صفحات الناس

بالمختصر الأليم: رحلتي ومشاهداتي من سوريا إلى ألمانيا، وهذا أقسى ما صدمني في ألمانيا/ منصور حسنو

 

 

 

تعميق الثقافة الإنسانية يجعل الاندماج في منتهى السهولة، كما يرى الكاتب السوري منصور حسنو، معتقدا أن جذور مشكلة اللاجئ النفسية هو جعل ديانته المسطرة التي يقيس بها كل خير وشر، ومتحدثا في المقابل عن لاجئين تعهدت ألمانيا بحمايتهم باعتبارهم هاربين من جحيم الأسد فإذا بهم كل فترة ينزلون إلى دمشق لقضاء العطلة مع أهلهم وربما مع فريق توجيههم المعنوي والسياسي هناك! ويعرض لموقع قنطرة أكثر ما صدمه في ألمانيا.

يحتاج الإنسان إلى أن يستمع إلى عقله في غالب الأحيان ولكن عندما يضج القلب ويضطرب عليك أن تصغي إليه جيدا، كان ذلك عندما أحسست بقرب اعتقالي من قبل المخابرات الجوية عام 1999م ومكوثي في سجن الطاغية الأكبر الأسد الأب وتعرضي لتعذيب شديد لم أعرف معه الليل من النهار، كان تحرر سوريا من هذه العائلة هو هاجسي الأوحد منذ وعي المراهق للحياة، كان كل تفكيرنا نظريا كمعارضين للنظام إلى أن قامت الثورة السورية ، هنا صدق فينا قول الشاعر: السيف أصدق أنباء من الكتب، في حده الحدّ بين الجد واللعب.

من سوء الطالع ، ضجّ قلبي واضطرب مع قيام الثورة ومشاركاتي الأولى في مظاهراتها الأولى في اللاذقية لأعتقل في عام 2012 في عهد الطاغية الأصغر- رغم أنه دمّر أكثر من أبيه الطاغية الأكبر- لأخرج بعدها بتعهد ألاّ أفكر بمغادرة سوريا، وكيف أغادر وأنا الممنوع من الحصول على جواز سفر ومن السفر منذ عام 1999م ؟

العنف ميدان النظام البارع فيه تاريخيا

مع تعقد المشهد السوري والثوري معا، ودخول الثورة في لعبة السلاح والعنف والجماعات الراديكالية والتي يجيد النظام اللعب معها وبها. وكون العنف ميدانه البارع فيه تاريخيا منذ تأسيسه، والمراقبة والملاحقة الأمنية والتجسس على الهاتف، استمعت لقلبي مرة ثالثة حتى لا تكون القاضية، وقررت الهروب في الشهر السادس من عام 2015م بين ليلة وضحاها.

كانت مغامرة لا تنسى أبدا وأهمها لحظة العبور بين آخر حاجز لجيش النظام وبين أول حاجز لقوى الثورة المسلحة، كنت أظنها رحلة من الموت إلى الحياة، وأكثر ما صدمني تلك اللوحات الطرقية: الديمقراطية كفر، العلمانية شرك، الديمقراطية طريق التخلف: هنا وبعد نيتي المكوث في المناطق المحررة لم أستطع تحمّل أصوات الطيران الحربي وهو يقصف حواضن الثورة الشعبية، مكثت مع والدتي بضعة أيام وهي صابرة على البراميل وراجمات الصواريخ على قريتنا وقد قبلت قدمها ويديها مودعا: أمي لا أستطيع البقاء هنا، أنت أقوى مني، لا أعرف كيف تستطيعين النوم على صوت الحوامات والطائرات وأنا الضابط السابق الذي عاش بين الطائرات لا أستطيع النوم! ودّعت أسرتي في رحلة صار كل العالم يعرفها عبر تركيا، بحر أيجة، اليونان، مقدونيا، صربيا، المجر، ألمانيا.

اخترت ألمانيا كوني متاثرا ثقافيا بالفلسفة الألمانية وقد شكلت اهتمامي الخاص بعد دراستي الفلسفة عام 2006 وشكلت المثالية الألمانية فهما لدي كونها الأنسب والأقرب لتحديث الشرق وتحديث دينه العام، الإسلام، منطلقا من قراءة هيجل وكانط وهانزغادامير ومدرسة فرانكفورت وإريك فروم.

“معاملة ألمانية مثالية للوافدين الجدد”

لم تخيب ظنوني المقارنة بين ما قرأته عن ألمانيا في الكتب وبين عظمتها في أرض الواقع، لقد كانت المعاملة مثالية مع الوافدين الجدد، فهل كان القادمون الجدد أهلا لهذه المثالية وراغبين في الحفاظ عليها؟

وهل الشعب الألماني كان على نفس المستوى من الرغبة في فتح قلبه أمام الهاربين من ويلات الحرب والموت أم ثمة استثناءات ومعكرات؟

ترغب هذه السردية الذاتية القفز من الحديث عن مملكة الخوف (سوريا) كونها لن تقدم جديدا عن نظام يعرفه القاصي والداني، بقدر ما يهمني الحديث عن مشاهداتي وملاحظاتي على ولاية شمال الراين ويستفاليا ومدنها المحيطة بها من كولونيا إلى دوسلدورف، فوبرتال، بوخوم، آخن، دورتموند، فيلبرت، إيسن … وغيرها من البلدات والقرى والتي يعيش بها قومي من أهل سوريا من طلاب اللجوء.

“الصدمة الأولى…كفر بالديمقراطية”

الصدمة الأولى والأقسى: كنت أظن أنّ العبور من الدولة الديكتاتورية إلى المناطق التي تسيطر عليها القوى التحررية كما كنت أظن فرصة لبداية جديدة في سوريا حرة فإذا حديث كل السوريين في المناطق المحررة عن الإسلام وتطبيق الشريعة والكفر بالديمقراطية فقلت في نفسي: لن أسجلها نقطة لصالح الأسد وثمة خيارات عدة منها الهجرة إلى بلدان تؤمن بالديمقراطية فإذا بي أجد سوريين هنا في بلدان الحرية والديمقراطية، لا يؤمنون بالحرية ولا الديمقراطية، وهم على قلتهم شكلوا صدمة لي كتلك الصدمة الأولى في ادلب عندما قرأت: الديمقراطية طريق التخلف.

اذ يمكنك أن تفهم الكافر والجاهل بالديمقراطية عندما يختار البقاء بحضن الأسد أو حضن داعش أو النصرة، أمّا أن يأتي هاربا من الأسد وداعش والنصرة كما يزعم ثم يعطيك دروسا في ضلالة أوروبا وبعدها عن هدي الله وشرعه فهذا أمر جد خطير.

هذه الصدمة ووجود عينات لا أستطيع الجزم بندرتها ولا بكثرتها جعلتني أحتك بالقادمين الجدد مثلي وأسمع إليهم وأفهم مشكلاتهم، مستفيدا من قراءاتي الفلسفية والنفسية الفرويدية والفرومية، لأجزم أنّ الشخصية اللاجئة بالعموم تعاني مشاكل نفسية جمّة، فكيف إذا عرفنا أنها عاشت وولدت تحت حكم الأنظمة الفاشية؟

“جذور المشكلة النفسية لدى اللاجئ”

جذر المشكلة النفسية لدى اللاجئ المشحون لا ديمقراطيا، هو جعل ديانته ومذهبه المسطرة التي يقيس بها كل خير وشر، وهي مشكلة في التفكير الديني الإسلامي، أن نجعل ما يتوافق مع الإسلام إسلاميا وما يتعارض مع الإسلام جهنميا، ويصبح الإسلام وحده منبع القيم والفضائل وهو الخطأ نفسه الذي ارتكبه المعهد العالمي للفكر الإسلامي يوم طرح شعاره : إسلامية المعرفة.

لنأخذ مثالا: الشعب الألماني شعب حيوي حياته في عمله ، يستيقظ باكرا وينام باكرا وربما يرغب في أن تكون حافلة الباص أو عربة القطار هادئة نوعا ما، يصر أخونا اللاجئ على جعل نغمة جواله مرتفعة وبأناشيد دينية ومنها تذكير بميعاد الصلوات بصوت المؤذن، هذا مشهد تكرر أمام عيني عشرات المرات وعندما تسأل صاحبه: لماذا نغمة الأذان رغم أنك لم تصلِّ في القطار؟ يجيبك، ديني هل أخجل منه، هل تريدني أن أخجل من صوت الله أكبر، لماذا هم لا يخجلون من قرع أجراس الكنائس؟

أقول له يا صديقي: أجراس الكنائس في الكنائس وليس في عربات القطار!

رغبة التمظهر الديني في أوساط اللاجئين هي أبرز الملاحظات المثيرة للاهتمام، جذرها رفض لكل قيم الحداثة والديمقراطية والعلمانية، وليس رفض إحدى اللاجئات مصافحة رئيس وزراء السويد إلا قمة الجبل المتصلب لكل قديم الرافض لكل جديد، يمكن لنا أن نتفهم اختلاف الثقافات ورسوخ العادات ولكن ليس إلى الحد المجافي للفطرة والمنطق وروح العصر، يمكن لنا أن نفهم امتناع المسلم عن أكل لحم الخنزير، اعتبر ذلك دينا أو ثقافة أو هوية، لا ضير، لكن أن يسيطر الخنزير على تفكيرك في كل صغيرة وكبيرة تشتريها من المولات والأسواق وتتمظهر في أسئلة ورعية وزهدية لا معنى لها سوى تثبيت التشدد والتنطع فيما لا يلزم من الدين فهذه حماقة!

“خيبة أمل من عدم المصافحة”

إحدى العاملات في منظمة دياكوني أصيبت بخيبة أمل ليس عندما تقدمت لمصافحة سوري رفض مصافحتها وهي تريد خدمته وخدمة عائلته بل عندما حاولت مصافحة ولده والذي لم يتجاوز الخامسة عشر من العمر وعندما سألته لماذا؟ قال: لا يجوز هذا حرام!

هرعت المرأة الألمانية تاركة منزل العائلة السورية ولسان حالها يقول: لا أتحمل صدمتين في اليوم!

وكأنّ علياً بن أبي طالب لم يكن يعني بقوله إلا هؤلاء الآباء يوم قال: لا تؤدبّوا أولادكم بأخلاقكم، فإنهم خلقوا لزمن غير زمانكم! فكيف لو عرف عليٌّ أن الزمان والمكان لم يختلفا عند كثير من أبناء الإسلام اليوم منذ لحظة تأسيسه إلى اليوم؟

لم تصب بخيبة أمل لوحدها بل تعدى ذلك رئيس منظمة OASE (المنظمة الداعمة للاجئين بكل الخدمات التعليمية والخدمية في أحد أهم أحياء فوبرتال التي يقطنها غالبية من اللاجئين) عندما أجريت حوارا معه ومع السيدة كاترين فيبَر قال لي : في أول دفعة لاجئين تصل المدينة ذهبنا لاستقبالهم بالورود عند محطة القطار، اليوم بعد خمس سنوات دعني أخبرك أنننا أصبنا بخيبة أمل نوعا ما، وكما تعلم غالبا الناس يكوِّنون أحكاما دوغمائية رغم وجود الناس الجيدين والصالحين بين القادمين الجدد وهم كثر.

“الصدمة الثانية : تحجيب القاصرات”

الصدمة الثانية: من مشاهداتي الأليمة والقاسية أيضا في ألمانيا، هي تحجيب القاصرات المسلمات. لنفرض أن القوانيين تتيح للإنسان حرية ما يريد وفق ما يتناسب مع ديانته وهو المعمول به في ألمانيا ، ولكن التمادي في هذا الحق سيشكل رأيا عاما لا يسر خصوصا إذا كان غير متناغم مع قضايا المساواة بين الجنسين، لم أشاهد طفلات في سوريا محجبات وهنّ في المرحلة الابتدائية، أي في سن التاسعة والعاشرة، هذا مشهد رأيته في ألمانيا وبكثرة وهو مخيف ويعكس مدى تخلفنا الديني والثقافي، فلا الدين أمر بذلك ولا يتناسب هذا المشهد مع ثقافة العصر مطلقا، وأرجو من الحكومة الألمانية دراسة هذه الظاهرة ومن المنظمات الإسلامية المعتبرة في البلاد لوضع سن معين تختار به الفتاة الحجاب من عدمه طوعا لا كرها، ومع كلّ أسف يبدو أنّ المساجد تعزز مثل هذا التوجه الرجعي تحت دعاوي زائفة كمكافحة الرذيلة ومقاومة الانحلال وكأنّ التربية والاستقامة لا تكون دون قطعة من القماش!

“الصدمة الثالثة: لاجئون سوريون وفدوا من الخليج إلى ألمانيا”

الصدمة الثالثة : شكل فتح باب اللجوء الإنساني للسوريين لدى الاتحاد الأوروبي فرصة للسوريين المقيمين خارج سوريا -أي غير المتضررين مباشرة من الوضع السوري الجهنمي من طرفي النظام والميليشيات الطائفية والداعشية – لترك بلدان إقامتهم في الخليج وخصوصا السعودية والقدوم إلى الدول الأفضل في شروط العمل والمعيشة، أحد تناقضات بعض هؤلاء القادمين أيضا من بلدان الخليج هو إيمانهم بالمذهب السلفي وفق النموذج الوهابي وهم ضد قوانين حظر النقاب في أوربا، ومع وضع قيود لاختلاط الرجال بالنساء هنا والتحذير من العلمانية وتحرير المرأة بحجة أنّه خدعة لاستغلال جسدها، يصدمك هؤلاء عندما تصدمهم بسؤال: لماذا أتيتم إلى هنا وتركتم كلّ ما ترغبون برؤيته هناك؟

ألا يشعر هؤلاء بالخجل عندما تهدر كرامتهم ويجرون لأقبية الفروع الأمنية لمجرد نقد السلطة الملكية أو الديكتاتورية العسكرية في بلدانهم ثم ينتقدون ديمقراطية الغرب التي تكفل لهم حق الدفاع عن أنفسهم حتى لو اتهموا في جرائم ضد الارهاب؟

وحسنا فعلت الحكومة الألمانية يوم أغلقت أكاديمية علمية تنشر الفكر الوهابي في ألمانيا ومع تأييد وتشجيع وسن أي قانون يحظر نشر ثقافة الكراهية والتمايز وتكفير الآخر، سواء كان تكفيرا دينيا بمعاني رجعية أو تكفيرا عنصريا باعتباره ليس مواطنا جديرا بالحياة في هذه البلاد.

الصدمة الرابعة: أوساخ، وألفاظ جنسية

الصدمة الرابعة: كنت في سوريا أجد عذرا أحيانا لمن لا يتقيد بقواعد النظام العام ونظافة المكان كون الفساد السياسي قد يكون مقدمة لفساد المجتمع والناس كما يقول المتنبي: ومن وجد الإحسان قيدا تقيدا، وإذا بي أجد عدم رغبة في أوساط اللاجئين بالتقيد بالنظام العام وقوانين الصحة العامة. أصبح طبيعيا أن تقرأ في بعض الأمكنة العامة باللغة الألمانية والعربية معا: لا تدخن هنا، التدخين ممنوع، وليس من اللائق عندما تذهب أسرة لقضاء عطلة نهاية الأسبوع على ضفاف بحيرة أو في حديقة عامة يسمح بها طبخ الطعام وشواء اللحم أن تترك مخلفات ما تأكله أو الأوساخ والمحارم على الأرض، فهذا لعمري من أقبح المشاهد التي يجب معالجتها ومحاربتها والضرب بلسان النصيحة لكل من يستسهلها.

كما أنّ فئة الشباب ما دون السن القانوني قد تلقفت تعليمات شعبوية بأنهم بمنجى عن المحاسبة القانونية ولذلك تجد ممارسات سلبية وغير أخلاقية من هذه الفئة التي يسيء بعض أبنائها إلى سمعتهم وسمعة أهلهم وبلدهم بمراهقتهم وسلوكهم النشاز اجتماعيا كالتلفظ الجنسي القبيح في الشارع لعلمهم أنّ الفتيات لا يفهمن تلك الألفاظ الملقاة بالعربية.

كما أنّ من يزور أي شارع تسكنه وتديره الجاليات العربية يجد النفس العربي فيه من كثرة القمامة والأوساخ وأعقاب السجائر، خذ مثلا، شارع المطاعم العربية في بروكسل أو شارع العرب في برلين، ومن يراقب أي مبنى تسكنه غالبية عربية أو شرقية سيكتشف أنّ هذا الشارع من ذاك البيت وأنّ الخلل في طريقتنا للحياة رغم أننا نريد أن نعلم الآخرين: أننا أطهر منهم كوننا نتوضأ في اليوم خمس مرات!

الصدمة الخامسة : انغلاق وعنصرية بعض الألمان

الصدمة الخامسة : وجود عينة من الألمان لا تقل دوغمائية وإيديولوجية عن بعض من تحدثنا عنهم، فكر منغلق أمام الآخر، عدم الرغبة بمصافحته ولا حتى الاقتراب منه والنظر إليه أو إلقاء تحية الصباح، هذه العينة أيضا مشبعة بالتحيز والفوقية والعنصرية ترى في القادمين الجدد شعوبا من نخب ثان وثالث ورابع، وللأمانة لم يشعر كاتب هذه السطور بتعاطف مع المسألة اليهودية إلا عندما صادف مثل هذه النماذج في أوروبا، حتى أنني عندما أتعرض لموقف عنصري بغيض، أفكر في البحث عن وطن قومي لي وحدي أعيش به بعيدا عن هذا المحيط! هذا حال يتعرض له أي لاجئ اليوم في القرن الحادي والعشرين فكيف كان حال هؤلاء العنصريين مع اليهود، وهم أكثر الشعوب تضررا وألما وعذابا من هذه العنصرية المقيتة في إحدى مراحل التاريخ الأوروبي، إنّه من القاسي جدا على المرء أن يكون هاربا من الأسدية ليقابل بعض نماذج النازية!

أجد كلّ ما سبق من حضور الديني على حساب الثقافي في شخصية بعض طالبي اللجوء والقادمين الجدد، وحمل تناقضات لا يمكن فهمها من كراهية للديمقراطية وللعلمانية رغم تحمل المشاق للوصول إلى هذه الدول وعدم رغبتنا في الالتزام بالنظام العام واحترام ثقافة المختلف أهم ما يشكل معوقات الاندماج الحقيقي للقادمين الجدد والمجتمع الألماني، فليس تعلم اللغة وفق الفلسفة الألمانية إلا مفتاحا ليس للعمل وللانخراط في المجتمع الألماني فحسب بل وللتلاقح الثقافي أيضا، إذ كيف تتعلم لغة قوم وتكون في منأى عن آدابهم وثقافتهم، وهو أهم ما يميز الثقافة الألمانية كونها على استعداد للذهاب لكل الثقافات والاستفادة من خبرات الشعوب وتجاربها فكيف سيكون تصرفهم يوم يرون في القادمين الجدد مشروعا عصيا على الانخراط في الثقافة العالمية المؤنسنة القيم والمعولمة من وجه آخر، وربما يكون هو التحدي الكبير الذي يجب على طالبي اللجوء والراغبين في الحصول على الإقامة الدائمة هنا مواجهته، كيف يمكن لنا أن نتصرف كألمان مع بقاء سوريتنا وهويتنا الثقافية؟

عمق ثقافي ألماني كفيل بتبديد مخاوف صعود اليمين الشعبوي

وهو أمر ليس بالغ الصعوبة إذا ما علمنا أنّ مجتمعا كألمانيا مؤسس في عمقه الثقافي على الانفتاح وفتح النوافذ على كل الثقافات والحضارات من أمريكا اللاتينية إلى عقل المعتزلة إلى حضارة بوذا وزرادشت وأمريكا اليوم، وأنّ هذا العمق الثقافي هو الكفيل وحده بتبديد مخاوف صعود اليمين إذا كنا جزء من تبديد هذه المخاوف وليس جزء من تكريسها.

لا يجب أن نخجل من البوح بيننا وبين أنفسنا من أنّ الإسلام الشعبوي كان فعلا مساعدا لوصول اليمين الشعبوي إلى قبة البرلمان الألماني، فمع وصول وسائل التقنية الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي إلى ذروتها في السنوات الأخيرة، فإنّ حادثة سلبية يقوم بها لاجئ في مدينة شفيرين (شرقي ألمانيا) تلقى مليون متحدث بها في غرب البلاد وجنوبها فكيف إذا كانت هذه الحادثة أكثر قبحا ونشازا من رجل يضرب زوجته في الشارع أو يركل ولده بقدمه أو يسحب سكينا في مشاجرة ليطعن بها آخر؟ “هل هؤلاء هم من خرجوا يطالبون بالحرية والتحرر من الديكتاتورية العسكرية؟”

“لاجئون يعودون كل فترة إلى دمشق لقضاء العطلة “في أحضان الأسد” ”

فكيف إذا ملك اليمين الشعبوي وسائل تقنية لترجمة ما يكتبه بعض القادمين الجدد من تعليقات على صفحة DW وغيرها من وسائل الإعلام عن رغبة البعض بتشجيع الدعوة إلى الإسلام في أوساط الألمان أو إلى نعت بعضهم لبلاد الغرب ببلدان الكفر والرذيلة والانحلال، أو أن يسمع لبعض خطب الجمعة في أغلب المساجد، بل إنّ البعض لم يخجل من نعت فكرة المساعدة الاجتماعية للعاطلين عن العمل (الجوب سنتر) بأنها مأخوذة من فكرة بيت مال المسلمين، وينسى هؤلاء أنّ عمر كان يضرب من يقعد في بيته دون عمل وليس في الإسلام عطاء دون مقابل لغير العاجز والهرم، أو مطالبة البعض بأن يخصص وقت للصلاة في المدارس الألمانية، فكيف إذا علمنا أنّ لاجئين قاطعا كورس اللغة والمعلمة تتحدث ومدّ سجادة الصلاة وصليا في قلب القاعة، علما أن الاستراحة بعد ربع ساعة وبإمكانهما أن يصليا وقت الاستراحة ولكنه التنطع والحمق.

وربما ستكتشف مستقبلا من وجود عينة من السوريين تريد أن توصل رسالة للرأي العام الألماني: هذا هو الشعب الذي خرج يطلب الحرية والتحرر من الديكتاتورية العسكرية! وهذه العينة المشبوهة يلاحظ عليها معادات ثورات الشعوب والدفاع عن أنظمتها السياسية في بلدانها، فكيف إذا علمنا أنّ بعضا من هؤلاء حصلوا على إقامات لجوء حماية تتعهد الدولة بحمايتهم كونهم هاربين من جحيم الأسد فإذا بهم كل فترة ينزلون إلى دمشق لقضاء العطلة مع أقاربهم وربما مع فريق توجيههم المعنوي والسياسي! وهنا لا نجد حرجا من وجوب خضوع هؤلاء للمساءلة القانونية كونهم خالفوا أهم قوانين اللجوء. وربما يكون البعض منهم جزء من شبكة إرهابية موجهة مخابراتيا، ولا أعرف سر تهديد المفتي الجمهورية السورية الشيخ أحمد حسون يوم قال: سنغرق أوربة بالانتحاريين! فعلى ماذا كان يراهن؟

“جهل بالإسلام وتحول الإسلام إلى وسواس قهري”

إذَن الجهل بالإسلام، والمرض بالإسلام، أي تحول الاسلام إلى عصاب ووسواس قهري في التعامل والعلاقات والمأكل والمشرب ورغبة الآخر أن يتطابق تفكيره مع تفكيري، وأن يكون تصوره للحياة والكون والإنسان وفق ما جاء به الإسلام فهذه كارثة الكوارث، وأن يتملك اللاجئ شعور أنه سفير دعوة للإسلام ويتقمص دور النبي فهذا خراب الثقافة والدين والمجتمع والسياسة، وربما إن لم نتساعد ونساهم في ترسيخ قيم الثقافة التحررية وثقافة التفاهم والاحترام المتبادل وعدم الشعور بامتلاك الحق والحقيقة فسيكون المستقبل لليمين الأوربي وسنكون أول من يُخرّب بيوتنا وبيوت غيرنا بأيدينا فاعتبروا يا أولي الأبصار!

نقاط مضيئة

رغم كل هذه النقاط السوداء الكئيبة المخيبة للآمال والصادمة فإن نسبة جيدة إن لم نقل الأكثرية من طالبي اللجوء والقادمين الجدد قد أثبتوا نبوغا وذكاء واستقامة في كل الميادين، فمن السوريين من حقق مستويات غير مسبوقة في تعلم اللغة الألمانية التي تعتبر من اللغات الصعبة عالميا، بل ومنهم من تميز على طلاب البلد المضيف كالعظيمة ابنة اللاذقية وسوريا نور ياسين قصاب عندما حققت العلامة التامة في الشهادة الثانوية العامة في ولايتها بعد مرور ثلاث سنوات على قدومها، هذا هو التحدي الذي بشرت به السيدة ميركل وعنت به يوم قالت: سننجح.

هناك رغبة تحدي أمام السوريين وثمة مؤشرات تدل على انخراطهم في دورات التأهيل المهني والدراسة الجامعية وسوق العمل رغم كل معوقات البيروقراطية الألمانية وبرودة الإجراءات والبروتوكولات فإنّ وعيا جديدا يجب أن نشيد به وندعمه ونشجعه حتى في أوساط المتدينين.

تعميق الثقافة الإنسانية

إنّ قيم المواطنة والعدالة والمساواة واحترام القانون وتمكين ثقافة الحياة والعيش السعيد هي الرهان الذي يجب على السوري التمسك به ويجعلنا نبني على هذا الأمل رفض اللاجئين لكل أشكال وصور الإرهاب ومشاركتهم في كل الفعاليات السلمية النابذة للعنف والقتل باسم الأديان، رغم تحذيرنا من العينات التي تحدثنا عنها سابقا في إظهار تدينها المرضي والعصابي أنها ربما تكون عرضة للوقوع في شراك المنظمات الإرهابية، ما يعني أن العمل على تنوير أفكار اللاجئين وتحديث قيمهم وتعميق ثقافتهم الإنسانية هي إحدى المهمات العظيمة التي تجعل عملية الاندماج بالغة السهولة وحميدة الأثر وخط الدفاع الأول أمام كل الثقافات البربرية والعنصرية.

حقوق النشر: موقع قنطرة 2017

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى