صفحات العالم

جيوش عقائدية عربية.. من التأثيرات الحزبية إلى التشكيلات الطائفية

 

 

تدخل منطقة الشرق الأوسط مرحلة جديدة مع بداية كتابة الصفحات الأخيرة من أسطورة “دولة الخلافة” وتنظيم الدولة الإسلامية، الذي يشهد أفول نجمه بعد معركة استعادة مدينة الموصل مؤخرا واقتراب السيطرة على مدينة الرقة السورية. ويشير الخبراء إلى أن المرحلة المقبلة ستسطر أبرز ملامحها الميليشيات والجماعات المسلحة التي تكوّنت لتكون رديفا للجيوش في بلدان المنطقة التي تشهد صراعات والتي تحمل أبعادا عقائدية تحكم سيرها وتحدد ملامحها.

 

بعد أن هيمن الخوف من داعش على المنطقة على مدار السنوات الثلاث الماضية، نشهد اليوم بداية زوال هذا التنظيم المتشدد، ويجري الحديث حول ما سيبدو عليه الشرق الأوسط بعد داعش.

ويقول الخبراء إنه إلى جانب ضرورة متابعة خط سير ما تبقى من تنظيم الدولة الإسلامية، فإنه من الأهمية بمكان متابعة خط سير قوى أخرى دخلت المعركة في إطار مواجهة التنظيم، وهذه القوى هي الميليشيات التي تكوّنت ضمن المعركة، والتي أطلقت عليها دراسة صدرت عن معهد المستقبل للأبحاث، ومقرّه أبوظبي، اسم الجيوش العقائدية.

بينما بدأت ورقة تنظيم الدولة الإسلامية تحترق، فإن أوراق هذه الجيوش هي التي ستشكل سير الأحداث في مرحلة ما بعد داعش في الشرق الأوسط. وتحذّر دراسة مركز المستقبل من تزايد دعوات التحوّل إلى الجيوش العقائدية في بؤر الصراعات المسلحة العربية، وخاصة في سوريا والعراق.

وتدفع في اتجاه هذا التصعيد قوى إقليمية مثل إيران، مدعومة بتيارات داخلية، لعدد من الأسباب المتداخلة في ما بينها، منها تأسيس كيانات موازية مسلحة ما دون الهياكل النظامية الرسمية وتعزيز بقاء النظم السياسية السلطوية في الحكم ومواجهة التنظيمات الإرهابية العابرة للحدود الوطنية وتصاعد الاستقطاب الطائفي في التفاعلات الإقليمية وإحداث تحوّلات في البنية الديمغرافية للدول العربية.

جيوش مؤدلجة

شهدت عدة دول في المنطقة تدخلات للأحزاب السياسية الحاكمة أو الصاعدة إلى السلطة في بنية القوات المسلحة، لتصبح مؤسسة الجيش أداة في يد السلطة الحاكمة من خلال تسييسها وإلزامها بسياسات الحزب الحاكم والأيديولوجيا التي يؤمن بها، على نحو ما برز في حالات محددة وهي العراق وسوريا والسودان. وهذا الأمر ليس مستجدا، حيث وتذكر الدراسة كمثال أن الجيش العراقي، وخاصة خلال فترة حكم حزب البعث (1978 – 2003)، وُصف بالجيش العقائدي نظرا لمحورية تمثيل المنتمين لحزب البعث داخله دون بقية القوى والأحزاب السياسية الأخرى.

بناء وتغذية الفكر العقائدي داخل القوات المسلحة في البعض من دول المنطقة يمثل تجاوزا لحقوق جزء من مكونات البناء الوطني

وكذلك الحال بالنسبة للجيش السوري الذي صار عقائديا منذ هيمنة حزب البعث العربي الاشتراكي على هرم السلطة في سوريا في منتصف القرن الماضي، إذ لم يسلم الجيش من صبغة اشتراكية عقائدية محددة سعى الحزب إلى ترسيخها في البلاد ككل.

غير أن النمط الأكثر ملاءمة للقوات المسلحة في دول المنطقة أن تكون وطنية، بعيدة عن التصنيفات الحزبية والانتماءات الطائفية والارتباطات القبلية، بما يجنبها الانزلاق إلى الصراعات السياسية ويحصر هدفها في حماية شرعية النظام الذي يحظى بتوافق مجتمعي عام وفق دستور واضح وكذلك الحفاظ على هياكل الدولة من أي أخطار داخلية وتأمين حدودها الجغرافية (من أرض وسماء ومياه) من مهددات خارجية، وهو ما يفسر التباينات في أداء الجيوش النظامية في التعامل مع تداعيات الحراك الثوري العربي أو الصراع الداخلي المسلح، إذ برزت الجيوش الوطنية في حالتي مصر وتونس في حين غلبت الطبيعة القبلية والحزبية على أداء الجيوش في حالتي اليمن وسوريا.

أسباب التحول

هناك دوافع محددة من دعوات التحوّل إلى الجيوش العقائدية في بؤر الصراعات المسلحة العربية، تتناولها الدراسة على النحو التالي:

*إزاحة عكسية: تأسيس كيانات موازية مسلحة: بهدف إزاحة هياكل الجيوش النظامية العربية، وهو ما تحاول إيران القيام به في العراق، لا سيما في مرحلة ما بعد تحرير الموصل من تنظيم داعش عبر تقوية الميليشيات الشيعية التابعة لها.

وسعت السياسة الإيرانية خلال مراحل ضعف الدول الوطنية في عدد من الدول العربية إلى تأطير علاقتها بالفواعل المسلحة العنيفة مثل حزب الله في لبنان وجماعة الحوثيين في اليمن والميليشيات الشيعية الأفغانية والباكستانية في سوريا والحشد الشعبي في العراق، بما يؤدي تدريجيا إلى إضعاف الجيوش النظامية في المنطقة العربية.

وقال قائد فيلق القدس قاسم سليماني خلال مشاركته في تأبين أحد قتلى الحرس الثوري في سوريا في 10 يوليو الجاري “إن الجيش العراقي في طوره الأول ليصبح جيشا عقائديا بعد معركة الموصل”.

وأضاف أن “الجيش العراقي يمكن الوثوق به مقابل أي اعتداء أجنبي وليس بحاجة إلى قوات خارجية تفرض نفسها على العراقيين بحجة دعم الجيش العراقي”، في إشارة إلى الأصوات التي تدعو إلى بقاء القوات الأميركية العاملة ضمن قوات التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب فترة من الوقت لتعقب عناصر تنظيم الدولة الإسلامية التي ربما تكون قد هربت إلى البعض من المحافظات العراقية.

*تحالف شبكي: تعزيز بقاء النظم السياسية السلطوية: وهو ما تعبّر عنه حالة النظام السوري خاصة بعد تحوّل الثورة في مواجهة نظام بشار الأسد إلى صراع داخلي مسلح ممتد على مدى يتجاوز ستة أعوام. ويمكن القول إن أحد عوامل بقاء نظام الأسد، خلال تلك الفترة، يتعلق بمتانة المصالح الشبكية له. فقد نجح نظام حافظ الأسد منذ عام 1970 في دمج الجيش والنظام الحاكم والطائفة العلوية وحزب البعث بحيث أضحى هذا التحالف الرباعي بمثابة الدعامة الرئيسية لبقاء النظام وأصبح الترقي في المؤسسة العسكرية مرهونا بالانتماء للطائفة العلوية أو حزب البعث.

لذلك لم تحدث انشقاقات استراتيجية في الوحدات الرئيسية للجيش السوري النظامي وصار قادرا على البقاء مقارنة بغيره من الجيوش العربية الأخرى التي تفككت وانقسمت على ذاتها ما بين داعم للنظام من جهة ومعارض لاستمراره من جهة أخرى. في حين اتسم أداء الجيش السوري بتأمينه للشرعية السياسية لنظام الأسد، على الرغم من التآكل الحادث لها، لا سيما مع زيادة الخسائر البشرية والمادية للصراع السوري.

*دحر الإرهاب: مواجهة التنظيمات الإرهابية العابرة للحدود الوطنية: تصاعدت دعوات خطباء ورجال الدين في صلاة الجمعة في المساجد بعدة مدن عراقية، على مدى السنوات الثلاث الماضية، لتكوين جيش عراقي عقائدي يكون قادرا على مواجهة تهديدات التنظيمات الإرهابية، وخاصة تنظيم داعش بعد سيطرته على محافظات ذات مساحة جغرافية واسعة وكثافة سكانية مرتفعة، فضلا عن ثرواتها النفطية ومصادرها المائية.

وهنا تصبح متطلبات وجود جيوش حتى لو كانت عقائدية، في رؤية الاتجاه الذي تبنّى هذه الدعوات، ضرورية لمواجهة أدوار التنظيمات الإرهابية في إحداث توترات مجتمعية وفوضى أمنية. وتكمن أهمية هذا النمط من الجيوش العقائدية، وفقًا لتلك الرؤية، في تصفية جيوب التنظيمات الإرهابية في بؤر الصراعات المسلحة العربية، وخاصة في سوريا والعراق.

وعلى الرغم من أن الفترة الماضية شهدت تراجعا في المساحات الجغرافية التي تتواجد فيها تلك التنظيمات وخاصة داعش، إلا أن هناك تقديرات استراتيجية صادرة عن بعض مراكز البحث والتفكير الغربية تشير إلى أن ثمة أهدافا محتملة لتلك التنظيمات خلال الفترة القادمة قد تشمل القوات الشرطية والعسكرية والمؤسسات العامة والمرافق الاقتصادية والخدمية، لا سيما بعد تعثر هدفها في استمرار تفكيك بنية الدولة الوطنية وتحويلها إلى دولة فاشلة مزمنة.

*جيوش هجينة: صراعات الميليشيات العسكرية: سواء القائمة على اعتبارات الطائفة أو القبيلة أو المنطقة، إذ أن الأخيرة تستغل تصدع مؤسسات الدولة لتقاسم السلطة السياسية في ما بينها أو المشاركة في غنائم الموارد الاقتصادية، وبرزت أشكال هجينة من القوات المسلحة المعنية بالأمن المحلي لدرجة أن بعض الكتابات رصدت ظاهرة “قوات مسلحة هجينة داخل دولة هجينة”.

وربما يعود تفاقم منسوب تلك الصراعات إلى تزايد التناقضات العقائدية في ما بينها، الأمر الذي يفرض على هذا الطرف الميليشياوي أو ذاك اتباع تكتيكات واستراتيجيات مغايرة في مواجهة الآخر، وهو السلوك المتوقع حدوثه خلال المرحلة المقبلة من تطور الصراع السوري.

*استقطاب طائفي: تفاقم الاستقطابات الطائفية في التفاعلات الإقليمية: وخاصة التي تشعل فتيلها السياسة التي تتبناها إيران في مواجهة البعض من القوى الإقليمية الداعمة للاستقرار، في سياق الحرب الباردة القديمة الجديدة بينها، واتساع نطاق التنافس على تقوية النفوذ الإقليمي ومواجهة التهديدات الأمنية القادمة من بؤر الصراعات العربية في سوريا والعراق واليمن، بل إن إيران تستغل الأزمة القطرية، حسب اتجاهات عديدة، لتفكيك تماسك الكتلة السنية في مواجهتها، لا سيما أن تركيا تتخذ موقفا منحازا للدوحة، في ظل التوافق بين نخبة الحكم في الدولتين بشأن دعم جماعة الإخوان المسلمين.

كما أن تركيا، وفقًا لتلك الاتجاهات، تخشى من أن تكون الهدف الثاني للقوى الغربية بشأن محاربة تمويل الإرهاب.

*تحوّل ديمغرافي: إحداث تحوّلات في البنية الديموغرافية للدول العربية، حيث تشير تقارير إلى أن هناك مخططا إيرانيا في سوريا يقوم على أساس دمج الميليشيات العقائدية الشيعية داخل بنية الجيش السوري ليتم إحلال عناصرها مع أسرهم محل العائلات السنية التي نزحت خارج موطنها الأصلي، وهو جزء من تغيير ديموغرافي تسعى من خلاله إيران إلى تكريس نفوذها في سوريا أو التمدد في أراض عربية أخرى بهدف توظيف تلك الميليشيات في حروب أخرى في المنطقة أو التوجه نحو محاولة تشييع جماعات محلية داخل بعض دولها.

وما يدعم الهدف الإيراني في سوريا لإنشاء الجيش العقائدي الجديد هو إصدار النظام السوري مرسوما بتجنيد الشباب السوري للخدمة العسكرية، مما أدى إلى هجرة مئات الألوف منهم خلال السنوات الماضية، وهو ما يساعد إيران في ملء فراغ هجرة الشباب السنة وإخلاء الأراضي السورية لتأتي العناصر الأفغانية والباكستانية والإيرانية والعراقية المرتزقة لتشكل نواة ذلك الجيش العقائدي.

إشكاليات العودة

ثمة تحديات تواجه عودة ظهور الجيوش العقائدية المبنية على قواعد حزبية في دول المنطقة منها تراجع تأثير أدوار النخب العسكرية العقائدية، التي برزت في إطار مرحلة التحرر الوطني في عدة دول عربية، والتي سبق أن تحالفت مع طبقات العمال والفلاحين عبر دعم مبدأ العدالة الاجتماعية، ووظفت تفاعلات الصراع العربي- الإسرائيلي كمبرر لبقائها في السلطة، وهي تفسيرات لم يعد لها وجود في تلك المرحلة.

كما أن بناء وتغذية الفكر العقائدي داخل القوات المسلحة في بعض دول المنطقة يمثل تجاوزا لحقوق جزء من مكوّنات البناء الوطني، بما يقود إلى تجاوز الوطن ككل. فالوحدة الوطنية لا تتجزأ والقوات المسلحة هي قوات لكل الوطن، بغض النظر عن التصنيفات والتقسيمات المختلفة، مع الاعتراف في الوقت ذاته بتصاعد ظهور الجيوش العشائرية أو القبلية أو الجهوية أو الكتائب المناطقية التي صارت أقرب إلى الجيوش الموازية في عدة دول عربية.

فضلا عن أن عودة الجيوش العقائدية سوف تسهم في انتعاش الصراعات الفئوية في صفوف المؤسسات العسكرية المتهالكة من جرّاء مواجهة تبعات ثورات شعبية أو محاربة تنظيمات إرهابية تمتلك مقومات “أشباه الدول”.

ومن ثم، من المحتمل أن يعود نمط “اقتتال الأخوة” حيث ساد داخل العديد من الجيوش العربية في خمسينات القرن الماضي وحتى أواخر سبعيناته. كما أن ظاهرة الجيوش العقائدية تمثل محكا فاصلا في بقاء وتماسك الدولة الوطنية كفاعل إقليمي، لأنه لا يمكن للحزبية أن تتجاوز الوطنية إلا في حالات استثنائية تجعل الاستقرار هشا.

العرب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى