صفحات الثقافة

سوريا: المطلوب ثورة على مقاس المثقف


ميدل ايست أونلاين-  بقلم: الياس س الياس

كما كان الخوف قائما قبل الثورة وانكسر عند البسطاء فإنه عشعش أكثر عند مجموعة من المثقفين الذين يدعون أنهم يتخوفون مما سيكون بعد الثورة.

لي شخصيا أصدقاء في العالم الافتراضي… هم بشر وسوريون في الجانب الآخر… هنا في رام الله تتفاعل الناس مع الثورات العربية، والسورية ربما تكون صاحبة النصيب الأكبر… بعض المثقفين هنا يخشون وكأنهم سوريون.. خشية على الثورة ومستقبلها.. أختزلها في خوف من “السلفية والرجعية والقوى المحافظة” والثورات المضادة باسم “الرجعية المحلية وامتداداتها الإقليمية والدولية… من أجل مصالحها”… هؤلاء الفلسطينيون من “يسار ووسط” الثورة الفلسطينية وفصائلها، وهم شخصيات نحترمها ينسون شيئا مهما: الثورات ليست رغبات حسب المقاسات! (ندوات فيصل حوراني وسميح شبيب).

نعود للمذهل في نقاشات الأصدقاء السوريين… ومازلت عند قناعتي بأن الثورة السورية هي من أكثر الثورات العربية تفاعلا مع ذاتها ومجتمعها وهي ثورة مؤثرة وفاعلة وليست مجرد ثورة “شباب طيبون” كما يطلق عليهم البعض.

لنفترض أن قطر وغيرها تريد التأثير في ليبيا ما بعد الثورة، وربما في سوريا لاحقا… ليكن الأمر واضحا: من أسقط أنظمة الاستبداد والرعوية الأبوية هل يقبل ببساطة أن يخوض الآن في سوريا بالافتراضات التي تشبه فرضيات فيصل الحوراني، كمفكر يساري سابق، وهو يعي الأمور ويخوض ثورة في إعادة اكتشاف الذات أولا وقبل كل شيء؟

من الطبيعي جدا أن يملك هؤلاء مخاوفهم وأمر مشروع أن يخاض في النقاش “الفكري والنظري” ولكن لا أن تكون النتيجة في التخيير بين ثورة ونظام استبدادي عربي يُشعر “المثقفين” (من الفئة التي لم يحدثنا عنها غرامشي ولا ادوارد سعيد) ببعض الطمأنينة من مخاوف: حرف الثورة عن مسارها لمجموعة من العوامل كالدين وغلبة طائفة الأغلبية العددية مستقبلا… فهل الفنان والمثقف الذي حارب “بيان الحليب” والدعوة لقصف الشعب بالطائرات يفعل ذلك حقا كخوف من المستقبل المجهول، سأذكر بعضها كوني لست متحسسا منها بما أني لست سوريا…

المثقف الذي لم ينغمس في الثورة ولو فكريا ولم يقدم لواقعها سوى مزيد من المحظورات التي لا يجب الاقتراب بها تحت طائل “الطائفية”…

مذهل نقاش البعض، وإن كانت قيمة تقديمهم شيء اضافي للثورة هي في جوهرها تنساق وراء القلق والخوف وبالتالي التخويف.. ليس لدي وهم أن الثورة السورية انجزت الكثير على الصعيد الفردي والجمعي.. لكن يستوقفني أحيانا الخوف الزائد والفائض عن قدرة مجتمع عمل عليه الاستبداد ليكون على مقاسه… ومع بعض الأسف البعض يقع في فخ استمرار النقاش على ذات المنوال… النقاشات مقدمات لاستنتاجات أتركها للقارئ وهي لسان البعض ممن استمعت وناقشت معهم فوجدنا توافقا على أن بعض “المثقفين” يضعون أنفسهم نظريا على الحياد في الثورة… بالرغم من أن الحياد في الثورة وخصوصا عن المثقف هو نوع من منح الاستبداد اكسير حياة وتشتيت ذهني لهؤلاء الذين يطلقون عليهم “شباب طيبون”:

– هل حكم الأسد طائفي أم يعتمد على استغلال الطائفية؟ الغوص في هذا النقاش يحمل الكثير من الاختلافات وأحيانا ممارسة إنكار شبيه لانكار الأسد لوجود ثورة في بلد السوريين… لكن البعض يطرح بدون إنكار وحرج الفرضية التالية:

– هل الثورة سنية؟ الشعب السوري خرج في منطقة كانت تعتبر خزان حزبي في حوران فهتفت الجماهير “واحد… واحد… الشعب السوري واحد”… فلماذا يقفز النقاش حول هوية الثورة السورية دون تمحيص بخلفية أخرى لممارسات نظام فاشي بحق ما يعتبره بسطاء الناس مقدسات بالنسبة لهم والادعاء كتابة وهتافا بالوهية وربوبية الأسد… وللدلالة على مخاوف هؤلاء يوردون التالي:

– لماذا تسمية كتائب الجيش السوري الحر بأسماء شخصيات دينية؟ سؤال مشروع لو أن خالدا وعمرا وحمزة ليسوا عربا… ومشروع إذا سمح لي الأصدقاء بسؤال محظور آخر:

– لماذا لم نر انشقاق عسكريين أو قيادات عسكرية من طوائف أخرى؟ طبيعة المجتمع السوري هو مجتمع إنساني وليس ملائكيا، تظهر التخندقات الطائفية والمذهبية لحظة الأزمات المميتة التي وضعها النظام كمسطرة تمنح الوطنية والخيانة لمن يشاء.. فـ”خيانة” العلوي مثلا أشد من “خيانة” السني حين ينقلب على هذا النظام الذي استغل العلويين أبشع استغلال وقتل وسحل منهم ما لا يمكن تخيله من أجل تأجيل اللحظة الراهنة…

– السؤال عن التسميات ومؤشراتها تبتر شيئا من الحقيقة، لعب النظام على تأجيجها فوقع في فخها حتى من يدعي العلمانية في المجتمع السوري… لقد صدر النظام الاستبدادي شعارا لم يطلقه الشارع الثائر عن العلويين والمسيحيين والتابوت وبيروت… فلم نر على الأرض مثلا تابوتا لفدوى سليمان وعارف دليلة وعبدالعزيز الخير إلخ.. ولم نر ميشيل كيلو وجورج صبرا والعشرات من المفكرين والثائرين يطردون من جنة الثورة بقدر ما اقترب وابتعد هذا وذاك وهذه وتلك عن ثورة الناس. ليس سرا أن الأسد الأب، وحتما الأسد الابن، مارس توزيع المناصب والأدوار لأصحاب القرار لطائفة يقول لها اليوم كنتيجة لتلك المقدمة: إما تحاربون معي أو ستسقطون معي! أمر يذكرنا هنا بما قاله البوطي: سقوط النظام يعني سقوط الإسلام والعروبة… ويذكرنا بمفتي الأسد وهو يشرعن للأسد هذا الكم من القتل على خلفية أن رب العالمين معه…

– الاستعارات الدينية والطائفية تقوم على أن المجتمع السوري بطبيعته مجتمع متعدد الأديان والقوميات… وليس مجتمعا كما في خيال البعض المثقف… لا يتورع بشار الأسد عن تكرار قصة نضال جنود مرة اثر مرة للتخويف من القادم… بينما يتم تجاهل إبراهيم القاشوش وغياث مطر والمئات ممن سلخت جلودهم وسلمت جثثهم بعد أيام وأسابيع من اعتقالهم… نفي أن النظام استغل تسريب أفلام فيها إذلال ومهانة للبشر على أيدي عصابات وفرق موت بلكنة معينة يعرفها السوريون هدفت بالضبط إلى ما يجري نقاشه اليوم… فلماذا قتل وسحل الناس بسؤال سخيف: بدكن حرية.. بلكنة ساحلية تؤشر على أن الفاعل من طائفة الرئيس؟ هذا الفخ وقع فيه بعض المثقفين منذ بداية الثورة السورية، من الطرفين السني والعلوي، وحري بالمثقف أن يكون منتميا لما هو أوسع من الطائفة وأن لا يغلق عقله على الانتماء المُخوف من الآخر لمصلحة الاستبداد..

– إن تغني ابواق النظام بهدوء السويداء وطرطوس وحلب مثلا حملت مؤشرات طائفية أولا وأخرى للدلالة بنفس طائفي أن حلب معه رغم أنها سنية بالأغلبية… كما ذهب النظام إلى تغذية أتباعه من الأكراد لقمع التحرك الكردي وبث إشاعات عن رغبة بالانفصال، فتم قتل مشعل تمو ولصق الاغتيال بعناصر عصابات تركية وعربية لم يظهر للآن نتائج التحقيق الكاذب الذي ادعاه… وبالرغم من وضوح الثائرين بحق الأكراد في مناطقهم ورفع الظلم التاريخي عنهم راح النظام يدغدغ الشخصيات والأحزاب الكردية بجملة من الوعود الكاذبة لقسم الحركة الكردية وإبعادها عن الثورة… أمر فشل في تحقيقه بالتأكيد… لكنه يكاد ينجح في زرع “التخويف” بين مجموعات وأفراد المجتمع السوري مما انعكس في نقاشات بعيدة عن روح الثورة…

– كما كان الخوف قائما قبل الثورة وانكسر عند البسطاء فإنه عشعش أكثر عند مجموعة من المثقفين الذين يدعون أنهم يتخوفون مما سيكون بعد الثورة… يلاحظ مثلا ناي البعض بنفسه عن الثورة واتهامها بالاسلمة لأنها تستوحي شعاراتها وهتافاتها ومناجاتها ربها من تقاليدها الدينية… فالتكبير الذي يجد فيه المتظاهرون كسرا لهيبة النظام القائم وتشجيعا للذات على الخوف.. صارت عند البعض محل خوف من أسلمة الثورة ونتائجها… وبالتأكيد من يخاف من أسلمة الثورة وتلاعب قوى ودول معينة بالنتائج عليه أن يكون سباقا في الانخراط بهذا الفعل الثوري والتأثير فيه بدل هز الأكتاف بلامبالاة وقلب الشفتين كتعبير عن عدم رضا والانسياق وراء رؤية رومانسية للمجتمع السوري:

– الكل يعرف كذبة أن نظام الأسدين عن علمانيته… والكل يعرف كيف استطاع التلاعب بالمؤسسات الدينية لمصلحته… والكل يعرف كيف جرى تفريغ مؤسسة الجيش من محتواها الوطني إلى تنصيب طائفة معينة عليها… الهروب من الواقع لا يعني أنه ليس واقعا… وبالمقابل تشعرني نقاشات البعض الذين لا أشك أبدا أنهم قدموا التضحيات وهم يحاربون الاستبداد والديكتاتورية قبل أن تظهر لنا الشخصيات الإعلامية الآن بأن إنكار واقع المجتمع السوري سيؤدي حتما إلى حالة من خيبة عند هؤلاء..

– هل موقف أدونيس من الثورة السورية صحي؟ وهل موقف مجموعة كبيرة من كل الطوائف من الثورة السورية وامتعاضهم من الشعارات الدينية والرموز تفيد في إنهاء الاستبداد وإسقاط النظام؟ ما من شك أنك أحيانا تصل إلى نتيجة مخيفة: هؤلاء من حيث لم يريدوا يمتعضون من الثورة ولكأن بعضهم كان يريد من المجتمع أن يتحول إلى مجتمع علماني أو على مقاسات تفكيرهم قبل التفكير بالانخراط فيها ولو فكريا… الشجاعة عند من استمع إليهم أنهم يعترفون بالواقع ولكن الإحساس بالاستعلاء والتخوف غير المبرر يدعوك للاستغراب من نأي البعض بنفسه عن فعل تاريخي تشهده سوريا… هؤلاء يدركون بحكم المعرفة أن لا مؤسسة دينية ولا تنظيمات سنية لها الفضل في انطلاق الثورة السورية… مؤخرا، ونتيجة القسوة والقمع بدأت تظهر شعارات دينية تصبغ الهتافات.. لكن هل هذا مخيف لمستقبل سوريا إذا كان الجميع، ولا أعرف إذا كان الجميع حقا، متفقين على دولة المواطنة التي يكون فيها الإنسان مواطنا وليس تابعا لهذه الطائفة أو تلك… ليكن الملحد ملحدا والعلماني علمانيا ولكن ليس بالضرورة أن تكون مهمة هؤلاء احتقار واستعلاء على ايمانيات المجتمع السوري… ولا يحق بالمقابل لأحد في سوريا الجديدة التي من المفترض أنها للجميع أن يتجاهل حق الناس في أن تكون كما تريد وفق ناظم المواطنة… وقد أُعجبت شخصيا برد زهير سالم على الموقف الصهيوني بالنسبة لافتراضية هجرة العلويين من سوريا… فهؤلاء عرب وأصحاب وطن… في قادم الأيام ربما نشهد شيئا مختلفا من الحوارات التي تفك بعضا من الحصار الذي فرضه نظام الاستبداد في تقسيماته المذهبية والطائفية للوطن السوري الذي بات يحدد الشعب مساراته المستقبلية كوطن نهائي لكل سوري وسورية…

ما طرحته ليس سوى خلاصة نقاشات شاركت بها وأنصت بانتباه شديد ومراقبة لصيقة لما يدور وهي ليست خلاصة مسلم بها على أنها حقيقة وحيدة… إنها فقط قابلة للنقاش والنقد كما أنقد أنا مطبات يقع فيها البعض مدفوعا بالعاطفة أو عن طيب خاطر بأفكار مسبقة ومن خندق التعود على ما كان قائما في سوريا التي يثور شعبها لتغييرها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى