صفحات سورية

هل حقا اخترقت “القاعدة” “الجيش الحر”؟

الطاهر ابرهيم

 كنت من الذين رفضوا في بداية الثورة السورية، الدعوات التي تطالب بالاستعانة بالأجنبي لتحرير سوريا من حكم الاستبداد. كانت قراءتي لا تبعد كثيرا عن الموروث الوطني السوري.

تلك القراءة التي ترفض أن نستعين بالأجنبي للخلاص من قمع بشار الاسد وأجهزة أمنه وشبيحته، حتى لو جاءت المعونة الأجنبية “مجانا”، مع أن واشنطن لا تقدم المساعدة مجانا ولا تمد يدها – لوجه الله – لمظلوم.

استطرادا فقد عجبت كيف أن الأستاذ رياض الترك يقبل معونة الأميركي إذا جاءت”مجانا”. ففي مقابلة له مع إذاعة “سوا” عقب احتلال أميركا للعراق، قال، وبالحرف الواحد: “الشعب العراقي كان في السالب في عهد صدام حسين، وهو الآن ارتفع إلى مستوى الصفر”.

اليوم، رغم الحماسة التي أظهرتها إدارة الرئيس باراك أوباما لإرغام بشار الاسد على الرحيل، لكن أيا من رموزها لم يعمل على وضع هذه الحماسة موضع التطبيق. حتى إن رجب طيب أردوغان رئيس الحكومة التركية أصيب بالإحباط بعد أن ظن أن أوباما سيدفع في اتجاه إنشاء منطقة عازلة في شمال سوريا، أو على الأقل يسمح بتزويد “الجيش الحر” بأسلحة مضادة للطائرات والدروع، خصوصا في الأشهر الأخيرة حيث كانت طائرات بشار الاسد تقصف المدن والبلدات بالبراميل المملوءة بالمتفجرات. كما عجبت كيف أن التبريريين في أوروبا وافقوا واشنطن علي رفضها تسليح “الجيش الحر” مبررين بخوفهم من أن تقع هذه الأسلحة بأيدي “القاعدة”.

فعن أي “قاعدة” يتكلمون؟ سوريا لم تعرف “القاعدة” في تاريخها إلا يوم ألبس بشار الاسد بعض ضباط مخابراته عمائم المشايخ، فقام هؤلاء بتجنيد بعض المغرر بهم من بعض الدول العربية وأرسلوهم إلى العراق لقتال الأميركيين. يومها كانت مصلحته تقتضي ذلك. ويوم استلم نوري المالكي الحكم في العراق، أصبح النظام العراقي في خندق سوريا وإيران و”حزب الله”. عندها طلب نظام الاسد من مشايخه الضباط إعادة المقاتلين لأن مهمات جديدة تنتظرهم.

اعتقلوا ووضعوا في السجون. ولإخفاء ذلك أمر باغتيال زعيم هؤلاء الضباط المشايخ محمود قول أغاسي المعروف بـ”أبو القعقاع” عند خروجه من خطبة الجمعة في مسجد حي الصاخور في حلب. وهنا لا بد من التفصيل، عما إن كان التخوف من الإسلاميين له رصيد على أرض الواقع في سوريا أم لا؟

جماعة الإخوان المسلمين كانت محكومة بسيف القانون 49 الذي يحكم بالإعدام على كل من يثبت انتماؤه لهذه الجماعة. على أن اليساريين والقوميين والليبراليين والشيوعيين لم يكونوا بأفضل حال، إلا أنهم كانوا يحظون بهامش ضئيل من الحرية على الساحة السورية. أما الإخوان المسلمون فاستطاع القانون 49 أن يجعل من وجودهم صفرا وعدما في سوريا.

اندلعت الثورة في سوريا ابتداء من 15 آذار في مناخ اضطر فيه المتظاهرون أن يجعلوا سقف آمالهم أخفض مما وصل إليه إخوانهم في تونس وفي مصر فقد كانت “الحديدة حامية”، كما يقولون. كانوا يقبلون بالوصول مع النظام إلى قواسم مشتركة بحيث “لا يموت فيه ذئب النظام ولا يفنى فيه الغنم السوري”. كان الكل يخشى سطوة أجهزة الأمن. كانوا من مشارب شتى، فيهم الذي لا يعرف الصلاة إلا في يوم الجمعة، وفيهم من يصلي وقتا وينام عن آخر، وفيهم من يواظب على صلواته كلها، لكن الجميع يصومون في رمضان.

قبل الثورة كان هؤلاء المتظاهرون يتسكعون على مقاهي الأرصفة، وربما للتحرش بالفتيات. يسمع أحدهم الآذان فلا يترك “الأركيلة” ليقوم إلى الصلاة في المسجد. كما ألزم حافظ الاسد المدارس بتدريس مقولات زكي الأرسوزي في مادة الثقافة الوطنية ودروس التربية الحزبية، فضعف التزامهم بالعبادات المفروضة. لكن هذا التشويه الأخلاقي المتعمد لم يكن لينسيهم أن كرامتهم مهدورة وحرياتهم مقموعة.

انطلق الشباب في الجمعة الأولى يهتفون: سلمية… سلمية. ربما لو تصرف الأمن بكياسة وسياسة، لكان الوضع في سوريا مختلفا عما نحن فيه. لكن فظاظة رئيس الأمن السياسي في درعا عاطف نجيب جعل من محافظة درعا كلها مرجلا يغلي، والجميع يعرف كيف آلت الأمور بعد ذلك. ومع تعاظم التظاهرات تطورت الهتافات على وقع سقوط الشهداء وتدفق الدماء في الشوارع، تغير الهتاف وانطلقت الحناجر بالتكبير مع سماع زخات الرصاص.

الشباب الذين أرغمتهم البطالة والفراغ على ارتياد المقاهي لقتل الوقت صارت الشوارع هي مكانهم المفضل يتظاهرون فيه. يودعون بعضهم مغرب كل يوم بعد أن يدفنوا شهداءهم. في اليوم التالي يلتقون من غير ميعاد، تشتبك أيديهم ينشدون الأناشيد بعد أن حورت من الأغاني التراثية السورية، يهتفون لسقوط النظام. وحين تحاصرهم الأجهزة الأمنية بالرصاص يكبر بعضهم فيكبرون معه ويدعون: “ما لنا غيرك يا الله”. أصبحت هذه “اللازمة” يرددها الجميع في تظاهراتهم. وصار هذا الدعاء “علَمهم” الذي يحتمون به إذا حاصرهم الرصاص.

أما “الجيش الحر” الذي انشق عن جيش بشار الاسد فإن وضعهم ربما كان أبسط من الذين يتظاهرون. فكما حاول حافظ الاسد أن يفسد عقول الناشئة في المدارس والجامعات فقد أراد أن ينشئ جيشا عقائديا بعيدا كل البعد عن الإسلام. ما يعني أن أفراد الكتائب المنشقة بعيدون عن اتهامات واشنطن لهم بأنهم “سيفرخون” مع الأيام سلفيين و”قاعدة” وأخواتها. وكما عاد من كان يتظاهر إلى فطرته الإسلامية، فقد عاد أكثر المنشقين إلى فطرتهم الإسلامية، عندما كان يطلب منهم أن يطلقوا النار على المتظاهرين بدون ذنب. وكلما كانت مجموعة منهم تنشق، تعلن عن نفسها في تجمع يضمهم، ثم يقول أحدهم: “تكبير” فينادي الجميع: الله أكبر.

ربما لفتت تلك اللازمة وهذا التكبير انتباه واشنطن فأعلنت أنها تخشى أن يصل السلاح إلى أيدي أولئك الذين يقولون “ما لنا غيرك يا ألله”، وهؤلاء الذين يكبرون عند انشقاق مجموعة جديدة. سيئو الظن بها يقولون إن واشنطن تعرف أن هؤلاء الذين يكبرون من المتظاهرين والمنشقين ليسوا من “القاعدة”، لكنها لغاية في نفس المحافظين الجدد والقدامى تريد أن تبتز قادة الثورة في سوريا، خصوصا قادة ألوية “الجيش الحر” الذين يقاتلون جنود النظام، لفرض شروط واشنطن على النظام الذي سيخلف نظام بشار.

سيئو الظن هؤلاء يذكّرون كيف فبركت واشنطن أسباب سقوط الطائرة المصرية عام 1999 قبالة ساحل ماساتشوستس الأميركي بعد ساعة من إقلاعها. دلت تسجيلات الصندوق الأسود أن آخر كلام الطيار جميل البطوطي كان: “توكلت على الله”. الأميركيون فسروا كلام البطوطي بأنه قام بعمل إرهابي لإسقاط الطائرة. سيئو الظن قالوا إن الطائرة المصرية أسقطها صاروخ أميركي، وجاءت “الفبركة” لذر الرماد في عيون المصريين.

شقيق البطوطي علق على تفسير كلام أخيه “توكلت على الله” بأن المصلين في المساجد يكبرون بشكل جماعي، ما يعني أنهم كلهم إرهابيون. يبقى أن نقول: حسنو الظن وهم كل المتظاهرين السوريين أدركوا أن مماطلة واشنطن في تسليح الجيش الحر متناسب مع أجندة إسرائيل التي تريد تدمير سوريا جيشا وشعبا. لذلك كانت لافتات المتظاهرين في آخر جمعة تحمل شعار: أميركا! ألم يشبع حقدك من دمائنا؟

عضو الاخوان المسلمين السوريين

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى