بيسان الشيخصفحات المستقبل

عن فلسطين وشهداء الزمن الجميل/ بيسان الشيخ

 

 

 

تخبرنا رائدة طه، في المسرحية – المونولوج للينا أبيض، «ألاقي زيك فين يا علي»، التي افتتحت أول عروضها في بيروت، وفتحت فيها طه أوراق العائلة الحميمة متحدثة عن والدها علي طه، أحد خاطفي طائرة سابينا في 1972، تخبرنا أن الزمن الجميل لا يقتصر على السينما والموسيقى وما يصلنا بالتكنولوجيا أو التواتر من صور رومانسية عن حقبة الاسود والابيض. تقول لنا رائدة، ابنة «الشهيد» رغماً عنها، انه كان ثمة زمن جميل للسياسة أيضاً، وللقضايا الكبرى. زمن جميل لفلسطين نفسها… ولذلك الموت في سبيلها. وهو إذ ذاك جميل، لا لشيء، سوى لأنه مضى. فوحده الألم الذي يخلفه الفقدان واليتم يبقى. الألم هو الثابت الوحيد وسط كل ذلك المتحول، فلا تبدده شعارات النضال وأدواره الكثيرة، ولا تخفف «القضية» وأحقيتها من وطأته. فهي، (أي رائدة) استيقظت على وجعها حين سمعت امها تتمنى لو ان علياً كان يبيع الفجل على ان يكون «فدائياً».

ما يصلنا اليوم من ذلك الزمن أنه كان لخاطفي الطائرات وجوه لطيفة، وثياب أنيقة وعصرية، وأمزجة لعوب وقدرة على الضحك والاضحاك معاً، وزوجات أو حبيبات يكتبون لهن رسائل حب وشوق، تنتهي غالباً ببرقية «ثورية» تعلنهم «ابطالاً» وتعلن نساءهم «أرامل شهداء». صورهم في ألبومات عائلاتهم تشبه صورنا وصور أهلنا من قبلنا. فساتين كاشفة عن ساقين او ساعدين للشابات والجدات على السواء. ابتسامات عريضة وعيون محدقة في بؤبؤ الكاميرا، وللرجال بناطيل واسعة تعلوها قمصان مزركشة وضيقة تترافق ونظرة حالمة يفرضها فعل التقاط الصورة.

لوحة رومنسية لكن شائعة جداً، ترسم حياة «قبضايات» منخرطين في السياسة والعمل السري العنيف والدموي أحياناً (هل نجرؤ؟)، ولهم قلوب تخفق. كان اسمهم «فدائيين». كلمة بذاتها، تحمل من الرقة أكثر مما تحتمله المهمات الملقاة على عاتقهم، فكيف بخطف الطائرات وترويع المدنيين؟

والحال انه كان يمكن لأي من هؤلاء أن يكون اليوم صديقاً لنا، وصديقاً حميماً ربما من دون ان يشكل خطف الطائرة أو ما دونه من أعمال عنفية، رادعاً «اخلاقياً» للتنصل منه او لاطلاق حكم قيمي عليه. لا بل كان يمكن ادعاء معرفته ولو من بعيد لمجرد التقرب من تلك الدوائر حيث النضال والسلاح ومعهما «اكسسوارات» الاطلالة الثورية تمنح سحراً خاصاً وهالة يصعب كسرها. مزيج غريب من الغموض والعادية، من الملاك والشيطان، يجعل ناسه ومن حولهم سمة زمانهم، ما يسميه الفرنسيون l’air du temps.

أتلفت من حولي بحثاً عن خاطف طائرة ربما أعرفه، فلا أجد. أخفض السقف قليلاً الى مفجر او «زارع عبوات» أو أي عمل يجعل هؤلاء الأشخاص «العنفيين» من لحم ودم في يومياتنا وليس كـ «حالات» للدراسة أو الكتابة، فلا أجد أيضاً. جل من أعرفهم من محاربين أو «مناضلين» تابوا عن سلاحهم منذ عقود، وحل محلهم «مقاومون»، و «مقاتلون» و «شهداء» من نوع آخر تفصلنا عنهم سلوكيات وقضايا وأزمنة تبدو أكثر مما هي.

تخرج من المسرح وتسأل نفسك: ما الذي يميز خاطف طائرة في السبعينات عن خاطف طائرة اليوم؟ لماذا أحب/ نحب ذاك ونكره هذا؟ هل من قواسم مشتركة بين الاثنين؟ كيف انتقلنا أصلاً من تعبير «فدائي» الى «استشهادي» فـ «انتحاري» ثم «ارهابي»؟ ومن «مناضل» الى «مقاوم» فـ «مجاهد»؟ تعيد النظر بالمسلمات، وليس المجال لبحثها. لكن يبقى أن الكلمات ليست بلا معنى، ولا بد من تمرين على عدم «التطبيع» معها، لئلا يقع التطبيع مع مضامينها أيضاً، فيصيبنا ما أصاب «المناضلين السابقين» (الممانعين حالياً) من قبول وتبرير ليس للغة ومصطلحاتها فحسب، بل للافكار وأصحابها ومنظومة القيم التي تحملها. وليس مستغرباً إذ ذاك، ان يكون هؤلاء أول من يقدم مظلة معنوية حامية للتنظيمات الدينية المسلحة والانظمة القمعية التي اتخذت من فلسطين وناسها شماعة لأطياف مقاومة لا يشبه رجالها علي طه ورفاقه، ولا قضيها تشبه قضيتهم، من «حماس»، و «حزب الله» وصولاً الى نظام البعث السوري. ففي عرفهم، ذلك الماضي لم يمضِ بعد، وكان يجب لـ «ابنة شهيد» ان تعتلي خشبة المسرح وتواجهنا بتلك الاسئلة.

وللامانة، فإن المسرحية نفسها لا تتناول ذلك الشأن العام تحديداً، ولا تحتمل بالضرورة ما سبق من تأويل. هي بوح في الخاص والحميم، لا تزيده الكنبة التي تشكل الديكور الوحيد، إلا اقتراباً من جلسة «فرويدية» تبحث في معنى البطولة والشهادة وجدوى القضية في مواجهة يتم وحرمان فرديين. ولعل الأكثر قسوة من ذلك، هو تفريغ هذا الفقدان من خصوصيته و «بريستيجه» إذ يتكاثر الشهداء ويتناسل ابناؤهم منتصف السبعينات، بحيث لا يبقى مجال للاحتضان الشخصي المباشر، فتحال قضاياهم «الصغرى» الى مؤسسات ولجان ويتحولون بدورهم ملفات متكدسة.

هكذا تمأسست الشهادة، وتمأسس اليتم وانتقلت القضية من كونها حركة تحرر شعبي ضد محتل، الى مسبب رئيس لوهن الامة، ومصنع لتفريخ «أطفال يحلمون بالشهادة»، على ما بشرنا ذاك «المقاوم» ذات زمن… رديء.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى