صفحات الثقافة

تطمح رواية «مولود» إلى أن تكون تاريخاً عاماً لإسطنبول وأهلها المغلوبين/أورهان باموك

 

 

حين شرعتُ في كتابة «هذا الشيء الغريب في نفسي» كانت نيتي ألا أتعدى رواية قصيرة تدور على بائع بوظة، وفي بالي غالباً أن جايمس جويس عندما بدأ «يوليسيوس» (أو «عوليس») حسِب انه يكتب قصة قصيرة. وغلبت البوظة والشراب وآنية البوظة وعلاقة الشراب بالتقاليد، وهي علاقة متنازعة لأن الشراب يخالف الإسلام أو التقاليد التركية، على انتباهي فوق الانتباه الى شخصية الرواية الاولى، «مولود» (مفْلوت)، وتصوّرتُ قبل الكتابة شخصية تحوز نجاحاً في التجارة وتثير حسد الآخرين وغيرتهم، ثم يستعيد الرجل بداياته وأصوله… الخ. ولم يلبث الرسم القصصي الرمزي أن نزع الى رواية بانورامية وملحمية. وبعض الروائيين، إي. م. فورستر على سبيل المثل، يزعمون أن الشخصيات الروائية تستولي على السلطة في بعض الاحيان. وأنا أنفر من هذه الفكرة، فما يغلب الروائي وعمله هو الشكل الروائي، أو شيء مصدره المرء أو داخله.

وروايتي «المرأة ذات الشعر الاحمر» التي صدرت منذ 14 شهراً في تركيا، فلسفية وتمثيلية رمزية وقصيرة. ولكن مولود اقتضى إنشاؤه حيزاً واسعاً وواقعياً، وتفاصيل دقيقة تتناول الأواني الخزفية التي تحوي اللبن، والأواني الزجاجية ثم الكرتون، وطريقة نقلها، وهذا ما أسميه التاريخ المجهري. وأنا اضطررت الى تجاوز التاريخ المجهري. وهذا بعض مشكلة الرواية الملحمية. فهل حري بتولستوي أن يعتد بالبانوراما الدقيقة أو بالشعر الذي يلف البانوراما كالهالة؟ في الرواية البانورامية يحل الشعر في الشخصيات، على خلاف الأمر في كتاب بورخيسي قصير أو في رواية رمزية، ففي البانورامية تتصدر الشخصيات العمل، كثرتهم وفروقهم. ثم ترجح القدرة على التمثيل على التاريخ وتصويره. وهذه الرواية «هذا الشيء الغريب في نفسي»، طموحها أن تكون تاريخاً عاماً. وأردت لها أن تنجز برنامج تولستوي، أي أن تبلغ دقة بانورامية وتصور أطوار اسطنبول في الاربعين سنة الاخيرة، الى تصوير الشخصيات وتناول حياتهم الداخلية وانبعاث الشعر من التفاصيل وسردها.

وموضوع الرواية هو المغلوبون، وهم غير العلمانيين وغير المصبوغين بصبغة الغرب، مثلي. كيف تعد البوظة؟ والدجاج بالأرز؟ أين تشتري هذه؟ كيف ينزل الواحد من قريته الى اسطنبول في 1969، ويشيِّد منزله مع والده وعمه؟ وقبل الكتابة، جمعتُ عناصر كثيرة وحادثتُ بائعي بوظة ودجاج ومراقبي ساعات منازل كهربائية. وذهبت الى قرى في الاناضول جاء منها بائعو اللبن. وسرني ذلك. وفي أثناء الاعوام العشرة الاخيرة جمعتُ «بنكاً» من المقابلات، بعضها يدور على موضوعات أخرى غير هذه الرواية، ومنها مقابلات سواقي سيارات عمومية. وأنا أجرّها معي حين أسافر الى الولايات المتحدة، ولا أعول على التخزين الرقمي الذي لا أستسيغه.

والسبب في استعمالي حوارات أو مونولوغات جانبية يؤديها مقربون من مولود هو أن «هذا الشيء الغريب…» هي روايتي الديكنزية الاولى، وأقصد بهذا أن روائياً من الطبقة الوسطى يتناول طبقة المغلوبين في مدينة كبيرة. ولكنني أكره الميلودراما في روايات ديكنز، وحاولت تجنبها بواسطة الدعابة الساخرة. وعزمت على الكتابة على مثال سنوات 1850-1860، أو على مثال فلوبير في «قلب ساذج»، حيث يتقمص الكاتب دور خادمة. ولم أفلح تحت وطأة هذه المقابلات في التزام أسلوب «قلب ساذج» أو ديكنز. وأنا من جيل خلف فوكنر. فماذا عساي أصنع بضمير متكلم مفرد؟ توسلتُ به الى ابتكار شكل، فليس غير مولود من لا يتكلم بضمير المتكلم، ولا يقول «أنا» أبداً. وفي منتصف السنة الثالثة من السنوات الست التي اقتضتها كتابة الرواية، قلتُ إن عليّ اختبار الجمع بين ضمير المتكلم وضمير الغائب. ولم يمتنع ذلك علي. وهو لم يكن تجريباً نظرياً، بل اضطررت اليه اضطراراً. فالمقابلات تضج بحيوية صاخبة، وبحكمة لغوية ساخرة! وأحسست كذلك ان الكلام بضمير الغائب: «قال مولود كذا» أو «صنع مولود كذا»، يبث في الرواية طاقة. ولا نغفل أن علينا شحذ انتباه القارئ طوال 700 صفحة.

وعندما يقال «حب» يغلب الأنَّاس (الانثروبولوجي) على الشاعر فيّ. ومولود قادم من بلد مسلم ليس في مستطاع الرجال فيه لقاء البنات قبل الزواج، دعك من الجنس. والفرصة الوحيدة المتاحة للقاء بنت هي عرس ابن العم. وكتابة رسائل حب دليل على حزم الكاتب وثباته. وفي طفولتي، كانت تطبع كتب تعلِّم كيف تكتب رسائل الحب، ومختارات من هذه الرسائل. واستعدت في رسائل مولود منمطات غزلية عثمانية رائجة: «عيناك الجميلتان صعقتاني…». ومحزن، في آخر المطاف، أن يكتب العثمانيون رسائل الى نساء لم يروهن. وحين يكبت الحب كبتاً شديداً يبحث عن سيل للتسامي.

ولمولود أصدقاء يساريون وعلويون يُصْلُون معظمَ الوقت الحكمَ غضبَهم، وأبناء عمه ينتسبون، في المقابل، إلى أقصى اليمين القومي. ويتعقب السرد أثره الى العشوائيات الماركسية والى العشوائيات اليمينية. وعلى صورة رواية «الأحمر والأسود» التي ترافق جوليان سوريل في تردده الى دوائر المجتمع المختلفة، تتقصى الرواية التيارات المتفرقة لترسم منها بانوراما. ولكن «هذا الشيء الغريب…» ليست رواية سياسية. الاسلام السياسي كان موضوع «ثلج» (2002). لماذا تميل الطبقات المغلوبة الى القومية؟ ولماذا يتولى المحافظون أو الاسلاميون رعاية المهاجرين خيراً من الديموقراطيين العلمانيين؟ فربما تفصح الرواية عن بعض الامور.

والشيء الغريب في مولود هو ما أودعته مني في مولود. فأنا مولود حين يمشي وحيداً في الطرق المعتمة، ووراءه كلاب تثير خوفه، وظلال أوراق الشجر، وشبه سر يوقظ مخيلته الرومنطيقية. وعنوان الكتاب، «هذا الشيء الغريب في نفسي»، كان في ذهني منذ كتابة الأسطر الاولى. وفي سنوات مراهقتي وفي أثناء خدمتي العسكرية، كان بعض أصدقائي يقولون لي: «أورهان، عقلك غريب». ولما قرأت العبارة في شعر ويليام وودورث، هذا «الشعور بالغرابة»، عزمت على كتابة رواية، في يوم من الايام، عنوانها «هذا الشيء الغريب في نفسي». ولم أكن أعرف شيئاً يومها عن مولود. وصممتُ على وسم الكتاب بهذا العنوان، وعلى القول: «مولود هو أنا». فالعنوان هو إرادة امتلاك الكتاب، ووسمه بميسم الكاتب.

وقد يدعو شعور البائع الجوال بالغربة الى الدهشة. وذلك لأن فن الرواية يتوسل بالطبقة الوسطى والاريستوقراطية الى تناول جزئيات الحياة الانسانية ووجوهها الهشة. وأفراد الطبقات الضعيفة يقبعون عادة في هامش اللوحة أو المنظر، ويُخصون بالعطف والشفقة. وتاريخ الرواية قلما يراهم شخصيات مثلثة الأبعاد ومعقدة. ويوسط التقليد الروائي الغالب بينهم وبين القارئ وسيطاً هو صحافي في معظم الاوقات. وتحادثت في الأمر مع ناشري البريطاني، فابر، فسألني: «أورهان، هل في الرواية مثقف واحد على الاقل؟». لا، ليس من دور وسيط ولا صحافي تناط به ترجمة التجربة، وتيسير نقلها وإبلاغها.

وأنا تعلمتُ من تولستوي الانتباه الى الشخصيات: فإذا كانت إحدى هذه الشخصيات شديدة السوء، حسّنها بعض الشيء. وإذا كانت أخرى مفرطة الطيبة زد عليها ملمحاً يشي بنازع قبيح. وميزة الروائي الجيد هي قدرته على توحيد نفسه بأناس لا يشبهونه، بالغاً ما بلغوا من الرداءة والانحراف السياسي والغباء والشر. وتحدّي الأول كان كتابتي على شخصية الاصولي في «ثلج»، لا زولي. فلم أرغب في رسمه على صورة الشيطان الكاريكاتورية، من غير التخلي عن صفته الحقيقية. وإذ ذاك يتساءل الروائي، ويميل الى تناول وجه إنساني من شيطانه. ولكن هل هذا، إضافة سمة إنسانية الى أصولي، جائز حقاً.

وكبار الروائيين في نظري هم تولستوي ودوستويفسكي وتوماس مان وبروست. ومن كل واحد من هؤلاء تعلمت شيئاً. تعلمت من دويستويفسكي أن في وسع الانسان اعتقاد معتقدات متناقضة، والإيمان بها، وأنه مجبول على هذا. واستواء الواحد كاتباً، أي شخصاً غير منفك من إنسانيته، يفترض ارتقاءه هذه الدرجة. وحسن استقبال القراء الاتراك «مولود» يثبتني على رأيي، فهذه الرواية من أكثر رواياتي رواجاً شعبياً. وسبقتها روايتي «اسمي أحمر» (1998). وبيع من «مولود» في 20 أسبوعاً مقدار ما بيع من «اسمي أحمر» في عشرين سنة. السبب؟ هذا الكتاب مليء بتفاصيل تركية، بـ «مستتركيات». ومولود ينقلب من حال الى حال. فهو في أول الأمر، سعيد ومتفائل بالغد. وفي آخر الأمر، لا يصح فيه القول إنه يغضب، ولكنه يشعر مثلي بأن عالمه يشرف على الافول، والمدينة التي أنشأها، ورفعها على راحتيه، تتصدع.

واخترت شخصيات نسائية قوية لأنني أخذت أميل، بعد 50 عاماً من الكتابة، إلى النسوية، وأود المضي على هذه الحال إن لم يكن ذلك، في تركيا، من قبيل الطباق. ولما قلت هذا لقراء أقبلوا على المكتبات لشراء نسخ موقعة، ضحكوا، والنساء صفقن. وفي رواياتي الأولى، النساء كن ضحايا، ويتسترن على التعبير عن غضبهن ودواخلهن. ومع الشيخوخة صرت أشد انتباهاً الى الأمر. وأحببت تناول الشخصيات النسائية، دعابتهن وسخريتهن قياساً على خطب الرجال الطنانة. ورايحة ووديعة وسميحة هن على مثال أمي وأختها، ثرثرة وتستراً على أشياء وتعاوناً. وآمل في تولية امرأة دور الراوي (الرواية) في رواية قادمة.

* روائي تركي، عن «ليبراسيون» الفرنسية، 27/8/2017، إعداد م. ن.

الحياة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى