صفحات الرأي

المِلَل والدول/ حسام عيتاني

 

 

بكّر كتّاب عدة في المشرق العربي في ملاحظة الاستعصاء الذي وصلت إليه محاولة بناء دولة وطنية على أساس مجتمعات الملل العثمانية. التجربة التي باشرتها ثورة «جمعية الاتحاد والترقي» سنة 1908 والفشل الذي واجهها، ما زال يعيد نفسه بأوجه مختلفة في بلادنا وبكلفات باهظة.

منذ حوالى القرن يدور المشرق العربي في حلقة مفرغة من التجارب المتناسلة والمتداخلة تداخل الأفاعي في سلة الحاوي. تتغطى الأنظمة العشائرية والطائفية بغطاء الدولة الوطنية الذي سرعان ما تُظهر ثقوبه عورات الحكام «القوميين» و «العلمانيين» و «الثوريين» وتبين حقيقتهم كزعماء عشائر لم يتخلوا قيد شعرة عن ولاءاتهم ومشاعرهم ومصالحهم التي حملوها إلى قصورهم الجمهورية من أرياف أنهكها الفقر والاستغلال والجهل.

أرادت «الاتحاد والترقي» في بدايات عهدها بناء مثال إنساني عالمي. ومن يقرأ بياناتها الأولى ويرى ملصقاتها الدعائية يعتقد أنه أمام حلقة مكملة للثورة الفرنسية أو لثورة كرومويل في إنكلترا. لكن حقائق الملل سرعان ما تغلبت على أوهام الضباط الاتحاديين الشبان الذين انقلبوا دعاة تصفيات ومرتكبي مذابح وحملة عقائد شوفينية. وها نحن نشهد اليوم مأزقاً جديداً للوهم الذي أورثه «الاتحاديون» لمصطفى كمال أتاتورك عن إمكان بناء دولة وطنية تفرض هوية ثقافية وسياسية مشتركة ومتجانسة بقوة مؤسسات القسر والإكراه. بعد المأساة الأرمنية، تأتي المعضلة الكردية لتقول أن من المحال نجاح مقايضة انتماء وطني مفترض بقمع الهوية، خصوصاً إذا ترافقت هذه المقايضة مع التفاوت الاجتماعي الهائل والغربة الشديدة بين المدينة والريف وجملة طويلة من عوامل تصعيد الاحتقان ودفعه إلى الانفجار.

وكلما ظننا أننا اقتربنا خطوة من تسوية كبرى تقوم على التفاوض والاعتراف المتبادل والاحتكام إلى صناديق الاقتراع، سواء في المشرق العربي أو فلسطين أو تركيا، كلما كانت الانتكاسة إلى الاقتتال الأهلي والعنف الطائفي والمذهبي والقمع السلطوي أعمق وأخطر وفاتحة لتدخلات أجنبية أكثر وقاحة، على ما نشهد في العراق وسورية ولبنان واليمن.

وليست نادرة البدايات الواعدة لمحاولات التغيير في العالم العربي التي انقلبت استحواذاً عنيفاً ودموياً على السلطة وحوّلت وعود العدالة وإحقاق الحقوق وتحرير فلسطين إلى أدوات لتعميق الانقسامات الطائفية والجهوية والطبقية. الفشل العميق في إقامة دولة في أي من بلدان المشرق العربي واستحالة العودة إلى نظام ملل محسّن ومعدل، على ما حاول لبنان في اتفاق الطائف ووصل بمحاولته إلى الطريق المسدود الحالي، يضع المعنيين بالشأن العام أمام سؤال الجدوى والمعنى من وجودهم أولاً، وسؤال الأهداف والمشاريع التي يخدمون وما إذا كانوا يؤدون دور «الغبي المفيد» في بلاطات القوى الطائفية والمذهبية القابضة على أرواح شعوب هذه المنطقة.

لا تحمل الديموقراطية الطمأنينة إلى الأقليات المذعورة التي لا تأمن من غدر الأكثرية – وكل أكثرية عندنا دينية وليست أكثرية سياسية خلافاً لرغبات الديموقراطيين- ولا تنال دعوات العلمانية، حتى بحدها الأدنى، تأييد مجتمعات يشكل التدين أحد أشكال وعيها الأوسع تأثيراً، في حين أن الفيديرالية مرذولة باعتبارها استسلاماً أمام مشاريع تفتيت المنطقة (الموحدة جداً حالياً؟!).

أمام انسداد الأفق المأسوي هذا، يقترح علينا البرلمان العراقي تشريع القوى الرديفة، «الحشد الشعبي»، كأنه يقول إن تأبيد الحروب الأهلية الطائفية والمذهبية وتدمير هذه المجتمعات حتى أساساتها، هو الطريق الوحيد المتاح.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى