صفحات الناس

تسلية في زمن الحروب/ هدى بركات

 

لا بدّ أن يكون السوريّون قد وصلوا إلى كره “حبّ” الأجانب لهم. بعد مرور كلّ هذا الوقت في المرارة التي صارت خالصة، بات السّوريون يقتربون حثيثاً من اليأس من هذا الحب الجارف. ليس فقط بسبب أنّه بلا فائدة أو جدوى، بل لأنّه يصير حمّالاً لشكل من غسل الأيدي من دم ذلك الصديق لكن بطريقة “شاعريّة”. أكثر من ذلك يصير حبّ الأجانب استعادة فاشلة لدور غربي اتّصف في ما مضى بالأخلاقيّة الإنسانوية العابرة للأمم قبل أن تردّه العولمة المنفلتة إلى دارة الهويّات. أعني أن الصحافة الفرنسيّة مثلاً، والتي تثابر في صفحاتها الداخلية على متابعة الملفّ الإنساني للحروب السوريّة، والتي تعرف تماماً أن لا قرار بالتدخّل لا من قريب ولا من بعيد، صارت كمن يغنّي لأسمهان في حفلة “راب”، إمّا للتذكير بأن أسمهان ما زالت في الذاكرة الجمعيّة لعشّاق الموسيقى، وإمّا لشعوره الرومنطيقي بأنّ ضميره بحاجة لحفلة تنظيف ذات تكلفة متهاودة. يعني..على طريقة اللهم إنّي بلّغت، والآن أشعر ببراءة وسلام. وهذه ليست تهمة. ولا ملامة. ولا عتب. فالسوريون اليوم، على ما أدّعي، صاروا أكثر تعباً من رفع السبابة بوجه الناس…

أستطيع أن أدّعي ذلك. فقد أحبّنا الأجانب كثيراً في بداية حروب لبنان. وفي البداية أحببناهم نحن أيضاً كثيراً. حتّى أنّنا كنّا نستقبل صحافييهم وموفديهم وكتّابهم من أيّ نوع في بيوتنا. نقدّم لهم المشرب والمأكل، ونشرح “الوضع” لهم بحماس كبير. صار بعضنا يرافقهم، يدلّهم على العناوين، يسهّل لهم الاتصال بمن شاؤوا، وبعض بعضنا صار يؤمّن لهم الحراسة والتغطية الأمنيّة، بل إنّ بعض بعضنا هذا راح يستأجر لهم سيّارات الإسعاف ليسهروا ويستمتعوا ويروا كم أننا نملك من مقوّمات حبّ الحياة ونستأهل هذا الحبّ… طيلة سنين فعلنا ذلك ليقولوا “الحقيقة الساطعة” للعالم، ثمّ ليقولوا شكوكنا بهذه الحقيقة الساطعة، بهدف أن يتحرّك هذا العالم لإنقاذنا، أقصد أن يجد العالم أو من يُديره طريقة ما…

ثمّ وجدنا أنّهم يأتون إلى بيروت حبّاً بالأكشن، لشدّة ما يزهقون في مدنهم وبلدانهم. وأنّ جميع الأجنبيّات الوافدات وقعن في حب رجل لبناني واحد هو وليد جنبلاط. وبما أن سيّد القصر غير متوفّر لأعداد كبيرة من العاشقات، كانت ذكورة المقاتل بالبرونزاج المضبوط والقميص العسكري المفتوح تعوّض بشاليه صغيرمصادَرعن القصر المنيف. بدأنا نرى أن حبّ الأجانب لنا صار دلالاً وغنجاً وثقل دمّ. ولمّا تأكّدت قلّةُ المنفعة منهم فيما أحوالنا وأحوال البلد تزداد سوءاً لم نعد نحبّهم أو نرحّب بهم كثيراً. صرنا نتساءل لماذا يأتون إلى مكان خطر كهذا فيما نحن نهرب في كلّ اتجاه؟ صرنا نقول إن هؤلاء يتسلّون بنا. يتفرّجون على الفيلم من داخل الشاشة، أو شيء من هذا القبيل.. حتى أننا صرنا نحن أيضاً ميّالين للتسلية قليلا.. بهم.

حين قلت لمارك كرافتس، ولعلّه كان أصدقهم وأحبّهم آنذاك، إنّنا كنّا أحياناً نكذب حتّى عليه، نعطيه معلومات مغلوطة أو “مفخّخة” أو خفيفة الصدقية أو سورياليّة قليلاً لنتسلّى بعد أن يئسنا من قرب الخلاص. ورغم إعجابنا بشخصه وبما كان يكتبه في “ليبيراسيون” خلُصنا إلى قلّة تأثيره وتأثير الصحافة الأجنبيّة. ندمت بعدها لأن ما قلته كان علنياً، في حديث لإحدى الإذاعات الفرنسيّة وبرفقة أو استضافة كرافتس الذي كان ترك الريبورتاج إلى الكتب. عبّرتُ له عن ندمي واعتذرت حين التقيته بعد ذلك بسنوات فقال إنّه لم يصدّقني واعتبر الأمر مزاحاً أدبياً صادراً عن مزاج روائي… طيّب، عال.

نكره أن يحبّ الأجانب أمكنتنا التي غادرناها وصرنا نحن أجنبييها وغرباءها. أعني أن يَفردوا على أمكنتنا تعابير النوستالجيا كأنّها كانت ذات يوم لهم. أن يستعيروا كلاماً عن الفقد بتنا نحن أنفسنا نخجل منه.. خاصة وأنّه عبث خالص…

آه.. آه بيروت، بيرووووت، يقول لك “الأجنبي” بتنهيدة عميقة فتدير رأسك سريعاً حتى لا تطلق في وجهه: يا أخي حلّ عنّي…

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى