صفحات الثقافة

تغريبة فرج بيرقدار في سجون المخابرات السورية


حسن عبّاس

“قبل الإعتقال كان “الأمس” بالنسبة إليّ ذكريات ملوّنة وراعشة ومتموّجة كأجنحة الفراشات… بعد إطلاق السراح يصير “الأمس” كابوساً”. هذا مما كتبه فرج بيرقدار في كتابه الموسوم “خيانات اللغة والصمت/ تغريبتي في سجون المخابرات السورية”، الذي يتضمّن مذكرات وأفكار من وحي 14 سنة أمضاها بين فروع الأمن والسجون السورية. الآن، يحاول في مخيلته رسم لوحة أخرى بألوان أقل قتامة، لوحة يرتسم فيها المنتفضون العرب ضد جلاديهم. هذا ما يبدو من المقدمة المقتضبة التي كتبها على نيّة إصدار “دار الجديد” البيروتية طبعةً ثانية من كتابه.

لا يمكن حصر الأفكار التي تتناهى إلى ذهن قارئ تغريبة بيرقدار، لكنها جميعاً تمتزج بنوع من الخوف. الخوف من رؤية سجين يعبّر عن معاناته بلغة شعرية، والخوف من قدرة إنسان، يُفترض أنه مثلنا، على احتمال ما احتمله، والخوف أيضاً من قدرة إنسان على ارتكاب ما ارتُكب في حق الكاتب وحق المساجين الذين عاش معهم بعض العمر. مضمون الكتاب نصوص كان بيرقدار كتبها داخل سجنه وساعده البعض على حفظها خارج الزنازين، لذلك يعتبره الكاتب “عملاً جماعياً على نحو ما”.

على ضفاف جسده المعتقل، وجد بيرقدار طائره المتفلّت من القضبان. السجّان لا يمكنه أسر الفكر ولا الشعر، خصوصاً الشعر. يكتب الشاعر: “شيئاً فشيئاً بدأت أدرك أن الشعر بالنسبة إليّ هو طائر الحرية الأجمل… هو التمرين الأقصى على الحرية، وبصيغة أخرى هو ما ليس قابلاً للأسر”، ويضيف: “لو كنت سياسياً فقط، لكان يمكن أن أنهزم… غير أن الشعر استطاع أن ينقذني، ويعطي حياتي في السجن معنى مختلفاً وقيمة مختلفة عمّا يراد”.

“ما من شيء يستطيع أن يشدّ القوس بي إلى النهاية أكثر مما يفعل الشعر”. ربما من هذا الشدّ يذهب بيرقدار إلى وصف بعض مشاهد التعذيب بتهويمات شعرية ترسم لوحات ملوّنة عن سلوك جلاّدي السجون السورية. “سياط تتخطّف ظلالها، وتعيد اشتقاق الألوان”. هكذا يصف آثار السياط على ظهور المساجين! فهل هناك أقوى من هذا الوصف!

في أحد مواضع شهادته التي يستذكر خلالها ما قضاه في سجن تدمر يتحدث الشاهد عن “تدمريات… ما فوق سوريالية”، مشاهد بصرية حاول تصويرها بلغة الكلام خاطّاً تخطيطات تنتظر رساماً ليحوّلها لوحات عن الإنسان عندما يسلك سلوكيات عنيفة بهيمية تجاه الإنسان. يختم إحدى لوحاته التي تصف مشهد انتزاع أذن سجين بـ”البانسه” بقوله: “كل ذلك يبدو مرسوماً على نحو برقي خاطف، وبطريقة تؤكد أن الألوان ليست مسألة بصرية فقط، وإنما هي قابلة وقادرة على اختزان الرائحة والحركة وحتى الصوت”. منتهى الرعب بلغة الشعر!

يعشق معتقل الرأي المولود في مدينة حمص عام 1951 الألوان. خلط الألوان يبدو لعبته المفضلة في الكتابة. لم يكتب بالأبيض والأسود. يكتب بكامل ما في المشهد من حياة. أوليس صاحب الرأي المخالف للنظام في الأنظمة القمعية لا يُنتقد إلا بحروف لونها أحمر! حتى أنطولوجيا الإنسان والمكان والزمان يراها بيرقدار ملوّنة. “حين يُعامل السجين بوصفه رقماً حيادياً أو لقباً ازدرائياً، وحين يطغى الرمادي على الزمان والمكان في نسق جهنمي مطفأ وبارد وملول، تأخذ الألوان أبعاداً مختلفة، ويغدو الإحساس بالتمايز، والبحث عن الذات والقبض عليها داخل الزمن، مسألة وجود أو لا وجود”.

بين السجن والحرية علاقة تضايف! الكاتب يحب الجدل والعلاقات المثلثة بين الأشياء. المتناقضات في ذهنه لا تدور في أفلاك منفصلة. ثمّة علاقة تجمعها لتعطي التناقض معناه. ليست طريقة التفكير هذه مستغربة من كاتب اعتقل بتهمة الإنتماء إلى حزب العمل الشيوعي. “يبقى السجن سؤال الحرية الأول، وبالتالي حضورها الأقصى، وإن كان مطروحاً من موقع النفي”. الحياة خارج السجن ليست نقيض الحياة داخله. الديكتاتورية تربط بينهما بإدخالها الكابوس إلى المعادلة. يقول بيرقدار في ما يقول: “أحياناً أفكر أن الفارق بيننا كسجناء كاملي العضوية، وبينكم كسجناء مرشحين أو احتماليّين، هو في موقع الكابوس، وليس في وجوده أو عدمه. بالنسبة إلينا فإن الكابوس في داخلنا. أما أنتم فإنكم داخل الكابوس”.

بين فروع الأمن والسجون السورية “تعلّم” بيرقدار كثيراً. خبر احتمالات جسدية لن يعرفها من لم يقابل السجّان السوري! في السجن تعرّف إلى حدود هذا الذي نسمّيه جسداً. لم يكن مثلاً يفكّر أثناء تعذيبه بالآلام اللحظية: “كنت أفكر بالعتبة التي يستطيع الإنسان تحملها”. حتى الموت له درجات! درجات حدودها القصوى لا يختبرها إلا الأحياء من الذين عاشوا ما عاشه! “لم أكن أعتقد أنك تستطيع الموت إلى هذا الحد!!”. في الطريق إلى سجن تدمر، عندما كانت “طميشة” على عينيه، ويحاول بحواسه الأخرى تتبّع الطريق الذي تسلكه البوسطة التي تقلّه، خبِر “مدى الأهمية والكيفية التي تعمل بها الحواس الأخرى لدى الضرير”. مع الصفعات التي كانت تنزل على رأسه وزملائه “اكتشفنا… أن غشاء الطبل… صفعة واحدة تكفي لثقبه أو تمزيقه”. “تعلّمنا كيف يمكن ترقيع الثياب أكثر من مرة… وكذلك الروح والجسد وحتى الذكريات”.

لم “يتعلم” فقط عن الإنسان. “تعلّم” عن الكون الذي يمكن “توسيع حدوده بالصراخ”. تعرّف إلى «كائنات خرافية عمياء”. أدرك عجز الله أمام شر الإنسان! “كل الأشياء مقلوبة… كل الآلهة عاجزة ومجللة بالخزي… وحده الموت يقف عابساً مهيباً ثابت الجنان”. لمس ما لم يذكره أي نبيّ من تهديد بعذابات تنتظر الكافرين، في فرع فلسطين: “أحد عشر شهراً من التحقيقات، كان الله، خلالها، ينظر إلى جهنمه بازدراء”. خبر استخدامات للأظفار والأسنان لا يعرفها من لم يعرف فروع الأمن والسجون السورية، وإن كانت استخدامات مجازية تحفر في لغتنا تشبيهات وطرقاً للتعبير: “بأحذيتهم يحاولون محو ماضيك… وبأسنانك وأظفارك تحاول أن تتشبث بالزمن والذاكرة والأحلام”.

لا أعلم لماذا كتبت ما كتبت عن كتاب فرج بيرقدار. لم أكتب عن وصفه لذاك السجين الذي أجبر على بلع فأر ميت فأصابه الجنون. لم أكتب عن السجين الذي نسي اسم أمه ولا عن الآخر الذي ظنّ بعد سنوات من منع الزيارات عنه أن أخته هي أمه. لم أكتب عن مازن الذي اعتقل لأنه حلم حلماّ فسّره إبن بعثين على أنه يخفي نيات ضد النظام. لن تعرفوا مما كتبت عن “مهجع البراءة” ولا عن الكوابيس الجماعية التي لم يكن الكاتب يتصوّر أنها من الممكن أن تحدث “حتى في الأنفاق الأخيرة من جهنّم”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى