راشد عيسىصفحات الثقافة

شق في الروح

 

راشد عيسى

منذ أول نزوح سوري حدث إثر بطش النظام، استحضر الجميع تجربة النزوح الأشهر، تجربة الفلسطينيين. فلسطينيون كثر أيضاً، استعادوا على نحو ساخر ومرير، تعاليم النزوح وراحوا يتلونها على أشقائهم السوريين، لم يعد العيش والمصير هما المشترك بينهما وحسب، الذاكرة أيضاً باتت مشتركة.

لذلك حين يقف مخرج سينمائي في مخيم شاتيلا أمام مجموعة من الأطفال سيرى أن ردود فعل ومفردات الفلسطينيين من أبناء المخيم هي ذاتها للنازحين السوريين الجدد. من هنا قرر المخرج السوري خالد عبدالواحد أن يصنع فيلماً عن الذاكرة المشتركة للشعبين.

لكنه حين صنع فيلمه “شق في الذاكرة” (2.26 دقيقة)، راح يفكر بالشكل قبل كل شيء.

أوحت له أرجوحة أطفال المخيم، حين كان يراقب حركتها، خصوصاً قاعدة الأرجوحة التي يمكن لها أن تحجب الرؤية أثناء صعودها، ما يعني إمكانية الانتقال إلى زمن آخر. وسيأتي الشق في أسفل القاعدة ليكمل الإيحاء: سنرى مقاطع من الأحداث التي ألمت بنا عبر ذلك الشق.

 ليست غريبة رؤية الأحداث عبر شق في جدار. حدث ذلك مراراً وتكراراً في سوريا، حيث الجميع في مرمى عدسة القناص. لطالما شاهدنا مقاطع مصورة لتظاهرات أو اشتباكات ومواجهات عبر فتحة في جدار، أو نافذة غير ملحوظة، بكاميرا موبايل، أو كاميرا صغيرة مخفية.

 كذلك فإن النظر عبر الشق يؤكد، على المستوى الفني، أن ما يحدث واقعي تماماً، وما وجودنا إلا كمتلصصين عبر شق في الجدار الرابع (إذا جاز لنا استعارة مفاهيم مسرحية).

الكاميرا ستتناوب المشهد، مرة سنرى، وغالباً سنسمع، مواجهات وتظاهرات تبدأ من “الشعب يريد”، لتصل إلى تلك الأصوات التي نسمعها عند حدوث غارة أو قصف. سنسمع كلمات مبهمة من قبيل “شيلو، إسعاف يا شباب، في واحد عايش،…”، غير أننا سنسمع تلك الصيحة الشهيرة لوالد محمد الدرة، الشهيد الفلسطيني الذي كتبت عنه قصائد وأغاني، الصيحة هي “مات الولد”. لقد قصد المخرج استحضار هذه العبارة الشهيرة ليؤكد أن المشاهد التي اقتطفها هي من ذاكرة الشعبين.

 الشريط الصوتي هنا مؤثر وحاسم، كما في أفلام سابقة للمخرج. هنا الفصل واضح ودقيق، ما نسمعه أثناء حركة صعود الأرجوحة هو صوت الأطفال ومحيطهم في المخيم، أما الثواني القليلة التي تتوقف فيها قاعدة الأرجوحة في وجوهنا سنرى عبر الشق مشاهد القصف.

الصوت حاسم أيضاً لناحية خلق إيقاع للفيلم، وهنا فإن صوت حبال الأرجوحة أثناء الصعود والهبوط هو ما يصنع الايقاع. الشريط الصوتي للفيلم وحده يستحق جائزة.

 بالطبع لا يريد الفيلم أن يتحدث عن الذاكرة إلا ليصل بالمشاهد إلى الإحساس بأن ما يجري هنا على الناس، هو نفسه ما يجري هناك، أي أن الاحتلال واحد في كلا الحالين.

 فيلم مبدع بالتأكيد، واستثنائي في مسيرة أفلام الثورة السورية، فهو واحد من الأفلام القليلة التي تنشغل وتفكر بالشكل الفني، وقد كان من السهل والمعتاد أن يجري المخرج مقابلات مع الأطفال والنازحين، وسيبدو حينها فيلماً أكثر تأثيراً وشعبية.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى