صفحات الرأي

ديكتاتوريات وثورات ومصاعب انتقال/ شفيق ناظم الغبرا *

تحول الانفجار العربي إلى حرب استنزاف طويلة لا تحدها السنوات. الثورات العربية لم تكن سريعة وقصيرة مثل حرب الأيام الستة أو حرب أكتوبر في مواجهة إسرائيل، ولم تكن مثل الحرب الأهلية اللبنانية محصورة في بلد واحد، فالثورات العربية انفجرت مكونة سلسلة من المواجهات والانتفاضات والميادين والحركات السياسية والتيارات الممتدة على مسرح عمليات يشمل العالم العربي برمته.

الانفجار السياسي الاجتماعي المفاجئ في مجتمعات لم يسمح لها من قبل أنظمتها بممارسة أصول السياسة والمشاركة جعل الصمغ الذي جمع العرب في أوطانهم وصنع استقرارهم يتبخر بأسرع من المتوقع. وبينما يحمّل جزء منا (نحن العرب) كل ما حصل لعوامل خارجية، إلا أن العوامل الذاتية (قمع وقهر، فساد وفشل، استئثار وتحكم، فقر وإفقار) شكلت الأساس الذي صنع الانفجار العربي. ففي التجربة الإنسانية لا يوجد غضب شعبي تصنعه أسباب خارجية، فالغضب الشعبي نتاج سيطرة وتفرد ومخاوف وحرمان وفقدان حقوق. وقد نتج من تشابه الأوضاع بين الدول العربية وتشابه الثقافة والسياسة واللغة، إضافة إلى النموذج (تونس ثم مصر و…) انتشار الثورات وتحرك رسالتها.

لقد كان الاستقرار العربي قبل الثورات معتمداً على قبضة الأنظمة القوية المستندة إلى فرد وعائلة وفئة بأكثر من كونه نتاج توازنات ذاتية وتفاهمات بين مجتمعات تشعر بحريتها. التجربة العربية كما عبرت عنها الثورات تؤكد أن القبضة الأمنية لا تدوم لأنها بطبيعتها تنتج بذور مقاومتها. فالأنظمة التي لا تحترم تجربة المجتمع وحقه في تطوير مشاركته هي الأكثر عرضة للمفاجآت والانعطافات السريعة.

وتؤكد تجارب الشعوب أن السلام الداخلي في المجتمعات إما أن يكون نتاج توافق حقيقي بين شركاء، وإما أن يكون نتاج خوف من سلطة أعلى من الجميع. ومهما سعت السلطة لبناء وضع طبيعي في ظل القمع وربط مصالح أقلية اجتماعية سياسية، فسينتهي ذلك إلى فشل عند أول منعطف. لهذا ينهار كل شيء في الكثير من البلدان العربية بمجرد سقوط حاجز الخوف. الديكتاتوريات العربية جمدت التاريخ عند لحظات معينة وأبقت التنمية في حدود محددة، وتحكمت بالأغلبيات بواسطة أقليات غير منتخبة تعتبر نفسها فوق القانون والمساءلة. في الجوهر تبين أن البنيان العربي هش وضعيف بسبب صيغه الداخلية وتفرد نخبه السياسية.

إن أحد مسببات السقوط العربي مرتبط بتبني الأنظمة العربية لنظرة ميكيافيلية للسياسة تقوم على التالي: «وعود الإصلاح تشتري الوقت بينما بقاء الشعب في حالة بحث عن لقمة العيش وتفاصيل البقاء ضمانة استقرار». «الحقوق هبة من الحاكم، لكنها ليست حقاً أصيلاً للمواطن». «الامتيازات نتاج ولاء سياسي، سحب هذه الامتيازات يبقي المحيطين والشعب في حالة ترقب وقلق». «غياب الثقة بين الطوائف والجماعات والفئات وسيلة لتحقيق الحكم المستقر». «المجتمع الفاقد للثقة بنفسه وبمكوناته هو المجتمع المهيأ للخضوع».

لقد أدت هذه السياسات إلى صراع بين النخب (بمعزل عن الرأي العام والشعوب المغيبة) حول الثروة والنفوذ. فقد أقصى المحيطون بالرؤساء والقادة فئات تنافسهم على المواقع الأولى، مما ضرب الثقة بين مكونات هذه الأنظمة. لهذا برزت عقدة التوريث بصفتها الحل الأمثل لسقوط الثقة في كل نظام، كما برزت أزمة الثقة في لحظات انتظار انتقال الحكم في أنظمة ملكية عدة. لقد أدت سياسة الأنظمة المغلقة إلى تعميق الشللية والفئوية والعزل السياسي بين النخبة نفسها وليس فقط بين الأنظمة ومعارضيها.

لم تكن الأنظمة العربية تعتقد أنها بحاجة إلى التنمية السياسية والأحزاب التي تخوض تجارب حقيقية. لم تكن تعتقد بضرورة الشراكة، وفي أغلب الحالات إن قبلت ببعض من المشاركة فقد فعلت ذلك بهدف التراجع عنها عند أول منعطف. الأنظمة رفضت مبدأ تدوير السياسة وجعل النخب تتنافس بصورة مشرفة من أجل تحقيق برامج جادة ومسؤولة. ولم تكن الأنظمة تولي أية أهمية لتطوير العدالة، والشفافية، والكرامة، والثقة وفصل السلطات مصحوباً بالفكر والبحث والعلم والعقل لتكون الطاقة الأهم في بناء مجتمعات نامية واثقة.

وبسبب طبيعة المدرسة الحاكمة العربية برزت المدرسة الجهادية معبرة عن الصورة الأخرى في النظام العربي. فهكذا أنظمة سياسية ستنتج حتماً معارضات عنيفة أحادية التفكير تستهدف الخارج في البداية ثم تلتفت إلى المؤسسات الوطنية والشعب والطوائف والمختلفين. لكن تفجيرات «القاعدة» في العراق وسلوك الجهاديين في سيناء مؤخراً وطبيعة تصرفات الفئات المتطرفة في العالم العربي تأكيد على استمرار المدرسة الجهادية بعد تفجر الثورات العربية. لا بد من التساؤل كيف أدت الديكتاتورية والفساد وانتشار مدن الفقر والتهميش والتفرقة بين الناس إلى انتشار غضب عنيف لا يتردد في حصد ألوف المدنيين الأبرياء؟ لا بد من التساؤل كيف تتعامل الدول العربية مع الأمراض التي صنعتها وغضت النظر عنها في المرحلة السابقة.

نجد أنفسنا كعرب في دوامة تاريخية، وفي صراع مع النفس والآخر. وللخروج من هذه الدوامة لا بد من اعتبار ما يقع في البلدان العربية فرصة للتعلم وللتصالح مع النفس. لا بد من بلورة تصورات واضحة تسمح بالانتقال. فالعرب في هذه المرحلة في زمن انتقالي شديد التنوع والدوران. الانتقال وإدارته ضرورة في دول الثورات وضرورة أيضاً في الدول الملكية التي لم تعرف الثورات وذلك بهدف تفادي الثورات وتحصين وضعها من خلال الإصلاح. وهذا سيتطلب تحالفات تبني إجماعاً معقولاً في مرحلة حساسة. مجتمعاتنا بحاجة إلى عدالة وشفافية وكفاءة وإنجاز وحكمة. لا بد من آلية سياسية بين مكونات المجتمع ولا بد من تفاوض حول شروط المرحلة الانتقالية.

لقد مثل مناخ الثورات لحظة تفاؤل تاريخية، أما مناخ ما بعد الثورات فعبر عن مدى صعوبة إنجاح ثورات في ظل تراكمات سابقة وراهنة لا تعطي أحداً الوقت الكافي لتحقيق إنجازات ونتائج. لقد تحولت الثورات العربية إلى حقل تدريب لقادة جدد وتيارات سياسية صاعدة، لهذا ستبرز مع الوقت جيلاً جديداً يزداد نضجاً. إن الثورات نتاج تفاؤل يختمر في مجتمعات مصرة على التغير، ولهذا تمثل بداية لطريق طويل، أما النهاية فلن تكون ممكنة قبل بناء واقع سياسي منسجم مع مبادئ العدالة والحريات والمشاركة.

* أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى