صفحات المستقبلمالك ونوس

خطاب الإنكار السوري/ مالك ونوس

 

 

أول ما يتوارد إلى الذهن، عند قراءة إحدى التعليقات شبه الرسمية، أو ما يمكن أن نسميها توضيحاتٍ، أو بيانات غير رسمية، حول ما يتعرض له الجيش السوري من عمليات عسكرية، تتسبّب في خسارته بعض مواقعه، وطريقة تعاطيها مع مصرع عدد من جنوده، أو تدمير أحد مقاره، أو حواجزه، هو أولئك الجنود الذين سيقوا من قراهم الجرداء، الواقعة في الجبال القاحلة، بينما كانوا يعملون في أراضيهم التي لا تتجاوز مساحتها مساحة سطح منزل مسؤول حكومي، محاولين أن يخرجوا منها زرعاً، لا يفعل سوى أنه يبقيهم على قيد الحياة فحسب. أو الموظفين الجدد الملتحقين بوظائفهم حديثاً، أو الطلاب الذين تخرّجوا لتوّهم من الجامعات، أو الشبان العاطلين عن العمل الذين جاء سوقهم إلى الخدمة ليكون طريقهم الأسرع إلى السماء. أراهم في تلك التعليقات، وقد بدوا أرقاماً ستُمحى سريعاً، لتتلوها أرقام أخرى، وتحل محلها.

وكان آخر هذه التعليقات ما ظهر على بعض مواقع التواصل الاجتماعي، المؤيدة للنظام السوري، على شكل توضيحاتٍ تظهر كأنها بيانات رسمية، مغلّفة بغلاف غير غلافها، تتناول الهجوم الذي شنّه مسلحو تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) في الثالث والعشرين من شهر يوليو/ تموز الماضي على مقر الفرقة 17، الواقعة في مدينة الرقة، والمنتشرة حتى مدينة دير الزور. وهي تعليقاتٌ تبدو، في ظاهرها، حانقة على السقوط السريع لمواقع من الفرقة 17 في الرقة، بأيدي داعش، والتمثيل بجثث جنودها، وفرار آخرين إلى الصحراء التي هاموا فيها على وجوههم، حيث ظل مسلحو داعش يلاحقونهم ويقتلونهم، كأنهم طرائد. ثم تبدأ بكيل الاتهامات إلى قيادات في الجيش، لتقصيرها في الدعم والمساندة، على الرغم من المطالبات الكثيرة بإرسال هذا الدعم.

لكن إحدى هذه التعليقات تلفت النظر إلى عملية قطع الرؤوس وتعليقها، و”تؤكد أن الصور التي انتشرت لشبان قطعت رؤوسهم هي لعدد قليل من الجنود”. هذا هو الأمر إذاً، فعدد الجنود الذين قطعت رؤوسهم وعلّقت على أسوار الحدائق الحديدية، قليل جداً، ولا يستحق الذكر، كما لا يستحق كل ذلك الحنق والسخط الذي اجتاح المناطق المؤيدة التي لم تكد تصحو من صدمة قتل مدنيين عاملين في حقل الشاعر للغاز، الواقع شرقي مدينة حمص، حتى جاءتها هذه الحادثة التي تحمل لها مدلولات أقل ما يمكن القول عنها إنها أدخلت الخشية إلى قلوب أبنائها، بشكل جدّي للمرة الأولى، وأخذ كلٌّ يهجس لنفسه في سرها عن خوفه من تقدم مسلحي هذا التنظيم إلى مناطق، بدت، في السابق، عصيّة عليهم، فدخلوا إليها بسهولةٍ أظهرت هشاشة الدفاعات المسؤولة عن حمايتها، أو حماية المدنيين القاطنين بجوارها، أو ضمن مجالها الحيوي. وهو أمر يمكن أن يتكرر في مناطق جديدة، وأقرب فأقرب، حتى تصل إلى عقر الدار المؤيدة.

ما يهمّنا من هذا الأمر هو الخطاب الذي تحمله هذه التعليقات، فهو خطاب ناكر للخسارة، أو، في أحسن الأحوال، مُقلّل من حجمها، وحجم التهديد الذي تمثّله، والدلالات التي تحملها هذه الخسارة، من جهة تمدّد تنظيم “الدولة” تدريجياً في اتجاهات عدة، ومناطق كثيرة في الجغرافيا السورية، وسهولة وصوله إلى مناطق لم يتخيّل أحد من جنود الجيش السوري، أو قادته، أنه قادر حتى على التفكير في الوصول إليها، فما بالك باقتحامها واحتلالها. ومن جهة أخرى، وهي الأهم، تقليل الخطاب من قيمة الجندي الذي وقع ضحية هذا التنظيم، أو ضحية زجّه في حربٍ غير مهيأ لها، وتركه لمصيره من دون عون، والامتناع عن إنقاذه لدى هيامه في الصحراء، وتحوله إلى مجرد طريدة.

ما يحاول أن يغفله التعليق، في بدايته، ينسفه في نهايته، عندما يتحدث عن صمود الفرقة، طوال العامين السابقين، والبطولات التي سطرها جنودها. وعن انتصاراتٍ، في أماكن أخرى، في الوقت الذي حصلت فيه انتكاسة الفرقة 17. وهو نسفٌ يُراد منه شدّ أزر الجنود الموجودين في مواقع أخرى، غير آبه بهيام ذوي الجنود المفقودين في الجبال والوديان، بينما أبناؤهم يهيمون على وجوهم في الصحراء.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى