأسد إلى إحدى طوائف المجتمع السوري المندرجة، وفق ما تثيره الدراسات الغربية، إلى قائمة الأقليات، وعدم أحقيّة الأسد بالرئاسة (لا وطنياً ولا طائفياً) ورغبته بتفتيت المجتمع السوري وإلهائه بقضايا مختلفة (كما مدرسة القذافي) مع استمرار حرمان الشعب من حريته وتحويل حيويته ومهارته المعروفة إلى اتجاهات سلبية أخرى؟ أم إن ذلك يعود إلى نصائح غربية تمت من خلال اجتماعاته مع هنري كيسنجر أثناء محادثات فكّ الاشتباك في أعقاب حرب تشرين 1973، يؤمّن من خلالها تطبيق النظرية الإسرائيلية في ترسيخ مفهوم الأقليات الدينية في المنطقة كلّها، ويضمن رضاها عنه؟

إنّ شعار الثورة السورية القائمة منذ بدايتها كان رداً واضحاً على محاولات التفرقة فارتفع بقوة صوت الثوار – واحد واحد واحد الشعب السوري واحد – إلّا انّ التأثير المخابراتي الأمني للنظام ومساعدة جهات خارجية عن قصد مصلحي أو بانسياق وراء دعايات وتخوّفات منذ أحداث 11 أيلول (سبتمبر) لا أثر لها بالأساس لدى الشعب السوري. كلّ ذلك استطاع أن يرفع من تخوّف بعض أتباع المذاهب (الأقلوية) بحيث جعل العالم يتوقف عند هذا الأمر محتجاً به مع استمرار (بقايا النظام) في القتل والتدمير واللعب بالتفجيرات من مكان إلى آخر، بقصد إحياء مشاعر الخوف (الأقلوي)، ما أدخل الثورة السورية في أنفاق مربكة وممرات ضيّقة بين الثأر لضحاياها والحاجة إلى أي مساعدة، وبين المحافظة على مفاهيمها الوطنية الجامعة، والتي انتفضت وثارت على أساسها.

* كاتب سوري

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى