صفحات المستقبل

تقنيات الوهم

روجيه عوطة

 “صدام حسين لم يمت”… ما يزال البعض يردد هذه العبارة، حتى بعد مضي حوالى سبع سنوات على إعدام الديكتاتور العراقي. فالمدافعون عن خلود القائد لا يصدقون الصور التي بثتها الوسائل الإعلامية لحظة تنفيذ الحكم به، فهم يعتقدون أنها مجرد مشاهد تمثيلية، وما الشخص الذي وقف على المنصة، ولفّ الحراس حبل المشنقة حول عنقه سوى “شبيه صدام”، وليس الطاغية نفسه. ثم كيف يموت قائد مسنود بكمٍّ هائلٍ من الخرافات والأساطير، لا سيما الدينية منها؟ فـ”صدام حسين لم يمت”، والدليل على خلوده أنه، بعد أيام قليلة على إعدامه، انتشر فيديو على الإنترنت، يظهر فيه وجه القائد محفوراً على سطح القمر.

مرت خرافة الطاغية العراقي في مرحلتين. في الأولى، رُفضت الصورة بوصفها وسيطاً تقنياً يخدع المشاهدين ويوهمهم بموت قائدهم. في الثانية، أعيد استخدام  التقنية نفسها، أي الصورة، لإحياء الديكتاتور في نقطة سماوية، يمكن للجموع رؤيتها بأمّ العين. وهنا، لا بد من الإشارة إلى أن خرافة “وجه القائد القمري” هي في جزء منها بمثابة رد على العجز الحداثي الذي ألمّ بالمجتمعات المحكومة بالطغيان في العالم العربي. فحين رأت الأخيرة صورة نيل آرمسترونغ على سطح القمر، وشعرت بضعفها السحيق رغم كل أساطيرها الدينية، ردّت على هذه الصورة بنفيها وإلغائها. من ناحية، أشاعت أن مشاهد الهبوط على القمر قد صُوّرت في أحد الاستديوهات الهولوودية. ومن ناحية أخرى، ربطت باستمرار بين القمر ووجوه القادة والطغاة.

 والحال هذه، أن معمر القذافي لم يُقتل، بل ظهر حياً على سطح القمر، وأسامة بن لادن لم تُرمَ جثته في البحر، لأنه بعد أيام على إعلان موته، انتشرت صورة على الشبكة العنكبوتية، يظهر فيها وجهه على القمر أيضاً. وقبل ذلك بسنوات، كان الإيرانيون قد رأوا صورة الخميني في المكان نفسه. بالتالي، لم يسلم البدر من أي جهة سياسية، وتحول إلى خرافة، غالباً ما تؤلفها تقنية التصوير أو برنامج الفوتوشوب. في هذه الجهة، لم يؤدّ ارتباط التقنية بالخرافة سوى إلى مزيد من الأسطرة والعصبية، المحتاجتين إلى بعض الحكايات والصور كي تشتدّا وتحتدما.

 هذا وقد تصبح العلاقة بين الخرافة الشعبية والتقنية، رسمية، لدرجة تبنيها من قبل الأنظمة. والمثال الأكثر تعبيراً عن ذلك، نجده اليوم في الخبر الذي تناقلته وسائل الإعلام عن قرار النظام الإيراني المتمثل في بث صورة المهدي المنتظر وصوته. وقد صرح وزير الإتصالات وتقنية المعلومات الإيراني، اللواء محمد حسن نامي، بأنه “مع تطور التقنية التي تتفوق على الألياف الضوئية، يمكن استخدام طبقات الغلاف الجوي لنقل المعلومات الصوتية والتصويرية، وسيتم إرسال صوت وصورة سيدنا الإمام المهدي للعالم أجمع عبر هذه الطبقات الجديدة”.

 بالتوازي مع ذلك، اتصل أحد المواطنين من تركيا، ويدعى “محمد”، بأحد البرامج على قناة “الحوار”، وقال إنه هو نفسه المهدي المنتظر، وإنه سيلسم نفسه إلى المنظمة الإسلامية العالمية كي تتأكد بنفسها من صحة اعترافه.

 هكذا، يجتاز النظام الإيراني الخرافة القمرية، ليخترق طبقات الجو، ويقبض على المهدي المنتظر صوتاً وصورة ً. بذلك، جمع بين قوته العلمية ورطانته الخرافية، موظفاً تقنية الإتصالات في خدمة الوهم. فكل الابتكارات العلمية لهذا النظام هي أقل قيمة من خرافاته. من هنا، تُسمى الأسلحة الإيرانية بأسماء دينية، كصواريخ “فجر” و”شهاب” و”كوثر”، ودبابة “ذو الفقار”، وغواصة “غدير” إلخ. إذ تسيطر التسمية الخرافية على التقنية العسكرية، وتطيح بها بوصفها إنجازاً علمياً. وفي حال غابت الخرافة، تتعطل التقنية، ولا تعود نافعة، بل إن الكثيرين يتحدثون عنها كمنتج تآمري، أبعد الناس عن همومهم ولوّث رغباتهم. بالتالي، لا تحتك المجتمعات المحكومة بالأساطير والعصبيات مع التقنية مباشرةً، بل تستخدمها انطلاقاً من كونها وسيطاً خرافياً.

 على هذا الأساس، تخسر الصورة أهميتها إن لم يظهر القائد فيها، كما يفقد القمر قيمته العلمية إن لم يُحفر وجه الطاغية عليه. أما الأسلحة ووسائل الإتصال، فلا بد من تلقيحها بالخرافات، وتخصيبها بالأوهام، كي تصلح لوظيفة من الوظائف، التي غالباً ما تكون التخدير أو القتل…أي قتل المستخدمين!

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى