صفحات الناسغالية شاهين

جسور سورية والسوريين المهدّمة/ غالية شاهين

 

 

بحجةٍ باتت أتفه بكثير من أن تُصدّق، قطعت سكين قوات التحالف خمسة أوردة جديدة في جسد سورية الممدّدة على طاولة المشرحة، في مرحلةٍ أخرى من مراحل تهتيك جسد هذي البلاد وفصل أطرافها، لم يكن أولها جسر دير الزور، ولن يكون آخرها جسر المغلة.

لم تكن جسور الرقة مجرد قطع إسمنتية وأعمدة وحبال تربط ضفتي الفرات، بل كانت تراثاً كاملاً وتاريخاً زاخراً بالحياة والذكريات. كانت تلك الجسور، كما كل الجسور في سورية أو أي بلد آخر، أوردة وشرايين تضخ دم المدينة من ريفها وإليه. وبقطعها سال ذلك الدم لينسكب في فرات الوجع، وليترك الرقة المذبوحة لحصارٍ سيثقل الهواء على أهلها أكثر مما هو ثقيل.

الجسور ذاكرة وحضارة. لذلك تكون أول ضحايا الحروب التي تخاف الذاكرة وترعبها الحضارة، ما يجعلها الهدف الأول لكل احتلال أو مستبد قاتل، أو عدو داخلي أو خارجي، يحاول قتل المدن وسكانها بهدم جسورهم المادية والمعنوية وتحطيمها.

لم تعد الكارثة في سورية اليوم حكراً على تهديم جسورها الحقيقية من جهاتٍ تختلف في الشكل والاسم، وتتوحد في الهدف والغاية، بل تعدّته لتطاول كل الجسور التي تشكل أصلاً شخصية السوري، وتربطه بكل ما حوله، ليغدو السوريون، كبلادهم، مقطعي الأوردة والأوصال، بعدما هدّمت الحرب جسورهم مع أنفسهم، ومع أهلهم وشركائهم في الوطن، بل ومع العالم كله ومفاهيمه وحقيقة تطبيقها.

نبكي اليوم، نحن السوريين، جسورنا.. نلملم حطامها الممزوج بأرواحنا، ونحمله على ظهورنا.. ثم نحاول أن نبني من بقاياها أوتاداً لجسورٍ جديدة، تصلنا بالحياة، لكن الركام لا يمكن أن يصنع جسراً حقيقيا ثابتاً، فتسقط جسورنا الجديدة مع أول اهتزاز، وكأنها كلها جسور من ورق.

فقد السوريون، خلال السنوات الست الماضية، معالم مدنهم ووجودهم الحقيقي والمعنوي، كما فقدوا معظم ما كانوا يقفون عليه من جسور، وباتوا اليوم في حالةٍ من التخلخل التي لن تتوازن قبل سنوات.

ربما تحتاج إعادة تشييد الجسور الإسمنتية والأبنية والمدن مؤسسات ومبالغ مادية كبيرة وعقوداً ترهن البلاد وخيراتها للدول التي تنتظر صفقات إعادة الإعمار، لكن الجسور النفسية المهدّمة ستحتاج ما هو أكثر وأصعب من ذلك بكثير.

ولعل أهم تلك الجسور هو جسر الثقة الذي ربط السوريين خلال تاريخهم الحقيقي الطويل قبل عهد الأسد. تلك الثقة التي صنعت ذلك النسيج الملون المتكامل، وربطت بين مكوناته بقوة، تلك الثقة هي أكثر ما تهشم اليوم، وهي أكثر ما سيحتاج إعادة بنائها عملاً مجهداً وزمناً وصبراً طويل الأمد.

جسور أخرى أسقطها النزوح والاغتراب، كجسورنا مع الماضي العام والشخصي، والتي كانت تشكل الأرض الصلبة لكل شخصياتنا، فباتت جراحنا العميقة التي نحملها في ملامحنا أينما ذهبنا.

بيوتنا، أحياؤنا، مدننا، موتانا، أهلنا، ذكرياتنا وأحزاننا، كلها كانت جسوراً تصلنا بالحياة، حياتنا نحن، وكلها اليوم مهدمة. حتى ذلك التواصل الإلكتروني بيننا هو جسر مهشم هش، افتراضي ووهمي، لا تطأه أقدامنا المعلقة في الفراغ، ولا يسمح للأصابع أن تدرك الآخر الواقف على الضفة الأخرى، ولا تسمح لروائح الناس والأمكنة بالعبور.

قدر الإنسان الطبيعي يجبره على بناء الجسور الجديدة كل يوم، لكنه عادةً يرتكز على ما لديه من جسور ثابتة، أما قدر السوريين فهو محاولات البناء المفروضة مع أماكن وأشخاص وعوالم مفروضة، وبغيابٍ شبه كامل لكل ما سبق وبناه.

الجسور أيادي المدن الممدودة للعطاء والتواصل.. المشدودة للتكاتف والعناق.. وهي أيضاً طرقاتها المفتوحة على الآخر، والحاملة كل تفاصيل وهموم وأفراح من عبرها يوماً.

سوريتنا اليوم بلا جسور، لكن أنهارها ما تزال تربط الضفاف. والسوريون، فيها وفي شتات الأرض، معلقون في الفراغ، لكنهم ما يزالون قادرين على الحلم بجسورٍ جديدةٍ، سيصنعونها يوماً لتعيد النبض إلى دم مدنهم، وترتق ثقوب أرواحهم وقلوبهم.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى