صفحات المستقبلمازن عزي

“داعش”.. دولة “القانون”/ مازن عزي

 

 

يقوم عناصر تنظيم “الدولة الإسلامية” بتنفيذ حدّ “الحرابة”، فيلقي عضو غير مقنع منهم، كلمة افتتاحية ضمن حشد من المسلحين والأنصار، يذكر فيها بضعة آيات وأحاديث، ثم تقوم مجموعة بتحضير المنصة، وتعقيم أطراف من سينفذ بهم الحدّ. تقطيع الأيادي والأرجل، يتم على صيحات “الله أكبر” التي يشارك فيها من يُنفذ به الحدّ. بعد ذلك، تُعقم الأطراف وتلف بالقطن والشاش، ثم يُنقل المقطوعة أطرافهم في سيارة إسعاف تحمل وسم “الدولة الإسلامية”.

المشهد يُصبح أكثر سريالية، حين يتم تنفيذ حدّ يتضمن قتلاً، لمسلم ارتكب معصية كبرى. يقول عضو التنظيم غير المقنع، شيئاً من قبيل: “ويُغسل ويكفن ويصلى، ويُدفن في مقابر المسلمين”. تسود الفرحة المجموعة الحاضرة، ويمكن اقتناص ابتسامة ذابلة على وجه القتيل-الشاهد تطبيق الحدّ عليه.

تبدو أفعال “الدولة” كتحدٍ للمخيلة، وعنفها متجاوز للطبيعة. ابداع “الدولة” يتجلى في قتل الأسرى والمعتقلين، وفي تنفيذ الحدود وتطبيق الشريعة. ولهذا الغرض يُسوّق المركز الفقهي للعناصر، ما يحتاجونه من أسباب لتنفيذ عنفهم. بهذا المعنى، لديهم عنف مقونن، شرطي. التفسير الخاص بـ”الدولة الإسلامية” للشرع، وإن اختُلف عليه، يجد جذوره في نصوص قرآنية، وفتاوى شرعية لأئمة السنّة. ليس في الأمر جديد أو بدعة. مركزهم الفكري يعتمد على التفسير الحرفي لتوصيف الجريمة، وللنص المُشرع للعقوبة، وإطلاق المخيلة العنفية الفردية لتنفيذ القصاص.

“الدولة الإسلامية” دولة القانون بلا شك. لكنها دولة بلا أفراد، بلا شخوص حقيقيين. مجموعة هائلة من الأسماء المستعارة والألقاب لمقاتلين مقنعين. أسماء تتكرر باستمرار، لوجوه مختلفة-متشابهة. الاختلاف الوحيد الذي يمكن أن يُلاحظ لدى شخوص مقاتلي “الدولة”، هو في تمايز ابتساماتهم أثناء ممارسة العنف ومشاهدته.

مقاتلو تنظيم “الدولة الإسلامية” أشبه بيافعين تماهوا بألعاب العنف الإلكترونية، وباتوا يمارسونها في الواقع. خروج لاعبي “الدولة الإسلامية” من تهميش شاشات الحواسيب، وانخراطهم في لعبة واقعية، لا ينتقص من استمرار غيابهم الذهني، وزيارتهم للواقع بصورة وهمية. ثمة انفصال بيّن في حضورهم الفيزيائي؛ أجسادهم فقط تتحرك وفق قوانين -مستقاة بطريقة أو بأخرى من الشرع الإسلامي- في حين أن أذهانهم مرتبطة بفكرة قدرية وسواسية.

جنود “الدولة الإسلامية” بيادق حقيقية، لا تفكر، ولا تعاني من أي ردود فعل طبيعية. ثمة إقالة حقيقية للذهن، والاستعاضة عنه، بشبكة إرادوية موصولة إلى عقل مركزي. قد يمكن تشبيه مقاتلي “الدولة”، بآلات موصولة إلى محرك رئيسي، عبر شبكة اتصال ذهنية. لا أعطال رئيسية في المحرك والشبكة -حتى إن انقطع الإتصال- فقط أغلاط فردية للآلات، يتم إنهاؤها بتدمير المُستخدم. القبول والرضا بهذه الحالة، يشبه تعليمة الـ”self destruction”. ثمة رضىً محير في وجوه مقاتلي “الدولة” الشباب، ولا تفاصيل شخصية يمكن قراءتها من تعبير وجوههم. متشابهون حدّ التناسخ، تعلو محياهم دائماً تلك الإبتسامة المحيرة، التي لم تكن يوماً مجرد خطأ في التصنيع.

“الدولة الإسلامية” دولة شمولية، قائمة على الخوف والرعب. لا يمكن أن يعرف أحد فيها، متى يُمكن أن يكون ضحية لها. “الدولة” بهذا المعنى، هي فرض لحدود العنف القصوى على المجتمع. دولة للعنف، تقوم به، وعليه. الإسلام ليس سمة لـ”الدولة”، هو مجرد عقيدة رسمية لعنف “الدولة”.

مشكلة “الدولة الإسلامية” الكبرى، ونقطة قوتها الأهم، في الوقت ذاته، هي عداؤها لكل ما حولها. كل الأنظمة والجماعات المحيطة بها، والدول الإقليمية والمجموعة العالمية، أعداء رسميين للدولة الإسلامية. لا أحلاف ولا صداقات للدولة. ذلك ما يجعلها خروجاً كلياً عن سياق الحاضر والواقع. في اللحظة التأسيسية لـ”الدولة الإسلامية” تشابه كبير، مع تلك اللحظة التي رافقت الثورة الإسلامية الإيرانية في العام 1979. هذا العداء للجميع، هو مصدر القوة الأساسي لـ”الدولة”، فهي بذلك تُكرّس فرادتها، وتعمل على جذب الأنصار من مختلف أرجاء الأرض. أنصار يقتربون منها، كما يقترب الفراش من الضوء. أن تمتلك القدرة على رفض كل ما يحدث حولك، لصالح فكرة لا تحتمل أي تشويش، ولا شك؛ ذلك سرّ “بقاء الدولة”. عنصر الجذّب الغامض قائم على نفي الخارج، وتحويله إلى آخر ينبغي قتاله.

القطع الكلي مع الخارج، يرافقه تخارج مع الداخل، في تغييب للإرادات الفردية، والأنويّة الخاصة. وذلك مصدر “تمددها”؛ في استلاب كلّي للذوات، وإحلال نموذج واحد أوحد لرعية “الدولة الإسلامية”. أي عضو في “الدولة” هو مشروع مجاهد، يُطلب موته كقصاص لإقامة شرع الله، أو أضحيةً كإنغماسي لإعلاء كلمة الله. في الانتماء لـ”الدولة الإسلامية” عقدٌّ ضمني بين المُبايِع والمُبايَع: أعطونا دُنياكم، وخذوا الآخرة الحسنة. بيع وعود بالخلاص. الانتماء لـ”الدولة” هو توقيع على صكوك غفران، تُقبض سلفاً.

التخارج الداخلي، أي عدم الانفتاح على الناس، وتحويلهم قطيعاً متجانساً تحت اسم الرعية، تقوم في الوقت ذاته على تجهيل الراعي-الخليفة. فـ”الدولة الإسلامية” هي “دولة الله”. حتى الخليفة أبو بكر البغدادي، هو شخص طارئ، لا صور له، ولا تداول لإسمه في أصقاع “الدولة”. يُذكر البغدادي مرة واحدة، حين مبايعته على السمع والطاعة، للمنتسبين الجدد. بهذا المعنى، فـ”الدولة” لا تقوم على مثال شخص، ولا كاريزمته. مجرد صورة واهية، لشخص بلحية طويلة، يخطب على منبر جامع في الموصل. البغدادي، وإن قُتل أو استبدل أو غُيّب، لن يُغيّر في بنية “الدولة” شيئاً. وإن تمّ تجهيل الخليفة، كشخص، إلا أن موقعه متعالٍ كإله. بهذا المعنى، لا عبادة للأشخاص في “الدولة”، بل تقدّيس للتراتب.

“الدولة الإسلامية” هي دولة لقانون الرعب، يقوم أمانها المطلق على إخضاع “الرعية” لرعبها، بعد نزع إرادتهم الحرة ومفاعيل حراكهم المجتمعي. في أحد إصدارات “ولاية الخير” المصورة، تُساق مجموعة كبيرة من نشرات الأخبار لتلفزيونات حول العالم، متحدثة عن انفلات الأمن، وتردي الأوضاع. ثم تنتقل الكاميرا إلى قطيع إبل، وراعٍ يتحدث عن مقدار الآمان في “دولة الإسلام”. أمان “الدولة الإسلامية” هو احتكار “الدولة” للرعب، في قالب يمزج أصول “البعثية” و”الخمينية” و”الوهابية” المشتركة في إنكار وجود البشر، لصالح أفكار تجاوزية للإنسان. في الأمر إبداع مُسجل للتنظيم-الدولة، وتهافت -لا يقلُ إبداعاً- لقيمة الحياة.

المدن

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى