إيلي عبدوصفحات الناس

السياحة فوق الجثث/ إيلي عبدو

 

 

يريد النظام السوري لمدينة صيدنايا، القريبة من دمشق، أن تكون دليل “السياحة الآمنة”، وهوعنوان حملة أطلقتها وزارة السياحة السورية، لاجتذاب السياح من الخارج. تلك الحملة ليس صوراً ولوحات وفيديوهات ترويجية كما عهدنا في الحملات المشابهة. هي “رحلة للصحافيين والفنانين وشخصيات المجتمع، لبلدة صيدنايا في غرب دمشق، في محاولة للترويج للسياحة الآمنة”.

لكن وجوه هؤلاء المشاركين لا تظهر. أسماؤهم تبقى مجهولة. لا نعرف أي الممثلين ذهب إلى صيدنايا وأي من الصحافيين كتب عنها. ما يجعل الحملة أقرب إلى أن تكون سرّية تقتصر على خبر مقتضب تناقلته وكالات الانباء. وكأننا حيال إعلان عن السجون وليس عن السياحة.

والواقع أن النظام البعثي لا يفرّق بين هذا وذاك، خصوصاً بعد اندلاع الثورة ضده واستخدام الآلة العسكرية لإستعادة خنوع محكوميه. ما يفسّر أيضاً محاولة الربط بين السياحة والأمن من خلال اسم الحملة. فالنظام يريد أن يروّج للأمن ليس بوصفه عنصر استقرار وهدوء، يشجّع السياح على زيارة البلاد، بل يريده عنصر قمع ودليل على إخماد الثورة تمهيداً لعودة سوريا إلى سابق عهدها الأسدي.

ولا يخفي نص الخبر السياحي الغرض السابق ذكره، فيركز على أن وزارة السياحة السورية نظمت الرحلة الأولى ضمن سلسلة رحلات هدفها إظهار أنّ زيارة المواقع السياحية لا تنطوي على مخاطر رغم الحرب المستمرة منذ ثلاثة أعوام. المقصود إذن، بعض المناطق التي عادت إلى “مدجنة” النظام وأصبح من الممكن تحويلها إلى معرض “طبيعي” للتدليل على بعض نتائج الحسم العسكري.

وصيدنايا تبدو مدينة مثالية في هذا السياق بعدما تمكنت قوات النظام من طرد كتائب المعارضة منها وإحكام سيطرتها عليها، ليقوم الأسد شخصياً بزيارتها والتنقل بين معالمها المسيحية. هذه المعالم تبدو سبباً آخر لإختيار صيدنايا كقاعدة للحملة السياحية البعثية، ما يسهّل مخاطبة السائح الغربي: أن أول مدينة عليه المرور بها لا تحمل طابعاً تاريخياً فقط، بل تحتضن المسيحيين وتحافظ على وجودهم. غالباً ما يسعى النظام إلى المماهاة بين المسيحيين والحجارة وتحويلهم إلى معرض من الكائنات المنقرضة يمكن للعالم التمتع بالتفرج عليهم.

وصيدنايا أيضاً، تضم واحداً من أقسى السجون السورية، وسبق أن شهد مجزرة مروعة بعد تمرد بعض السجناء فيه. ما يضيف سبباً جوهرياً لاختيار النظام هذه المدينة مدخلاً لعودة السياحة (الآمنة) في البلاد. فإذا كان وعي السوريين لهذه المدينة إنقسم بين مزاراتها الدينية وسجنها الرهيب، فإن المقترح الأسدي السياحي لا يشذ عن ذلك، بل يسعى إلى إعادة تثبيته عبر السياحة هذه المرة.

بعد مجزرة حماه، في الثمانينات من القرن الماضي، وهدم ثلث أحيائها، قام النظام السوري بإعادة بناء المدينة، من دون أن يكترث بمئات الجثث التي دفنت تحت أنقاضها (لا شواهد ولا مقابر بل حديقة عامة!)، ليشعر زائر المدينة لاحقاً بأنه يتنقل فوق أرواح وأنفاس أريد لها أن تزول. إنها التجربة نفسها، يسعى البعث إلى تكرارها في صيدنايا، بمفعول سياحي ليس موجهاً إلى الخارج فحسب، بل هو أيضاً رسالة حادة إلى الداخل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى