صفحات العالم

“تحرير وتنظيف”


الياس الزغبي

ليس أسوأ من ارتكابات جيش النظام السوري في حمص، سوى الرقص على قبورها في لبنان.

هناك، تدمير وقمع وقتل وسحل واعدامات.

وهنا، حبور وتصفيق وتهليل وتهويل واحتفالات.

واذا كان ولوغ نظام الأسد في الدم أعمى بصره وبصيرته ولم يعُد يُدرك العواقب، فانّ خمرة التبعيّة والارتباط أسكرت ملاحقه وأتباعه في بيروت، ولم يعودوا يعون الأثمان التي سيدفعها النظام الغريق، وكلّ من يتمسّك بثيابه.

والأشدّ سوءا، أنّهم لا يُقيمون وزنا لانعكاس فرحهم بـ”الانتصار” في حمص، على العلاقة الحسّاسة مع شرائح لبنانيّة واسعة، بحيث يتحوّل تهليلهم الى نوع من النفخ في نار الفتنة المتّقدة تحت الرماد.

وهم، بسلوكهم هذا، يذكّرون بتعبيرهم عن فرحهم العلني، أو المكتوم، قبل بضع سنوات، كلّما سقط شهيد من شهداء “ثورة الأرز”: بعضهم وزّع حلوى، بعضهم الآخر سأل عن رقم الشهيد، وبعضهم الثالث استخفّ بشهادتهم ونسَبَها الى غيرة زوجاتهم، أو وصَفهم باللصوص الأحياء!

تلك الشماتة آنذاك أوصلت لبنان الى حالته البائسة اليوم، سياسة وحكومة واقتصادا وأمنا معلّقا وعلاقات مأزومة وعيونا حمراء… مرورا بحرب خارجيّة كبرى وحروب داخليّة صغرى، ليس أقلّها 7 أيّار وقمصان كانون.

وهذه الشماتة، اليوم، الى ماذا ستُفضي، غير الشحن والحقن، والنفخ في الرماد الحارّ؟

ثمّ يحدّثونك عن الفتنة وضرورة مكافحتها!

بل أكثر، يروّجون لنظريّة “النأي بالنفس” عن الأزمة السوريّة.

فلينأوا بأنفسهم، على الأقلّ، عن الاغتباط السافر بمأساة حمص، وعن الحفر في جروح المدن والبلدات الأخرى، والتحريض على تلقينها درس حمص، وقبلها درس حماه بثلاثين سنة.

في حساب الأسد الابن، أنّه يُعيد تجربة والده، بعد 30 عاما، وكأنّ الزمن لم يدُرْ دورته من جيل الى جيل، أو كأنّ اللحظة السياسيّة الدوليّة المرتبكة راهنا، شبيهة بحالة الحرب الباردة وقتذاك.

حساب تُجريه رؤوس النظام الحامية في لظى المواجهات والحرب.

ولكن، ما بالها رؤوس “8 آذار” أكثر حماوة، في حين لا نسمع منها الاّ شعار “الاستقرار” وردح “النأي بالنفس”؟

بحجّة “الاستقرار” يتمسّكون ببقاء الحكومة، ويمرّرون شؤون المحكمة الدوليّة الخاصّة بلبنان.

وبحجّة “النأي” يقتلون روح لبنان وتراثه في الدفاع عن الحقّ والحريّة والعدالة وسائر القيم العليا.

فلماذا يسقط الشعاران على أرض حمص، وتحت جنازير النظام الفاتح؟

لقد ظننّا لوهلة، أنّهم يهلّلون لتحرير الجولان أو حيفا. فاذ بالجيش الباسل يُخلي خطوط جبهة “الممانعة والمقاومة” لوسادات الاحتلال الناعمة، كي يتفرّغ لدكّ ألأحياء الفقيرة في أرياف المدن التي احتلّها في أرجاء سوريّا.

وهكذا حصل ويحصل عندنا. تهنأ اسرائيل على الوسادات الجولانيّة الناعمة في الجنوب، وتتفرّغ “المقاومة” لحراسة “الاستقرار والنأي بالنفس”، كشعاريْن يعنيان النقيض تماما:

الاستقرار يعني أوّلا الاستيلاء على القرار الأمني والسياسي والمالي (الـ6 مليارات نموذجا)، وثانيا ربط لبنان بمصير النظام السوري.

والنأي بالنفس يعني التزام كلّ ما ينفع ويريح هذا النظام، من حدود الشمال والشرق، الى القاهرة وتونس ونيويورك، ولو تطّلب الأمر تفرّد وزير الخارجيّة وفرض الصمت على رئيسي الجمهوريّة والحكومة.

جماعة النظام السوري في لبنان، مبسوطون بـ”تنظيف وتحرير” حمص وما بعد.. بعدها. هم أطلقوا هذين الوصفيْن قبل أيّام.

ففي قاموسهم لا فرق بين التنظيف والتدنيس، ولا بين التحرير والاستعباد.

وطالما هذه هي المعادلة، فبئس النظافة والحريّة اللتين يعدون لبنان بهما!

وبئس هذه الأصوات الشامتة بموت الأبرياء والأحرار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى