صفحات الناسمحمد أبي سمرا

دمشق الآن

    محمد ابي سمرا

كيف تعيش دمشق اليوم؟ كيف يروي الهاربون منها الى بيروت مشاهد ووقائع من حياتها اليومية التي تحولت بطيئاً بطيئاً الى حال من الحصار والاختناق والترويع اليومي؟

في سهرة بمنزل طبيب حلبي نزح وأسرته الى بيروت قبل تسعة أشهر، قالت المرأة الأربعينية التي غادرت دمشق قبل ثلاثة أسابيع، إنها أمضت أياماً كثيرة من سنتها الدمشقية الأخيرة حبيسة منزلها من دون أن تبدل ثياب النوم بثياب الخروج، بعد توقفها عن عملها مراسلة صحافية ثقافية من العاصمة السورية لمجلة اسبوعية بيروتية. فالنشاطات الثقافية توقفت تماماً في دمشق، وأمست شوارع المدينة مزروعة بالخوف والتوتر وبحواجز أمنية وعسكرية ثابتة لا يفصل بينها أكثر من مئة متر.

لقاءات بيروتية

المرأة الأربعينية كانت أكثر الساهرين صمتاً شروداً في السهرة، كأن الأسابيع البيروتية الثلاثة لم تقوَ بعدُ على إخراجها من عزلة الصمت الشرود طوال سنة في منزلها الدمشقي، ولا على بعث رغبتها في الكلام وسط جمع من الساهرين. ربما كانت مستغرقة في استعادة ذكريات قديمة عن والدها الذي فرَّ بعيد “حركة حافظ الأسد التصحيحية” العام 1970 من سوريا الى المانيا الشرقية، ومنها رحل الى تونس مع ياسر عرفات وقيادته ومقاتليه بعد إجلائهم عن بيروت صيف 1982، ثم الى غزة مع العائدين الفلسطينيين، حيث توفى ودُفن. بعد سنين رفضت السلطات الأمنية السورية رغبة أهل الرجل السوري نقل رفاته لمواراته الثرى في أي مكان من “سوريا الأسد” التي يخيّر الأسد الصغير العالم اليوم بين تحويلها مقبرة للسوريين أو استعادتها حظيرة للخوف والصمت الأبديين اللذين لا تلتقي سورياً أو سوريةً في بيروت اليوم ومنذ سنتين إلا ويستعيد ذكرياته مستغرباً كيف عاش عمره مستغرقاً في خرس غيبوبة لم يستفق منها إلا بعدما هتف احدهم في شارع دمشقي: “الشعب السوري ما بينذل”، فجاوبه صوت من درعا ثم من داريا: “هاي هاي يا سجاني/ يا عتم الزنزاني/ ظلمك رايح، بعثك رايح/ شمسي بكرا بتستنّاني”، على ما غنّى في السهرة البيروتية شاب سوري كردي تخرّج من كلية الطب في دمشق ويعمل صحافياً منذ أكثر من سنتين سبقتا تخرجه. وهو كان في بيروت على سفر في الساعة الرابعة بعد السهرة، حاصلاً على تأشيرة لاجئ سياسي في أسوج. في أيامه البيروتية القليلة، تردد في سهرات على حانات ما يسمّى “زاروب الاسترال” في شارع الحمراء، فتعرَّف الى شابات وشبان سوريين ولبنانيين كثيرين، ووقع في غرام كردية لا يعرفها قبل وصوله الى بيروت، فجاءت لوداعه على مدخل الفندق، على ما روى صديقه اللبناني الذي اصطحبه الى تلك السهرة البيروتية في منزل الطبيب الحلبي، ثم أقلّه في سيارته الى مطار رفيق الحريري. أما تلك المرأة اللبنانية التي تجاوزت الخامسة والثلاثين من عمرها، فروت بعد أيام من رحيل الشاب الكردي الذي لم يتجاوز الخامسة والعشرين، أنها صادفته في واحدة من سهرات “الإسترال”، فأعجب بها ثملاً بعد الكأس الثالثة، واكتشفا أنهما صديقان افتراضيان على صفحات الـ”فايسبوك”. لكن تلك السهرة انتهت وظل ما حدث فيها بينهما ذكرى مصادفة بيروتية عابرة.

هذا الضرب من السهرات واللقاءات والمصادفات اللبنانية – السورية، والسورية – السورية، يتكرّر ويتكثّف حدوثه يومياً في بيروت منذ حوالى سنتين، مفتتحاً صفحات جديدة لأسباب التعارف والتخاطب والعلاقات ما بين السوريين واللبنانيين، ومغيِّراً صورة كلٍّ من الطرفين عن الآخر، وصورة كلٍّ منهما عن نفسه، في ظل تداعي جدران الصمت التي ارتفعت مداميكها على المآسي الأسدية في سوريا ولبنان، وزيّنها زبانية الأسد اللبنانيون بكلماته الطوطمية المبتذلة: “ما صنعه الله بين سوريا ولبنان لا يقوى بشر على تغييره”، فأضاف اليها زجّال لبناني يساري: “أسد والناس تحتك عدد”. الأسد الصغير الخائف من تداعي تلك الجدران في سوريا، استدعى أخيراً زبانيته اللبنانيين الى دمشق فشدَّ على أيديهم وشدّوا على يديه الملطختين بدم السوريين، وقال أحدهم بعد عودته الى بيروت إن سيّده ومولاه لا يزال على حاله: “واثق الخطوة يمشي ملكاً” على جثث السوريين، فيما ظهر خطيب الحزب الخميني في لبنان الى جانب سيّده الوليّ الفقيه في طهران.

دوريات الأمن والشبّيحة

منذ أواسط العام 2012 نشر النظام السوري وحدات كبيرة من جيشه في أحياء دمشق وشوارعها. هذه الوحدات، الى جانب مجموعات أجهزة الأمن والشبّيحة – وفقاً لرواية ناشط دمشقي فرَّ الى بيروت قبل شهرين – حوّلت المدينة معتقلاً أو مدينة محتلة يعيش سكانها في حال من الخوف اليومي: دوريات أمنية راجلة أو في السيارات تدهم فجأة في أي وقت من النهار أو الليل، هذا الحي أو ذاك، فتنتشر في الشوارع وتقفلها. أحياناً يهاجم رجال الدورية الأمنية المسعورون عابراً أو أكثر في الشارع ويقومون باعتقالات عشوائية. على مرأى من العابرين ولإرعابهم وإرعاب الناس في بيوتهم، يطلقون صرخاتهم شاتمين، ويتبعون الشتائم برشقات نارية من بنادقهم في الهواء، فيما ينهال بعضهم بالعصي والصفعات على هذا العابر أو ذاك.

إذا كان هذا المشهد يذكّر بسلوك الشبيبة النازية في المانيا الثلاثينات، فإن فيه أيضاً ما يذكّر بعسكر أو دوريات الجوّالة في دساكر الولايات العثمانية. مثل هذا المشهد أخذ يتكرر في دمشق بعدما تمكن “الجيش السوري الحر” من السيطرة على مناطق ومدن أو أجزاء كبيرة من سوريا.

لا تخلو حارة في دمشق من الحواجز الأمنية التي توقف السيارات والعابرين، وتُخضع الناس لعمليات تفتيش دقيق مشوب بالإهانات والترويع، ومن دون حساب لازدحام السير الخانق الذي تتسبب به الحواجز التي تتبع أجهزة أمنية مختلفة ومتباينة، ويقوم كل حاجز وجهاز بمهامه مستقلاً منفرداً ومستهيباً من الآخر. لذا يستحيل على أي دمشقي أن يخرج من بيته من دون أن يخضع لإبراز هويته وللتفتيش والمساءلة، كلما اجتاز ما لا يزيد على مئة متر في الشارع. ولأن الأجهزة الأمنية لا يكفي عديدها لتغطية أحياء المدينة وشوارعها بغابة من الحواجز، جرت الاستعانة بما سمّي “اللجان الشعبية” في الأحياء السكنية المختلطة وفي الأحياء ذات الغالبية السنية. أما في الأحياء ذات الغالبية الدرزية، كجرمانا، فإن لجانها وشبّيحتها من الدروز الذين تقتصر مهماتهم على أحيائهم السكنية من دون أن تتجاوزها الى أحياء أخرى. الدور الأساسي لشبّيحة جرمانا هو الرقابة الأمنية، وضمان ولاء المنطقة للنظام ومنع قيام أي نشاط معارض فيها، والحؤول دون لجوء الناشطين المطاردين إليها والاختباء فيها، واعتقالهم في حال إقدامهم على ذلك.

الأحياء المسيحية، كباب توما مثلاً، لم تنشأ فيها لجان شعبية من المسيحيين الذين يندر بينهم الشبّيحة. لكن حارة الجورة أو حي الإمام الصادق المجاور لباب توما، الذي يغلب الشيعة على سكانه، نشأ فيه ما سمّي “لواء أبو الفضل العباس” بذريعة الدفاع عن مقام السيدة زينب في منطقة السيدة زينب في ريف دمشق. الى رجال وشبّان من حي الإمام الصادق، يضم هذا اللواء المسلّح عراقيين من قدامى اللاجئين من العراق وآخرين وافدين حديثاً، هم من المنشقين عن جماعة مقتدى الصدر. ومن لبنان يحوي “لواء أبو الفضل العباس” مقاتلين محترفين من “حزب الله”، ويرجّح أن قائده من الحزب نفسه.

قبل أشهر، وبعد حصول أحد التفجيرات الكبيرة في دمشق، وقف قسّ في قدّاس في كنيسة الزيتون بباب توما، فدعا في موعظته الناس الى التسلح للدفاع عن أنفسهم، لكن لغطاً دار بين الحاضرين في الكنيسة، غلب عليه رفض هذه الدعوة.

ميليشيات احتلال وترويع

أرتال الوحدات الأمنية والشبّيحة المسيطرة على دمشق سيطرة ميليشيوية مسعورة، مصدر معظمها أحياء العلويين ومناطقهم في المدينة، ولا تتجاوز نسبة السنّة فيها 3 أو 4 في المئة. أما تمويل هذه الميليشيات فمصدره “جمعية البستان الخيرية” لصاحبها رامي مخلوف وأبناء عمّه. وإذا كان حي المزة الدمشقي تسكنه الفئات المتوسطة ويغلب العلويون على سكانه، فإن حي 86 العشوائي الكبير والكثيف السكّان والمجاور للمزة في امتداده على سفوح قاسيون، يخلو تماماً من السكان غير العلويين، مثل منطقة عش الورور شبه الجبلية أيضاً والمطلة على حي برزة. في الثمانينات من القرن العشرين، كان هذان الحيّان (86 وعش الورور) منذ نشوئهما وتوسعهما عشوائياً، منبتاً للرجال والشبان الذين يقبلون بكثافة على العمل في أجهزة الأمن الأسدية. في زمن الثورة، وزّعت سياراتٌ وشاحنات أمنية السلاح كثيفاً في الحيين العلويين الصافيين، 86 وعش الورور، فتحولا وغيرهما من الأحياء العلوية كانتونات أو معاقل مقفلة، يمتنع الدخول إليها على غير العلويين، بعدما رحّل الرجال والشبان عائلاتهم ونساءهم وأطفالهم الى منبتهم الأول في الساحل والجبل العلويين، مكثوا في هذه الأحياء متفرغين لأعمال الدهم والاعتقال والتعذيب والقتل والإغارة على الأحياء الدمشقية وترويع سكانها.

حال الشبّيحة في هذا وغيره كحال ميليشيات أهلية محتلة تستبيح الأحياء كأرض سيبة غريبة وديار حرب، وبوصف سكانها أهل سبيٍ تعبر في شوارع أحيائهم سيارات مدججة بالشبّيحة، تخرجُ من نوافذها سبطانات بنادق رشاشة غالباً ما تنطلق منها رشقات نارية عشوائية، فيما تصدح من مكبّرات صوت على سطوح السيارات أغان صاخبة في مديح بشار الأسد وتمجيده، تتخللها مقتطفات من خطبة، لاسيما تلك الأخيرة التي ألقاها في مبنى الأوبرا بدمشق، وهتف فيها الحاضرون: “شبيحة الى الأبد/ لعيونك يا أسد”.

تجتاز هذه السيارات حواجز الجيش النظامي، كأنها غير موجودة أو غير مرئية. ويتصرف عناصر الجيش كما لو أن سيارات الشبّيحة لم تمر بحواجزهم، بل هم يهابون ركّابها ويخافونهم. ولا يندر أن تتوقف سيارة مجموعة من الشبيحة أمام بناية سكنية، فيصعدون الى منزل من منازلها ويدخلون على أهله قائلين لهم إن شرفة منزلهم مناسبة لتكون مركز مراقبة للشارع والحي، فيمكثون على الشرفة ما طاب لهم من الوقت، بعد إلصاقهم على الجدار صورة لبشار الأسد يدوّنون تحتها عبارة: “الأسد أو نحرق البلد”.

الإنكار الدمشقي

حياة الناس اليومية في البيوت الدمشقية صارت سوداء مسمومة، كأنهم يعيشون في سجون بيتية أو في إقامة جبرية، قالت شابة سورية كانت تقيم في دمشق وغادرتها قبل أيام إلى بيروت. على الرغم من حملات الدهم لاعتقال ناشطين في دمشق طوال حركة الاحتجاج السلمي، كان الدمشقيون على وجه الإجمال يعيشون حالة إنكار لما يحدث في مدينتهم وخارجها. كأن هذا الإنكار كان وسيلتهم الناجعة للهرب من خوف غامض مستجد، ولبقائهم مقيمين على ذلك الخوف المزمن والمعتاد في “سوريا البعث والأسد”، فصدّقوا حملة البروباغندا الإعلامية في تلفزيون “الدنيا” وفي التلفزيون الرسمي السوري عن الإرهاب والإرهابيين، وعن عدم قيام تظاهرات في أي مكان من سوريا، وعن استمرار الحياة على طبيعتها العادية في المدن السورية وأريافها، وعن أن صور المتظاهرين والقتلى من فبركات محطة “الجزيرة” التلفزيونية التي طُبع “اللوغو” الخاص بها على سلال المهملات في شوارع دمشق. كانت استجابة الدمشقيين لتلك الحملة تتغدى من إرادة الإنكار التي تطرد شيطان الخوف المستجد المنبعثة أمواجه من درعا وحمص وإدلب وريف دمشق، حيث كسر الناس هناك مركّب الخوف القديم الذي استمر الدمشقيون مقيمين عليه حتى تكاثرت في مدينتهم جنازات تشييع قتلى الجيش النظامي، وتدفقت إليها أفواج النازحين من الديار السورية الاخرى. لكن الإنقلاب الكبير في حياة دمشق اليومية لم يحدث إلا غداة تفجير ما يسمّى “خلية الأزمة” التي حوّلت المدينة كلها خلية أمنية وثكنة عسكرية، وأطلقت عمليات الدهم والترويع والاعتقالات على نطاق واسع في الأحياء والشوارع. في واحدة من هذه العمليات قُتل أخيراً في شارع واحد خمسة اشخاص اصابهم الرصاص العشوائي في بيوتهم.

التمييز والاحتقان الطائفي

أثناء تنقلها بين درعا ودمشق وبيروت، كانت الشابة الدمشقية تمضي حياناً 9 ساعات متصلة على غابة الحواجز الأمنية المنتشرة على الطرق السورية. تتذكر مشهداً لرتل من الدبابات المتجهة الى درعا فجراً. في مقدم الرتل رأت دبابة صدئة أخذ سائقها يتقدم بها ثم يتراجع، قبل ان تنبعث من عادمها موجة سوداء من الدخان متبوعة بانفجارات كالتي تطلع من المفرقعات النارية. في هذه اللحظة تحول المشهد فكاهياً، فأخذ يتضاحك ركاب السيارات المدنية المنتظرون عبور رتل الدبابات، عندما خرج من الدبابة الصدئة المتوقفة جندي أخذ يصب شتائمه عليها ويتبادل الشتائم مع جنود آخرين في الدبابة التي تلي دبابته، فتذكر سائق سيارة مدنية حرب حزيران 1967 ودبابات الجيش السوري المحترقة في مرابضها التي كانت قد مكثت فيها سنين بلا حراك ولا صيانة.

على غابة الحواجز الأمنية في سائر الديار السورية شهدت الشابة الدمشقية التمييز بين المواطنين السوريين الذين ينتظرون ساعات وساعات في أرتال السيارات كي يعبروا الحواجز. رجال الأمن يجمعون من ركاب السيارات كل ما يحملونه من خبز وشمع ومواد غذائية أخرى. لكنهم حين يعلمون أن هذا الراكب أو ذاك مسيحي، يعطونه فوق ما يحمل من حاجيات ويخرجونه من رتل السيارات المتوقفة ويدعونه يعبر قبل الآخرين. هذا ما يحدث أيضاً عندما تمنع الحواجز الأمنية السيارات من العبور إلى هذا الحي أو ذاك، وترحب بركاب السيارات المسيحيين وتؤمّن لهم المرور سالمين الى حيث يريدون.

مثل هذه الممارسات التي اعتمدها النظام وأجهزته كافة سياسة يومية، وما حدث طوال السنتين وما يزيد من عمر الثورة، أدى الى احتقان المشاعر الطائفية على نطاق واسع في الديار السورية.

اغتصاب وجثة في الضوء

اليوم، بعد الثامنة مساء، تتوقف الحياة وتنعدم تقريباً في دمشق. منازل كثيرة خلت من قارورات الغاز منذ 4 اشهر. طوابير الناس طويلة أمام الأفران للحصول على الخبز، وأطول منها طوابير السيارات أمام محطات الوقود. سائقو التاكسي يمكثون ليلة كاملة في هذه الطوابير للحصول على صفيحة بنزين. التمييز الطائفي بين الواقفين في الطوابير لتزود الخبز والمحروقات، ينظمه رجال الأمن والشبّيحة الذين غالباً ما يطلقون رشقات نارية لإرعاب الناس وحملهم على الهرب هلعين. دورة الحياة اليومية صارت مرهقة وتبعث القنوط واليأس، وخصوصاً بين الشبان الذين هاجر قسم كبير منهم، فيما المطلوبون للأمن وللخدمة الإلزامية لا يخرجون من البيوت. الجميع في دمشق يتمنى أن تنتهي هذه الحال بأي طريقة. هذا كله يطلق الفكاهة السوداء في كلام الناس وحياتهم المعلقة الكئيبة. بعض الشبان الذين يسهرون في بيت احدهم ويشربون حتى يتعتعهم السكر، يحملهم الإرعام على النوم حيث يسهرون على الخروج احياناً في سيارة أحدهم مجازفين بحياتهم في مغامرة عبثية تمنح حياتهم المعلقة والمحاصرة متنفساً ما، فيما تسابق سيارتهم الوقت والرعب والموات في ليل الشوارع الخاوية. هؤلاء وغيرهم من سكان دمشق لا يغيب عن روعهم الخوف من التعرض للخطف، للإصابة برشقات الرصاص العشوائي، من المرور على حاجز ليلي تجعله العتمة غير مرئي، فيطلق عناصره النار على السيارة العابرة. احدى الشبابات الدمشقيات وثّقت حوادث اختطاف فتيات واغتصابهن في حمص وريف دمشق. جمعت الشهادات من المهجرين الى العاصمة، فتبيّن منها أن معظمها يحدث بعد دخول الجيش النظامي الى المناطق الثائرة والمحررة التي يدخلها خلفه رجال الامن والشبّيحة، فيختطفون نساء وفتيات ويغتصبونهن. بعد ذلك يعمد رجال من عائلة المغتصبات الى قتلهن غسلاً للشرف من العار.

شاب دمشقي أوقفه في الثامنة مساء حاجز امني في محلة الزبلطاني القريبة من سوق الهال في دمشق. أمره رجال الامن على الحاجز بالخروج من سيارته، وسأله احدهم عن عمله، فقال انه يدرس في المعهد العالي للمسرح. انت من المثقفين، اذاً، قال رجل الامن ساخراً متهكماً متوعداً، قبل ان يقول له ايضاً: تعال، تعال، سوف أريك مشهداً مسرحياً لن تنساه طوال حياتك، تعال. امسك رجل الامن يد الطالب الشاب وجرّه مسافة مئة في العتمة، ثم انعطف به الى خلف جدار، وأضاء مصباحا يحمله ووجّه نوره القوي الى الارض، وقال للشاب: انظر، انظر. نظر الشاب محدقاً فأبصر على الارض في بقعة الضوء جثة عارية تماماً من الثياب لا يزال يتفصد منها الدم، فأزاح عن الجثة بصره وحاول الابتعاد من خلف الجدار. أمسكه رجل الامن من رقبته وأخفض له رأسه وأبقاه مطأطئاً اكثر من دقيقة، مقرّباً المصباح من الجثة كي تُرى ملامحها بوضوح. بعد ذلك جرّ رجل الأمن الشاب، وأمره بالانصراف قائلاً له: انه مثلك في المعهد العالي للمسرح، قد يكون صديقك، او أخاك، هل عرفته؟ اذهب، مع السلامة.

بعد انطلاقه بسيارته مبتعداً من الحاجز الامني، أوقف الشاب السيارة الى جانب طريق وأخذ يتقيأ.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى