صفحات الرأي

الربيع العربي إذ نقرأ في الزمن الخطأ/ عبد الحميد سليمان *

بعيداً من أنماط التفكير القسرية، ومحاولاتها الخرقة لفرض عجزها على الواقع، تبدو المحاولات الخجولة لقراءة الظاهرة التي مثّلها الربيع العربي قاصرةً بأي حال، وتحمل في صلبها كماً من التناقض يُعوّل عليه لنقضها، الأمر الذي يجعل الظاهرة بحدّ ذاتها تبدو عصيّةً على التنميط، وعصيّة بالتالي على الفهم العلمي، ربّما لأنّ التنميط العلمي للظواهر السياسية هو السبيل الأوحد إلى فهمها، وإلى توقع مآلاتها المستقبلية في ضوء ذلك. إسقاط التنميط من ناحيةٍ أخرى، والتعذّر بتركيب الظواهر الراهنة للهروب من محاولة ابتداع أنماط فكرية تحوطها، لا يدلان إلى فهمٍ أعمق أو حتى نظرةٍ أكثر شمولاً، وإنما يدلان ببساطة إلى كسلٍ، عجزٍ، أو حتى خوف من المغامرة التي يجدر بالسياسة، لكونها عِلماً، أن تخوضها في سبيل فهم الظواهر التي تدرسها.

هل هو ربيعٌ حقاً؟ السؤال بهذا المعنى يستبطن بحثاً أجوف على أي حالٍ عن حُكمٍ قِيَمي… هل هو جيدٌ أم سيئ بهذا المعنى؟ الأمر يشبه إطلاق حُكمٍ قِيَمي خارج الزمن على روبسبيير والثورة الفرنسية؛ لعلّ من الأجدى أن نسأل: هل كان خياراً أخذته المجتمعات التي احتضنته وتدفع راهناً تبعاته، أم أنّه كان تطوراً محتوماً عليها؟ مصطلح «الربيع» حتى… يبدو مضللاً، مرةً أخرى، لأنّه يهمل عامل الزمن، ويستحضر بالتالي في قاعه المعرفي مراحل تاريخية «أكثر تطوراً أصلاً» عبرتها المجتمعات البشرية في أوروبا الشرقية حيث «ربيع براغ».

الموازاة بين الظاهرتين تغض الطرف عن حقيقة أننا لم نزل بعيدين من ذلك الذي حدث هناك في أوائل التسعينات من القرن المنصرم. ما يحدث في بلادنا اليوم يبدو أقرب زمنياً إلى إرهاصات التفتح الأول للوعي الأوروبي في نهاية العصور الوسطى. وبهذا المعنى، يمكن الموازاة السابقة أن تغدو أكثر منطقية عندما تتم المقاطعة بين ثورة الاتصالات، شبكات التواصل الاجتماعي، وما حملته معها من فيض مدخلاتٍ معرفية على هذا الجمود الذي كنا فيه، مع مطبعة كوتنبرغ وما تبع ذلك التراكم المعرفي المشابه حينها من خلخلةٍ للستاتيكو المجتمعي الذي كان قائماً في أوروبا.

إسقاطنا المتكرر لعامل الزمن يجعل من تساوي البشر مقولةً خرقة، ربّما لأنّ الأمور ليست بتلك البساطة أولاً، وربّما لأنّ المرء حين يسافر من الجنوب إلى الشمال أو من الشرق إلى الغرب، فهو لا يعبر الجغرافيا فحسب، وإنّما يسافر عبر الزمن أيضاً. الأمر في تلك الحدة، ثمّة بشرٌ آخرون سبقوك زمنياً، يعيشون في زمنٍ آخر؛ مرحلةٍ أخرى من تطور النوع البشري، وهم بالتالي تحكمهم قيم ذلك الزمن الأكثر تطوراً. المساواة بهذا المعنى تنتهي عند حدود توقع المستقبل، بحكم أن الجميع سيصلون في النهاية، وبحكم أن المسار التطوري واحدٌ لأن النوع البشري واحد، ولكنّ المساواة تصبح بأي حالٍ مجحفة حين نسقط عامل الزمن، وسائل الإنتاج، أو حتى منظومة القيم التي تحكم الأزمان المختلفة التي تعيشها المجموعات البشرية المختلفة.

وسائل الإعلام والتواصل من ناحيتها، ومهما بدت مؤثرة، فإنّها لا تلغي الهوّة الزمنية، ولكنّها تعطي المجتمعات التي تعيش في زمنٍ «أقدم» القدرة على رؤية المستقبل الذي تعيشه راهناً في زمنٍ «أحدث» مجتمعاتٌ أخرى، يبقى على المجتمعات – أو نُخبها بدايةً – أن تنظر في شكل العجلة التي يمثلها التطور، تتمعن فيها جيداً، وتحاول إعادة اختراعها. وبمقدار ما قد يترتب على هذا القول من تبعات، فلا مناص من إعادة اختراع العجلة، في كلّ مرة، وفي كلّ زمن، السرعة مقرونةٌ على أي حال بقدرة النخب على فهم العملية التاريخية، والتصرف تباعاً على هذا الأساس.

القيم ليست مطلقةً أيضاً، أقلّه عبر الزمن، لأنّ القيمة الأخلاقية هي نتاجٌ للتطور، وليس التطور نتاجاً لها. بهذا المعنى، يغدو الخطاب الأخلاقي الذي لا ينفك بعض مثقفينا عن طرحه لا أخلاقياً، ربّما لأنّه يستعير أخلاق المستقبل الذي يعيشه الآخرون للحكم على تطور الحاضر الذي نعيشه. والأمر لا يقل خطورةً بأي حال عن الحكم على الحاضر بأخلاق الماضي، كلاهما منفصلٌ عن الواقع، وغير ناجعٍ على أي حال، لعلّ من الأفضل السعي إلى سوق خطابٍ يستند إلى المصالح التي يفرضها التطور، هذا عيوشٌ أكثر، أصعب على الإقناع ربّما، ولكن أقدر على التحرر من أخلاق الحاضر ومنغلقاته الفكرية، إلى المستقبل المقروء، وبطبيعة الحال… ممكناته.

قد تكون المصالح الفردية السبيل إلى الخروج من محنة العقل التي نعيشها اليوم، وكذلك صعوبة الفهم التي تفرضها الأزمنة المركّبة التي تعيشها مجتمعاتنا. إعتاق الفرد من المجتمع، وإعتاق التطور من الأخلاق، قد يكون السبيل لبناء أوطانٍ جديدة تقع في زمنٍ واحد، وتحكمها مصالح الأفراد لا أخلاق المجتمع، هذا قد يقود إلى تسهيل العملية التاريخية المعقدة والضرورية لإعادة اختراع العجلة.

* كاتب سوري

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى