صفحات الثقافة

حظ إليوت السيئ/ محمد الأسعد

 

 

منذ نصف قرن وحتى الآن، ظلّت تتكاثر ترجمات القصيدة الشهيرة للشاعر الإنجليزي ت. س. إليوت (1888 – 1965) المسماة بالإنجليزية The Waste Land إلى اللغة العربية، وتتكاثر معها انتقادات الترجمات، بسبب أخطاء مكرورة أو مبتدعة. وحتى عنوان القصيدة لم يثبت على حال، فقد ترجم إلى العربية بصيغة “الأرض الخراب” ثم بصيغة “الأرض اليباب”.. وأخيراً صادف من يترجمه إلى “أرض الضياع”!

لن أتطرّق هنا إلى ترجمات عديدة لم تنكشف عن أخطاء تشبه الطرائف فقط، مثل ترجمة عبارة “سنونو.. يا سنونو” إلى فعل “ابلع.. ابلع”، أو “أغنيتي” إلى “موّالي”، ولا إلى ترجمات كشفت عن ركاكة في فهم النص، بل سأتحدث عن جانب أغفله كل الذين ترجموا أو راجعوا القصيدة، ألا وهو غموض ما تضمنته سطورها الأخيرة، من السطر 401 إلى السطر 433، أي السطر الأخير.

وتشكل هذه السطور ذروة حركات القصيدة الخمس: “دفن الموتى”، و”لعبة شطرنج”، و”موعظة النار”، و”الموت غرقاً”، وأخيراً “ماذا قال الرعد”.

تبدأ هذه السطور هكذا: “ثم تكلم الرعد/ دا/ دا تا: ماذا أعطينا؟/ الدم يرجّ قلبي يا صديقي”. وتتكرر هذه “الدا” مرة أخرى، ولكن مع إضافة لاحقة في السطر العاشر: “دا/ دا يادفام: سمعت المفتاح/ يدور مرة في الباب، ويدور مرة أخرى لا غير”.

ويكرّر الشاعر هذه “الدا” في السطر 17 مع إضافة لاحقة ثالثة: “دا/ دا مياتا: استجاب الزورق/ بمرح لليد الخبيرة بالشراع والمجذاف”. وفي السطرين الأخيرين يردّد الشاعر الكلمات الثلاث مع إضافة كلمة جديدة تتكرر ثلاث مرات: “دا تا. دا يادفام. دا مياتا./ شانتيه شانتيه شانتيه”.

ومن يراجع غالبية ترجمات القصيدة سيجد كل المترجمين اكتفوا بكتابة صوت هذه الكلمات الغريبة بحروف عربية، “دا” وما لحق بها ثلاث مرات (دا تا. دا يادفام. دا مياتا)، مع استثناء؛ أن بعضهم ترجم الكلمات “شانتيه شانتيه شانتيه” بألفاظ “سلام سلام سلام”، وأخذ عن شروحات القصيدة الإنجليزية أن الكلمات الثلاث السنسكريتية الملحقة كل واحدة منها بلفظة “دا” تعني: أعطوا، تعاطفوا، سيطروا. هل هذا كل شيء؟ وماذا يفهم القارئ من هذه الكلمات التي اقتبسها إليوت من الأدب السنسكريتي، ومن الأوبانيشادات تحديداً؟

لا أعتقد أن قارئاً عربياً مرّ بهذه الترجمات توصّل إلى حكاية هذه الـ “دا” وما لحق بها، أو فهم المعنى العميق وراء اقتباس الشاعر لهذه الكلمات من الأدب السنسكريتي، ناهيك عن أولئك الذين ترجموا القصيدة.

قصة هذه الكلمات جميلة وتستحق أن تلحق بترجمات وشروح القصيدة الشهيرة التي يتقاذفها المترجمون منذ نصف قرن. والقصة وفق شروحات الناسك الهندي أباي تشاردان (1896 – 1977)، التي أوردها في معرض تفسيره الممتع والمتنور لكتاب “باغافاد غيتا” (الأغنية السماوية)، وجاء فيها أن البشر، وما تسميها الأساطير الهندية آلهة الظلام وآلهة النور، ذهبوا إلى الخالق يطلبون منه النصيحة حول أفضل السبل المؤدية إلى صلاح حالهم، فأجاب الخالق كل فريق من هذه المخلوقات بكلمة من مقطع واحد هي “دا”، وفسّر كل فريق من هؤلاء معنى هذه الكلمة. فكر البشر؛ بما أنهم يميلون إلى الجشع ويجرون مثل المجانين وراء تكديس الثروات، فلا بد أن الخالق يقصد أن يقول لهم “دا نا” أي أعطوا أو هبوا أو كونوا كرماء.

وفكرت آلهة الظلام؛ بما أنها تميل ميلاً شديداً إلى الغضب وقسوة القلب، فلا بد أن الخالق قصد بكلمته أن يقول لها “دا يا” أي ارحمي. أما آلهة النور، ففكرت بأن سيطرة الملذات الحسية على سلوكها ربما هو المقصود بكلمة الخالق “دا”، أي “دا مانا”، ومعناها اعتدلي وسيطري على شهواتك.

المهم في هذه القصة أن الخالق، حين عرف بتأويلات مخلوقاته لكلمة واحدة، أقرّها عليها وأجازها. والمعنى الديني المستخلص من هذه القصة هو أن الكلمات الموحية، أو الوحي، بمعناه اللغوي، يفتح الطريق أمام تأويلات شتى، وكل تأويل مرتبط بصاحب التأويل. ولم يأت الناسك الهندي بهذه القصة عبثاً؛ جاء بها ليقول إن “إيحاءً” من هذا النمط هو مبدأ أساس من مبادئ كتاب “باغافاد غيتا”.

بعد أن اطلعتُ على هذه القصة التي جعلت مسعى ت.س. إليوت الديني مفهوماً، وقصيدته أيضاً، لاحظتُ أن الشاعر لم يستخدم لواحق “دا” في كل وضعية، بشرية وظلامية ونورانية، كما أوردها الناسك، بل استخدم لواحق مختلفة.

فمن كان على صواب؟ أعتقد أن الناسك الهندي الذي تجوّل في الغرب كثيراً، وهو خريج جامعات غربية أيضاً، أكثر دقة من الشاعر الذي قد يكون اعتمد على ترجمة غير دقيقة لقصة الأوبانيشاد إلى الإنجليزية ولم يرجع إلى الأصل السنسكريتي.

مهما يكن الأمر، وبعد اطلاعي على مصدر ما ظلّ غامضاً، وأكاد أقول لا معنى سياقياً له في الترجمة العربية للأرض اليباب، حمدت الله أن كلمة “دا” لم يحوّلها مترجم إلى طرفة، فيقول لنا إنها كلمة روسية وتعني “نعم” أو “أجل” أحياناً، أو إنها نصف الاسم “دادا” الذي أطلق على حركة أدبية في زيورخ إبان الحرب العالمية الأولى، فهكذا مترجمون لا يُستبعد أن يأتوا بغرائب من هذا النوع، فيتسقطوا ما يقع في متناولهم، وإن لم يجدوا شيئاً أبقوا الكلمات الأجنبية بلا ترجمة، وسلمت لحاهم من البلل إلى حين، أي إلى أن يأتي في مقبل الأيام من يبلّ لحاهم ويحلقها.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى