صفحات سوريةعلي العبدالله

تركيا:كي يثمر الفوز/ علي العبدالله

 

 

وضع الخيار الأتاتوركي، بتبنيه موقفا علمانيا متشددا من الاسلام، واستخدامه للاسلام في الوقت نفسه لاحتواء مطالب الشعوب غير التركية المنضوية في الدولة التركية باعتباره كل مسلم تركياً واعطائه مقاعد شكلية لابناء الديانات الاخرى(2 للمسيحيين و1 لليهود)، الجمهورية التركية في مأزق دائم فهي لا تستطيع، لاعتبارات تاريخية واجتماعية، التحول إلى دولة علمانية خالصة، ولا تستطيع، لاعتبارات سياسية، التحول إلى دولة إسلامية. لذا بقيت مشتتة بين خيارها السياسي- الاجتماعي وبين تاريخها وتكوينها الأساسي. إنها غير قادرة على الالتحاق الكامل بالغرب لأنها شرقية، وغير راغبة في الالتحاق بالشرق لأن خيارها غربي. غير قادرة على القفز على الإسلام وغير راغبة في السماح للإسلام باستعادة حضوره السياسي والاجتماعي، غير قادرة على محو الهوية القومية للجماعات المشتركة في الدولة التركية وغير راغبة في الاعتراف بها والسماح لها في التعبير عن ذاتها. وقد ظل هذا الخيار عقبة في وجه تحركها وسببا كامنا وراء عجزها عن الحسم، كمقدمة لابد منها للانطلاق، في مسألة الهوية. فهي متأرجحة تريد من الشرق اعتبارها منه دون تقديم تعريف ذاتي يبرر هذا الالتحاق، وتريد من الغرب قبولها في صفوفه دون القطع مع الشرق.

وفر وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002 قاعدة مناسبة للتعاطي مع مسألة الهوية، وقاد نجاحه  في إدارة البلاد وتحقيق انجازات هامة في الاقتصاد، حوّل تركيا من دولة مدينة واقتصاد هش وفساد مستشرٍٍ الى دولة صاعدة اقتصاديا بلغ ناتجها القومي حدود التريليون دولار، احتلت المرتبة 16 عالميا، وهذا عزز شعبية الحكومة، ودفع المؤسسة العسكرية الى الخلف والحد من تدخلها في السياسة والقضاء والإدارة المدنية، فتح الباب امام حل أولي لعلاقة النظام التركي بالإسلام، العامل الرئيس في عقدة الهوية، كما سمح بالتعاطي مع العامل الثاني فيها (الاعتراف بالتعددية القومية) بثقة وقوة مستفيدا من حالة الإعياء من الحرب والدماء والدمار في المجتمعين التركي والكردي وميل للحل السلمي تبنته منظمات المجتمع المدني الكردية، بتبني مقاربة ديموقراطية في التعاطي مع المطالب الكردية، فمع تمسكه بوحدة تركيا الجغرافية والسياسية وعمله على احتواء التداعيات الإقليمية، بخاصة الوضع في كردستان العراق، على الملف الكردي في تركيا، سمح بإطلاق قناة ناطقة بالكردية تبث طوال اليوم، وبتعلم اللغة الكردية في المدارس في المناطق ذات الغالبية الكردية، وعمل على تحسين أوضاع الكرد المعيشية والخدمية في منطقة جنوب شرقي البلاد، وفتح مفاوضات مباشرة معهم، فبعد لقاءات بين الحكومة ونواب كرد من حزب السلام الديموقراطي الكردي والسماح لهم بزيارة عبدالله اوجلان في محبسه، ومع قيادة حزب الشعوب الديموقراطية لاحقاً، تم الاتفاق على اعتماد الحل السياسي ونبذ العنف، والاتفاق على خطة خريطة طريق تبدأ بوقف اطلاق النار وانسحاب قوات حزب العمال الكردستاني الى جبال قنديل في كردستان العراق، بحيث تتم تسوية اوضاعهم وادماجهم في الدولة والمجتمع التركيين، وتبادل الاسرى، يليها قيام الحكومة بتعديل قوانين مكافحة الارهاب، واحالتها إلى المجلس النيابي لإقرارها، والبدء بالمباحثات الرسمية بين الحكومة التركية وقيادة الحزب في جبال قنديل يتلوها تعديل دستور 1982 وتضمينه الإقرار بالحقوق الكردية. وقد أعلن عن الاتفاق عبر رسالة من اوجلان قرأتها النائبة الكردية ليلى زانا في احتفالات الكرد في عيد النيروز يوم 21/3/2013، دعا فيها الى وقف القتال والانسحاب الى جبال قنديل، وأكد انتهاء مرحلة الكفاح المسلح وبدء مرحلة الكفاح السياسي.

لم يكن طريق المفاوضات سالكاً دون عراقيل فقد تعرضت المقاربة إلى امتحان مرات ومرات، فالتوتر السياسي الداخلي على خلفية الانتخابات الرئاسية والتعديلات الدستورية وسعي أردوغان إلى تغيير طبيعة النظام التركي الى نظام رئاسي، ووجود جناح متشدد داخل حزب العمال الكردستاني له تحفظات على خيار المصالحة التي وافق عليها عبدالله أوجلان، وقيامه بعمليات عسكرية استفزازية لاستدراج رد من الجيش التركي يخلط الأوراق وينهي المفاوضات، وانفجار الثورة السورية وإقامة حزب الاتحاد الديموقراطي/ جناح حزب العمال الكردستاني في سورية إدارة ذاتية في ثلاث مقاطعات على الحدود التركية السورية، وهجوم “داعش” على مدينة عين العرب/كوباني ورفض الحكومة التركية دعم الكرد فيها، لاعتبارات تتعلق بموقفها من إستراتيجية واشنطن في مواجهة “داعش” وتجاهل النظام السوري الذي مارس القتل وخلق المناخ الذي أفرز الأخير، ومن الإدارة الذاتية الكردية في سورية، تحفظت الحكومة التركية عليها بسبب تخوفها من تعزيز موقف الكرد في مفاوضات المصالحة، ما أتاح للتيار المتشدد في حزب العمال فرصة التشكيك بنوايا أردوغان وخروج تظاهرات كردية وحصول صدامات وسقوط شهداء وجرحى من الكرد وقوات الأمن، ناهيك عن قيام حزب العمال بفرض حالات حكم ذاتي في بعض المدن والبلدات في جنوب شرقي البلاد وتجنيد الشباب الكرد بالقوة في صفوفه والدخول في مواجهة مسلحة مع أنصار حزب الدعوة الحرة الإسلامي في مدينة جزيرة ابن عمر او جزيرة بوتان. وزاد في تعقيد الموقف وتعليق عملية المصالحة دخول “داعش” على خط الصراع الداخلي عبر القيام بتفجيرات، استهدفت الكرد بشكل رئيس، واستغلال الجناح المتشدد في حزب العمال الكردستاني للعمليات وتحميله الحكومة والرئيس التركي المسؤولية ورده بقتل رجال أمن وشرطة وجيش اتراكا، وسعي حزب الشعوب الديمقراطية لاستثمار  الموقف انتخابيا بتبني خطاب قومي كردي والتصعيد ضد الرئيس التركي وحزب العدالة والتنمية.

ستنتقل تركيا في حال نفذ الاتفاق وعدل الدستور(تتفق غالبية الأحزاب التركية على ضرورة صوغ بديل ديمقراطي مدني ليبرالي جديد يحل محل الدستور الحالي الذي وضعه العسكر بعد انقلاب 1980 وطاولته عشرات التعديلات، دون تغيير النظام البرلماني)، ولبى مطالب الشعوب والأديان والمذاهب، ستنتقل من دولة عرقية منغلقة الى دولة تعددية منفتحة، ويفتح طريق الأمن والاستقرار وتعظيم الازدهار أمامها واسعاً ما يمنحها وزناً كبيراً ودوراً مميزاً في الإقليم والعالم. وهذا يستدعي من الرئيس التركي وحكومة حزب العدالة والتنمية بعد الفوز الكبير في الانتخابات البرلمانية حسم موقفهما والخروج من عباءة اتاتورك، والعودة الى خطة المصالحة مع الكرد وافتتاح طريق الاعتراف بالتعددية القومية في تركيا، والتراجع عن التوجهات السلطوية التي شابت السياسة التركية خلال الاعوام الاخيرة، وخاصة ان نتائج الانتخابات الي اعطت الحزب فرصة جديدة لادارة البلاد وضعت سقفا لتحركه عبر عدم تمكينه من الحصول على ثلثي المقاعد بحيث يتمكن من تعديل الدستور بقرار من البرلمان، ولم تمنحه نسبة من المقاعد تمكنه من اجراء استفتاء حول القضية(يحتاج الى60  في المائة من المقاعد).

ان حل عقدة الهوية الوطنية وتجاوز قيود الاتاتوركية والانطلاق في تكريس النموذج التركي، الذي جمع بين الاسلام والحداثة والديمقراطية، واستئناف مسيرة النمو والتطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وتنفيذ الوعود الاقتصادية والتطلعات الاجتماعية المحقة، هو الاستثمار الافضل في اللحظة الراهنة لبناء تركيا جديدة تكون مصدر قوة ومنعة للحزب والرئيس اكثر من تطلعاته الشخصية التي لا طائل تحتها.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى