أحمد عمرصفحات الناس

بالأحضان يا ناتاشا/ أحمد عمر

 

 

 

كلما تذكرت جارتي الموسكوفية  الوافدة ناتاشا اليسارية بكت عيني اليسرى… ناتاشا كانت  شيوعية، ملحدة، جمالها كفّار زنيم، وتحبُ أعياد الميلاد التي يحتفل الزملاء الرفاق الموفدين بها يوميا! عيد الميلاد مهنتها هي وبنات جيلها.  كلما تذكرتها قلت: بوتين فدان، الفدان ثور، الشعب الظريف نقل مثابة المكان إلى  مثابة الحيوان، فكان الثور بوتين هو الفدان.

فتحت عيني فوجدت نفسي فرداً  منفياً في مجتمع من خريجي جامعة الصداقة السوفيتية  الجديد، هجموا  كالتتار على الوظائف الحكومية، وتبؤوا المناصب العليا وبدأت عملية الإفساد في الأرض. الملاحظة الأولى السافرة هي أنهم جميعاً من أقلية التوتسي السورية، وكان بين  الدفعة الأولى العائدة بالشهادات الجامعية من الاتحاد السوفيتي “المنتوش” واحد فقط لا غير، من طائفة  الهوتو السورية! حتى إذا هبّ أحد أبناء الهوتو معترضاً على التمييز الطائفي السافر، ردّ المندوب التوتسي عليه، إذا لم يبادر إلى اعتقاله وشحنه إلى الآخرة: هذا واحد من طائفتكم. وكان هذا  الواحد اسمه إسلام!! هل راًيتم مساواة  أكثر من هذه !

إسلام كان شاباً تقياً، أوفد معهم، وصبر شهراً  صائما عن حوريات الروس العين، ثم ضعف ولان عزمه وركع أمام كثبان اللحم وقبابه،  ووجد فتوى لنفسه: الروسيات سبايا!  أكبر ملحمة مناكحة عربية وقعت في روسيا  لكن أحدا لم يلمزها أو يهمزها بسوء أو يطلق عليها لقبا مثل نكاح الايديولوجيا!

الملاحظة الثانية هي أن الموفدين استحقوا لقب حملة شهادات علكة التشيكلس. تصدّر الرفاق العائدون بعد العودة الظافرة، يحدثون مثل الوعاظ في حلقات الذكر، دعاةً لمغامرات ودين اللذة، ويسردون علينا أخبار بطولاتهم في بلاد  النساء البيضاوات كالثلج،  الحلوات كراحة الحلقوم،البضات كنبض الضوء، ويحكون كيف رَشَوا  مدرس المنهاج  الفلاني بعلبة تشكليس، معقول! هذه الدولة التي ترسل سفناً إلى الفضاء لا تستطيع صناعة علبة علكة،  وهي البضاعة الأولى في سوريا إنتاجاً! فإعلانات العلكة على التلفزيون السوري هي الأولى، إنها أشهر بضاعة في بلد المقاومة .. أما علبة المارلبورو المهرّبة إلى الاتحاد السوفيتي،  فهي كنز استراتيجي، وأسطورة، يحتفظ الروسي بالعلبة ويحنّطها للذكرى! وإذا رأى مدرس المادة الجامعية السوفيتية  بنطلون جينز بازغاً متلألاً، فقد يخرُّ مغشياً عليه من صدمة الحضارة ويحترق بالتعويذة الأمريكية!

وكان الرفيق “توتسي كولا” يجلس ويحدثنا عن أمرين متلمظاً ومثخناً بالذكريات؛  الغنائم التي كان يحضرها في كل صيف  من بلاد حوريات الشيوعية العيْن، وهي بضائع روسية مثل الكاميرات الروسية التقليدية اليدوية، وعلب الشطرنج الفاخرة، وعلب الكبريت العملاقة، وأكياس الجوز والكستناء.. و  حديث الفتوحات على ضفاف البحر الأسود . كان يقول: رفاق .. كنت يومياً أحتفل بعيد ميلادي! كان لي 364  عيد ميلاد في السنة غير الكبيسة؟

لم نفهم .. اشرح لنا هذه المعادلة، أتكون طائر الفينيق الذي تسرده علينا أساطير الأولين الكفرة يا رفيق؟

في اليوم الثاني من وصولنا إلى ديار ناتاشا، شرح لنا الرائدون السابقون علينا، وصفة  إعداد  وجبة الحور العين على مائدة  الملذات. الحور العين التي تتهم الجماعات السلفية بالشغف بها، أخروية، أما نحن فظفرنا بها في الدنيا، من غير تقوى أو جهاد. ما عليك سوى أن تقوم بدعوة الزميلات لحضور حفلة عيد ميلادك، والطعام والخبز المحلّى المنفوش الذي تزرع فيه الشموع كالرماح رخيص، وبعد النفخة المقدسة على نيران الشمع،  يعتم المكان، وتشتعل نيران اللحم بالشهوات، ويحمى  الوطيس وتحمر الحدق، ويختلط الحابل بالنابل، وتصير الناتاشات على الأكتاف.. وحي دو .. نحن البعثية حي دو..

على الأكتاف؟ أمظاهرات في عيد الميلاد يابروتوس؟

نعم مظاهرات، مظاهرات تفدي بالروح والدم ناتاشا، قلعة المجد … دحماً دحماً.

كان الفاتحون السوريون لبلاد  نون النسوة  وتاء التأنيث الحارقة السوفيتي من ملتين هما : جماعة بكداش وطائفة التوتسي الكريمة.  طائفة  بكداش  تظفر بالفردوس عن طريق الحزب الشيوعي، وطائفة التوتسي تغنمها عن طريق حزب  البعث الباطني. لم يخبرنا أحد، كان التوتسيون الحكام  يختارون أبناء طائفتهم ، بعناية، بالروائح  كما الحيوانات أو بالأشعة تحت الحمراء مثل الأفاعي. فلم  نعرف ما طرق  التقدم لمسابقات الوصول إلى تلك البلاد، سريةّ عجيبة،  فتحنا أعيننا صباحا فوجدنا  زملاءنا في الاتحاد السوفيتي ، هناك سرُّ لا نعرفه .  في الجامعات السورية والروسية علم قليل ليس هذا محل بحثه.

الرفيق “خلو” الشيوعي أخرج لنا  أطلس “أحسن التقاسيم في معرفة  أجساد الأقاليم “، كان فيه صور سبع وخمسين  من  الغانيات الروسيات، بيض وشقر وحمر… كنت أجدد فراشي يومياً يا رفاق! وعشنا على الكافيار والفودكا! أحد الرفاق، من كثرة الرباط على ثغور ” الأقاليم” والنفخ على شموع الميلاد، صار يتبول دماً!  رفيقٌ ثانٍ، انكسر معه المحور، محور المقاومة والممانعة،  كان السبب هو سوء التنسيق بينه وبين الناتاشا التي أفرطت في  رد العجز على الصدر بلغة العروض وبحور الشعر ، فكسرت المحور! يشرح  الرفيق الشيوعي  خلاصة أحكام الوقاع: غلط أن يولي المحتفل بعيد ميلاده  دفة سفينة اللذة وغنائم الوطر امرأة، يجب أن يكون هو ربان الحفلة،  فالموج عال، والمحيط كبير، والرياح عاتية..  ما أفلح قوم ولّوا أمورهم امرأة. كانت  الحصيدة  أن ناتاشا أخصت الرفيق من غير قصد، إذ جنحت بها صهوة الشهوة،  فسقطت  من فوق السرج  وأندق رأس الحصان. و إذا كان الطب يوشك أن يعثر على دواء ناجع للإيدز،  فمن الصعب تجبير المحور المكسور، الذي تسميه الكتابات المعاصرة المضحكة، مترجمةً عن تعبيرٍ أعجمي، “العضو الحميم”.  العضوان الحميمان عند الإنسان، في ملتي واعتقادي هما اللسان والقلب. اللسان في “الحب” المعاصر ينوب عن.. المحور ، حقيقةً وتأويلاً، سياسةً وفراشاً.

فتحت عيني إذ همت عيني … فوجدت العشرات من الزملاء العائدين بسبايا روسيات شقراوات، يضربن الخيام، ويتخلين عن البلاد الباردة، ويقررن العيش في هذه البلاد القاسية المقفرة والدافئة. السبب هو أنّ الرب واحد . تذكر الإحصاءات أرقاماً كبيرة عن مصاهرات السوريين التوتسي مع  الروسيات المجنحات تبلغ عشرات الألوف. زواج سريع  بلا مهر، ولا أعراس كبيرة، لا فرق بين العرس وحفلة الميلاد ! ولا أنسباء يغارون على كنتهم، ويفزعون لها في ساعة العسرة. بعض الرفاق بقوا أوفياء  لحفلات أعياد  الميلاد الدافئة هناك، أو لعلهم كانوا يحضرون لهذه اللحظة التاريخية بدهاء .. لحظة بوتين، لحظة الاحتلال بالمصاهرة،  كما حدث مع جواري وإماء خلفاء العصر العباسي والمملوكي. هاهم الروس يفزعون لنصرة كنائنهم الروسيات.. لقد نسي الثور بوتين شيئاً مهماً وورّط نفسه ورطة كبرى .. هو يجهل أن نون النار، نون النسوة تفعل في أمة محمد أكثر من مائة مدفع .. فتورط مع السوريين في أرض المحشر والمنشر بالسيف.. لو اطلق علينا كتائب الناتشات  لفاز وانتصر، فالحرب سجال في الوغى، أما الحروب مع  النساء فهزائم حتمية ودائمة..

فدان ابن فدان.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى