صفحات سوريةعلي العبدالله

تركيا: نقطة نظام/ علي العبدالله

 

 

نجح حزب العدالة والتنمية الحاكم يوم 16/1/2017 بتمرير التعديلات الدستورية الـ 18 بتبني البرلمان التركي لها في قراءة أولى تتلوها قراءة ثانية بدءا يوم الأربعاء، 18 الجاري، على طريق تحويل النظام السياسي التركي الى نظام رئاسي تحقيقا لرغبة رئيس الجمهورية في توسيع صلاحياته بما يسمح له بتنفيذ برنامجه السياسي في إعادة صياغة الدولة والمجتمع التركيين وإخراجهما من تحت عباءة الأتاتوركية وتناقضاتها البنيوية العميقة. فقد احتوت الجمهورية التركية التي أنشأها مصطفى كمال(أتاتورك= أبو الأتراك) عام 1923 مجموعة من المفارقات والتناقضات حيث أسس نظام اللون الواحد بسماته الست: الجمهورية، القومية، النزعة الشعبية، العلمانية، تدخل الدولة، الثورية. وثبّت خياراته دستوريا وكلف المؤسسة العسكرية (مؤسسة غربية أسست بإشراف الألمان أواخر أيام السلطنة العثمانية، وخضعت لإشراف الولايات المتحدة منذ أربعينيات القرن الماضي) بحماية النظام من أية مخالفة له أو خروج عليه أو تغييره سياسيا أو اجتماعيا، مكرسا نظام حكم أبوي استبدادي، حكم صفوة تحتقر الشعب، رغم إفراطها في الحديث عن ولائها لمبدأ الشعبية، وعدم الاعتراف بوجود طبقات: مجتمع موحد، وعدم إعطاء دور إلا للصفوة:الدولة المصدر الوحيد للتطور، وعدم توفير آليات للمشاركة السياسية.

تعامل أتاتورك العلماني مع قضية الدين تعاملا مصلحيا، فقد سعى بكل إمكانياته إلى إنهاء حضور الإسلام في مختلف مجالات الحياة وبين مختلف فئات المجتمع من جهة، وماهى، من جهة ثانية، بينه وبين القومية التركية حين رفض في مفاوضات لوزان الإقرار بوجود أقليات قومية في الدولة التركية ولم يعترف إلا بوجود أقليات غير مسلمة. فالمسلم تركي وغير المسلم غير تركي، وذلك للتملص من حقوق الشعوب والإثنيات التي تعيش في أراضي ما أصبح يسمى تركيا(26 جماعة قومية وعرقية).

لم ينجح النظام العلماني في اختراق البنية الأساسية للمجتمع التركي، ولم يستطع اجتثاث المشاعر الدينية عند غالبية المواطنين فانشطر المجتمع التركي إلى أقلية “متعصرنة” وأكثرية متمسكة بتقاليدها، باحثة عن سبل تطورها من داخل قيمها، واخذ الصراع الاجتماعي والسياسي بين الطرفين شكل صراع حضاري، صراع من أجل الهوية والاختيارات الأساسية. وهذا أفرز خريطة متشابكة من الانحيازات والاستقطابات، بين إسلاميين وعلمانيين، سنّة وعلويين، أتراك وغير أتراك، مؤسسة عسكرية ومؤسسة مدنية، طورانية وأوروبية، وبين فقراء وأغنياء…الخ. على خلفية صراع على هوية الدولة ومستقبلها.

برزت أزمة الهوية باجتماع عاملين: غياب إجماع عام على هوية، وعجز العقيدة الأتاتوركية عن تحقيق ذاتها وبالتالي فشلها في التعاطي مع المشكلات الحيوية للمجتمع التركي. فقد ظهر للعيان إن الانقسام “الإثني” و “المذهبي” الذي تعرفه تركيا أرسخ من الحلول التي طرحت لحله، حيث فشلت محاولات الصهر التي يمكن من خلالها طبع الشعب كله بطابع قومي واحد، وبقي شعار اليمين العلماني “نحن جميعاً أتراك” بلا جذور. كما لم ينجح شعار “الأخوة الإسلامية” في القفز على الانقسام القومي الذي تمثله القضية الكردية بخاصة.

في ثمانينيات القرن الماضي تبدل شكل الصراع الداخلي، في ضوء بروز أحزاب إسلامية حظيت بشعبية ودخلت البرلمان بقوة، من صراع بين يمين ويسار إلى  صراع عقائدي بين إسلاميين وعلمانيين، وقومي، بين أتراك وكرد بشكل رئيس، كما أدت المتغيرات إلى ازدياد الإحساس التركي بهويته المتميزة عن الغرب الأوروبي، وبانتمائه إلى فضاء حضاري آخر، وهذا عقد الصراع العقائدي بين الإسلاميين والعلمانيين، حيث وجد الإسلاميون في ذلك فرصة لتحويل خيارات تركية الخارجية باتجاه إسلامي وطرحوا فكرة “العثمانية الجديدة”، التي تضمنت تجاوزا لأحد أهم أطروحات الأتاتوركية في السياسة الخارجية:الانكفاء إلى حد العزلة(سلام في الوطن، سلام في الخارج), وفكرة “الجمهورية الثانية” والتي تختصر بتعميم كامل للديمقراطية والحريات بما فيها حقوق الأقليات (الكردية أساساً) في التعبير عن هويتها وتغليب النزعة المدنية في المجتمع على النزعة العسكرية التي استبدت بالجمهورية الأولى منذ تأسيسها، بينما وجد فيه القوميون العلمانيون فضاء للطورانية ولحظة مناسبة لاستعادتها وتكريسها ونادوا بتجسيدها سياسيا بإطار يمتد من الأدرياتيكي حتى الصين.

اصطدمت محاولات الأحزاب الإسلامية التركية برفض من الأحزاب العلمانية وبرد عنيف من المؤسسة العسكرية تمثل بانقلابات وبحل لأحزاب إسلامية حتى جاء حزب العدالة والتنمية الى السلطة بدءا من عام 2002 وأمسك بدفة الحكم عبر تقييد المؤسسة العسكرية بالاستناد الى الشروط الأوروبية للانضمام الى الاتحاد الأوروبي، الذي يشكل طموحا للنخبة العلمانية والعسكرية، والنجاح في تحسين مستوى المعيشة والخدمات وتطوير الاقتصاد عبر تحسين البنية التحتية للسياحة وتشجيع الاستثمارات الخارجية على القدوم الى تركيا عبر تعديل الشروط  لصالح المستثمرين، فضاعف الناتج القومي مرات خلال عقد من حكمه خالقا طبقة وسطى واسعة وفاعلة أيدت استمراره في الحكم والتفت حوله ضد المحاولة الانقلابية الفاشلة. وهذا زاد في طموحاته لفرض رؤيته لطبيعة الدولة والحكم وتنفيذ مشروعه بتكريس الصبغة الإسلامية في الدولة والمجتمع وضرورة تحويل النظام السياسي التركي من النظام البرلماني الى الرئاسي، باستثمار شعبية الرئيس والحزب الحاكم على خلفية الانجازات الاقتصادية، للالتفاف على معارضة الأحزاب العلمانية ضد المشروع.

تمتلك رؤية حزب العدالة والتنمية وجاهة ومشروعية عامة في ضوء الانعكاسات السلبية التي ترتبت على الخيار الأتاتوركي الذي وضع الجمهورية التركية في مأزق دائم فهي لا تستطيع، لاعتبارات تاريخية واجتماعية، التحول إلى دولة علمانية خالصة، ولا تستطيع، لاعتبارات سياسية، التحول إلى دولة إسلامية. لذا فهي مشتتة بين خيارها السياسي- الاجتماعي وبين تاريخها وتكوينها الأساسي، حكم إسلامي دام ستة قرون. إنها غير قادرة على الالتحاق الكامل بالغرب لأنها شرقية، وغير راغبة في الالتحاق بالشرق لأن خيارها غربي. غير قادرة على القفز على الإسلام وغير راغبة في السماح للإسلام باستعادة حضوره السياسي والاجتماعي، غير قادرة على محو الهوية القومية للجماعات المشتركة في الكيان التركي وغير راغبة في الاعتراف بها والسماح لها في التعبير عن ذاتها. تريد من الشرق اعتبارها منه دون تقديم تعريف ذاتي يبرر هذا الالتحاق، وتريد من الغرب قبولها في صفوفه دون القطع مع الشرق.

غير أن مشروع الحزب لن يمر دون عقبات واعتراضات حزبية واجتماعية ما دفع رئيس الدولة وحزبه الحاكم الى مغازلة القوميين الأتراك لتأمين أغلبية برلمانية تمرر التعديلات الدستورية المطلوبة، وهذا استدعى التخلي عن مبادرة حل القضية الكردية سلميا والعودة الى الخيار العسكري ضدهم، والتراجع عن مضمون فكرة “الجمهورية الثانية” ومقتضياتها بتعميم الديمقراطية وحقوق الاثنيات في التعبير عن نفسها ثقافيا وسياسيا، واللعب على عواطف المواطنين الأتراك ومشاعرهم القومية والدينية من أجل تمرير الإصلاحات باستفتاء شعبي عبر نبش ملفات الخطط ومعاهدات ترسيم الحدود والعمل على شد عصبهم عبر التذكير بالصراعات التاريخية ونتائج الحروب مع الأوروبيين والتدخلات الخارجية ضد مصالح وطموحات تركيا، وربط مواقف الخصوم، الداخليين والخارجيين، بالانتقام من التاريخ العثماني لتركيا، في استدعاء فض لذكريات سوداء تعشش في المخيال الشعبي التركي، وتصعيد المشاعر القومية العدائية وتوجيهها ضد الغرب بعامة والولايات المتحدة الأميركية بخاصة، وتوظيف العمليات الإرهابية في هذا السياق عبر اتهام الغرب بخلق وتشغيل المنظمات الإرهابية وتسليحها(“داعش” وإخوته، وحزب الاتحاد الديمقراطي(الكردي السوري) باعتباره امتدادا لحزب العمال الكردستاني الذي تضعه الدول الغربية على قائمة الإرهاب، الذي يقاتل في تركيا).

صحيح أن النظام الرئاسي لا يتعارض مع الديمقراطية مالم يأخذ بعدا سلطويا، وهذا مصدر التخوف من توجهات الرئيس التركي، فان الاسلمة غير المتبصرة، التي تقف خلفها رغبة جامحة لقيادة العالم الإسلامي، يمكن أن تقضي على سمة الديمقراطية في النظام التركي، ناهيك عما يمكن ان تتسبب به من عزلة دولية، عبر تقليص حركة السياح باتجاه المنتجعات التركية وتقليص الاستثمارات في الاقتصاد التركي، وهما عماد الطفرة الاقتصادية التي عرفتها تركيا خلال فترة حكم حزب العدالة والتنمية(بدأت بوادرها وهذا انعكس على سعر صرف الليرة التركية التي تراجعت أمام العملات الأجنبية بصورة واضحة)، والانقسام الداخلي والانزلاق الى حرب أهلية، ما يتطلب الحفاظ على الديمقراطية إسباغ مسحة ليبرالية على النظام الرئاسي وموازنة الاسلمة بالعلمنة بالعودة الى الثنائية التي قبلها حزب العدالة والتنمية في بداية تسلمه للسلطة والموازنة بينهما بحيث تحترم قناعات المواطنين وايماناتهم وتساوي بينهم في الحقوق والواجبات والبحث عن تكييف يقيم نظاما وطنيا ديمقراطيا يستند الى الرضا العام عبر عقد اجتماعي يحقق مصالح المواطنين، يعترف بطموحاتهم ويستجيب لمخاوفهم وهواجسهم وتطلعاتهم القومية والاجتماعية.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى