حسين جموصفحات سورية

تعددية “السُنّة” في سوريا وممكنات إغلاق تلك “الثغرة”


حسين جمّو

جاءت مقالة الكاتب محمد سامي الكيال: “مفهوم السُنّة”… والدولة الطائفية في سوريا” لتفتح نافذة نقاش حول مفهوم “السنّة” وحضورهم “السديمي المُهدِّد” في وعي الأقليات الطائفية في سورية.

وتتمة لما طرحه الكاتب من تفكيك لهذه الصورة المتشكّلة تاريخياً في الوعي السياسي والاجتماعي للطوائف الأخرى، وإشارته المتكررة إلى دور “المتخيّل” والرواية الشفوية في إيجاد “طائفة سنّية يجعلها امتدادها وتمايزها وانقسامها أكبر من أن تكون طائفة”، فإنّ من الضروري البحث عن التمايز أيضاً و”المتخيل” من صور ترددها عصبويات ريفية ومدنية تنتمي إلى الفضاء الثقافي السنّي تجاه الطوائف الأخرى.

بداية ينبغي التمييز بين مدلولات كل من “الأقليات” و”الأقليات الطائفية”، فالأولى أكثر اتساعاً من جهة شمولها على قوميات وعصبيات متباينة في درجة تماسكها وانتشارها، مثل الأكراد والسريان الآشوريين والتركمان، بينما تقتصر الثانية على العصبيات المقابلة لمفهوم “السنّة” بحسب تعريفه من الأقليات الطائفية من علويين ودروز واسماعيليين ومسيحيين.

إنّ السنّة كـ”طائفة” ليست إبداعاً أدبياً وتاريخياً فقط من جانب الأقليات الطائفية، ويمكن رسم حدود ثقافية للطائفة السنّية يسهل علينا حصرها في مناطق جغرافية. فالوعي بـ”السنّة” يقلّ في بعض المناطق عن صلاحيتها لتشكيل طائفة محددة الملامح، ومثال ذلك حلب ودمشق والرقة، لكن في مناطق أخرى هناك “طائفة سنّية” تعيش هي الأخرى بوعي وهاجس مشابه للأقلية كما في الكثير من مناطق حمص وحماة وبعض مناطق ريف ادلب. وليس من المنطقي إحالة “السنّة” إلى مجرد فضاء ثقافي متنوع في وسط سوريا، ففيها وعي مقابل لـ”العلوية” و”الاسماعيلية” ويتقاسمون جميعاً درجة القلق والتوتر ذاته.

خمس محافظات

إن امتداد السنّة على اتساع سوريا يناقض فكرة وجود “الطائفة السنّية السوريّة”، وهذا يحيلنا إلى حصر السنّة كـ”طائفة” في المناطق المشبعة بالوعي الطائفي السني في مقابل الوعي الطائفي العلوي والمسيحي والاسماعيلي في الأرياف، وعليه، فإن مركز السنّة كـ”طائفة” وكَشَكلٍ من أشكال التمايز السياسي والاجتماعي ينحصر في خمس محافظات هي اللاذقية وطرطوس وحماة وحمص، وادلب بدرجة أقل. ولم يجد حافظ الأسد صعوبة في أن يجد قبولاً في دمشق، وكل ما كان على الأسد فعله للعبور بطائفيته إلى العاصمة هو تأدية صلاة العيد على الطريقة السنّية لتسكين هواجس عامة الشعب والسماح بمسحة اسلامية على المجتمع الأهلي في العاصمة وحلب. وبناءً على شدة الوعي الطائفي فإنه من نافل القول أن تكون حلب ودمشق هما معقل “السنّة” وتجاوزاً حمص وحماة، المحاذيتان والمتداخلتان مع الانتشار العلوي “غير المرغوب” على عكس وجود الاسماعيلية المتخاصمة تاريخياً مع نظيرتها العلوية، وهذا التباين بين المراكز الاجتماعية السنّية هو الذي فتح المجال أمام انخراط غير مشروط لأبناء الأقليات الطائفية في مؤسسات الدولة، بدءاً من الموظف الصغير وحتى رئيس الجمهورية.

المجتمعات المحلية السنية قابلة للتنوع الشديد بحيث تصبح درجة تقرب أحدها “سياسياً” وتواطؤها مع طائفة خارج المجتمعات المحلّية السنّية تقليدٌ حكم من خلاله حافظ الأسد وابنه أكثر من أربعة عقود.

نسخة عراقية

الصورة الأخرى للسنّة “الطائفة” بدأت بالظهور مع اشتداد الجرائم ضد الثورة السورية، وأحد تجلّياتها كان في شرق سوريا حيث دير الزور والبوكمال وعرب الحسكة الذين قرأوا قمع النظام للثورة “كامتداد شيعي على بلاد السنة”، ويعثر المرء بكثرة على أوصاف مثل المجوس والشيعة والرافضة وأحفاد الخميني على صفحات الفيسبوك لأبناء المنطقة الشرقية، فهؤلاء، بالتالي، قاموا بنسخ المقولات الطائفية التي يتداولها سنّة العراق ضد شيعته وأسقطوها على سوريا، فأصبح العلوي في نظر سنّي من دير الزور هو غير العلوي الذي يعرّفه سنّي من سهل الغاب.

التمايز الطائفي المفقود

في مدينة شاسعة مثل حلب، تدل كلمة الأقلّية على المسيحي والأرمني، فيما العلوي مجرّد رجل أمن، يقيم في جبال بعيدة جداً عنه. والحلبي لا يجد في مدينته مجتمعاً او كانتوناً علوياً كما هو الحال في دمشق، فهي مدينة عصبويات اجتماعية يتنافس كثيرها على موقع “الشبيحة”. وصحيح أن هؤلاء يمارسون التشبيح بمقابل مادي، إلا أنه أيضاً يدعمه عدم استيعاب لتمايزهم الطائفي، هكذا لا يزال الكثيرون في حلب يفسرون ما يجري على خطوط التماس الطائفية وتهجير سكان قرى سنّية من سهل الغاب على أنه اقتتال بين سوريين يسعون إلى السلطة.

وفي ريف حلب الغربي يختلف الأمر قليلاً، وقد لا يكون مصادفة أن تكون القرى والبلدات الثائرة هي الواقعة على خط “حريتان نبل – الزهراء”، ففي الأولى يقع مقر القنصلية الايرانية التي يتهمها السكان المحليون بنشر التشيّع في بلدتهم ثم في مدينتهم، والثانية والثالثة بلدتان منغلقتان يقطنها الشيعة والعلويون.

إيراد الأمثلة السابقة لا يعني أن الوعي بالآخر الطائفي هو شرط للثورة، لكن لا يمكن القفز عليه كونه إحدى الأدوات التي تجعل من الثورة في جانب منها “مناهضة” للأقلية الحاكمة بوعي طائفي.

موقع الأكراد

ويحتار الباحثون الاجتماعيون في تحديد تصنيف دقيق لنسبة السنّة في سورية، فالعديد من الرسوم التوضيحية التي بثتها وكالات الأنباء العالمية أظهرت تضارباً بشأن تصنيف أكراد سورية، فمرة هم ضمن مؤشر الأقليات وأخرى ضمن السنّة. بينما من المفترض أن يكون الأكراد مقابل “العرب” باعتبار أنهم يعرّفون أنفسهم على أساس قومي. ولم تخلخل الثورة السورية القاعدة السياسية الصلبة لأكراد سورية في عدم التماهي طائفياً مع السنّة رغم أنّ غالبيتهم مسلمون سنة، فالحامل السياسي للقضية الكردية هي القومية وليست الطائفة، وهم أيضاً لديهم ما هو “متخيّل” وما هو حقيقي بشأن الآخر الذي هو “عربي” بالضرورة.

والحق يُقال أن الكرد السوريين لم يلجأوا إلى الابتزاز كما يحلو لبعض المثقفين العرب وصف ذلك، فحتى عندما تلقوا أشد الطعنات من فرقاء في المعارضة “العربية” بشأن حقوقهم القومية فإنهم لم يغادروا ساحات الاحتجاج على النظام والمطالبة بإسقاطه، كما لم ينخرطوا في ميليشيات الشبيحة. كل ما في الأمر أن النظام لم يضعهم أمام معادلة: “إنْ لم أقتلك في الشارع سأقتلك في منزلك”، إضافة إلى أن الثورة ليست انقلاباً على الفكر القومي العروبي الذي يرفضه الأكراد.

وهنا مثال آخر على التنوع المربك في الفضاء الاجتماعي السني، ففي منطقة عفرين الكردية في ريف حلب، يتسابق العرب “السنّة” فيها إلى تقديم الخدمات للنظام الأمني في ظل الثورة، لأن وعيهم السياسي يدفعهم إلى اعتبار الأكراد “آخراً” يهدد وجودهم وكذلك الأمر بالنسبة لمعظم عرب مناطق القامشلي. وهذا الكلام ليس غطاءً إعلامياً على الكرد، بل وقائع ميدانية يدركها عناصر الجيش الحر جيداً على التخوم الجنوبية لمنطقة عفرين. إذاً، الأكراد هم سنّة من حيث أنهم مجتمع أهلي، وقومية كمجتمع سياسي لا تدخل الطائفة في اعتبارات بناء تحالفاتها في الحاضر والمستقبل.

محك الطائفية

الكاتب محمد سامي الكيال طرح تساؤلين أساسيين في مقالته: هل يمكن لـ”السنة” أن يتشكلوا كطائفة سياسية الآن أو في المستقبل؟ أم أنهم حقاً مجموعة من العصب وسيبقون كذلك دوماً في مجتمع عصبوي لا يتغير؟.

توجد في سورية طائفة سنّية، لكن لا تصل إلى درجة أن تكون هي “الطائفة السنية”، فليست هناك مركزية في صياغة الوعي الطائفي، ولا تستمد العصبيات الأهلية مصادر تشكّلها من “آخر” متشابه في خصائصه كما هو الحال مع الطائفة العلوية التي تحتفظ بصورة موحدة إلى حد كبير للسنّة، وقد يعتقد زعماء هذه الطائفة من المنخرطين في السلطة أن الاستجابة المحدودة لمدينة مثل حلب يشكل نجاحاً لهم في تفكيك العصبية الطائفية للسنة، وهذا الاعتقاد ساذج ويتجاهل البنى الثقافية والاقتصادية المتنوعة التي تنتج وعياً غير موحد للسنّة.

إن الجيل الجديد في سورية الممتد نظرياً من الثمانينات وما بعده، عرف السنة كطائفة، في لبنان قبل سورية. ووقف هذا الجيل في حيرة عندما اجتاح حزب الله وحركة أمل بيروت في أيار 2008. كان السؤال الطائفي مباغتاً على السوريين المنتمين إلى الثقافة السنّية على اعتبار أنّ السنّة كطائفة قد حسمت خيارها بالصمت والتأييد الضمني لسنّة بيروت.

في طور البناء؟

اليوم، تتدفق التقارير والروايات عن انخراط جماعة حزب الله في القتال إلى جانب النظام، وخاصة في منطقتي القصير في ريف حمص والزبداني ومضايا في ريف دمشق، وهذا يعيد فرملة الفضاء السنّي الأوسع لتشكيل موقف موحد قد يرقى إلى أن يكون نواة لظهور كائن اجتماعي يرتدي وشاح الطائفة، وبنفس الدرجة من التأثير يفعل فعله ذلك الكلام عن مشاركة ميليشيات موالية للزعيم الشيعي العراقي مقتدى الصدر في القتال ضد الثوار بمناطق شرق سوريا وحمص. مثل هذه التطورات في حال تفاقمت الروايات في تناقلها- بغض النظر عن صحتها فإنها تلعب دور القناة الخارجية الغزيرة التي تقوم بتشبيك السنة في سوريا كطائفة ليس لها ما يعادلها في الوزن والقوة محليّاً، وهنا سيلعب “الآخر” المتخيل أحيانا والحقيقي أحيانا أخرى دوره في إعادة صياغة شاملة للمجتمع السوري الذي يشكل السنّة عصبه الرئيسي، تتقلص فيها التمايزات المحلّية بين الخصوصيات الاجتماعية على حساب تقدّم التماثل أمام الآخر الطائفي المحلي والاقليمي.

فوق كل هذا، هناك خطاب غير علني لكنه يحظى بإجماع شبه تام بين سنّة سوريا على اختلاف تنويعاتهم، مفاده: سنغلق الثغرة التي دخلوا منها إلى الأبد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى