مراجعات كتب

“رَايْزَالْ” للمكسيكي إغناسيو غوميس بلاسيو: مَا تَبَقَّى مِنَ حضارة «المَايَا» بَعْدَ الانْدِحَار/ محمّد محمّد خطّابي

 

 

غرناطة ـ «القدس العربي» مجموعة قصص قصيرة يضمّها بين دفّتيه كتاب طريف تحت عنوان «رَايْزَالْ» للكاتب المكسيكي إغناسيو غوميس بلاسيو، يدور برمّته حول شعوب المايا، هذا الكتاب لم أتمكّن منذ مدّة أن أتملّص أو أن أتخلّص منه بسُهولة ويُسر، إنه يُلازمني حيثما ذهبت، ويرافقني حيثما ارتحلت ، لطرافة موضوعاته، وعمق مضامينه، ومدى جديته وجدواه بالنسبة لمن أراد أن يتعرّف أو يعرف ماذا جرى لتلك الشعوب المقهورة والمغلوبة على أمرها، وما عانته وقاسته جرّاء ذاك الذي أُطلِق عليه اعتباطاً، وجزافاً بعد 1492 بـ»الاكتشاف»، هذه الشعوب التي لم يألُ الكاتبُ جهداً في تتبّع، ومعالجة طريقة تفكيرها وفلسفتها، وفهمها للحياة، ونظرتها لها، التي تختلف عن طرائق عيشنا، والتي يمتدّ بيننا وبينها برزخٌ واسعٌ من الزّمان والمكان. يحفل الكتاب بقصصٍ تنخلع لها القلوب، وحكايات تشيب لها الولدان، نظراً للمآسي الفظيعة، والمرّوعة التي عصفت بهؤلاء السكّان الأصلييّن للقارة الأمريكية وبحضارتهم ولغتهم وثقافتهم وتقاليدهم وعوائدهم ومعتقداتهم وموروثاتهم، بعد وصول الإسبان إلى هذه القارة البكر النائية،التي أطلق عليها في ما بعد اسم العالم الجديد، أو إسبانيا الجديدة، وأخيراً أمريكا.

ينابيع الواقعية السّحرية

يشير الكاتب والباحث والناقد المكسيكي أجيري خيراردو عن هذا الكتاب، فيقول: «تعتبر هذه المجموعة من القصص والحكايات التي تدور برمّتها حول السكّان الأصلييّن في المكسيك، إضافة نوعية قيّمة للأدب الأمريكي اللاّتيني المعاصر، الذي من ينابيعه الأولى، وأساطيره الضاربة في التاريخ والقدم، ومن روائعه تفتّق وانبثق في إبداعات العديد من أدبائه وكتّابه ومبدعيه، ما أصبح يُعرف في ما بعد بالواقعية السّحرية الأمريكية التي ملأت الدّنيا، وشغلت الناس منذ منتصف القرن المنصرم، والتي نبغت في خضمّها وتألقت في سمائها أسماء لامعة في الأدب الأمريكي اللاّتيني الحديث منها – على سبيل المثال وليس الحصر- ميغيل أنخيل أستورياس، وخوليو كورتاثار، وخورخي لويس بورخيس، وخوان رولفو، وكارلوس مونسيفايس، وكارلوس فوينتيس، وغابرييل غارسيا ماركيز وماريو برغاس يوسا وسواهم.

ويضيف الناقد المكسيكي قائلاً: «إنّه كتاب تشمّ فيه، أو منه منذ البداية رائحةَ النبات المبلول، وتطلّ من بين سطوره أساطير وحكايات وقصص وتاريخ السكّان الأصليّين للقارة الأمريكية، وتشعّ منه بصمات الآثار وبقايا أطلال ومعالم وقلاع وأهرامات وحصون الحضارات القديمة السابقة للوجود الكولومبي في هذه القارة، ذلك أنّ جميع أبطال هذه القصص وشخصياتها هم من الأقدمين، وعنوان المجموعة يرمز لهؤلاء الأجداد بلغتهم الأصلية، التي تعني عندهم مجموعات سكّانية بعينها تنتمي لهذه المنطقة من العالم، مواضيع هذا الكتاب هي الأرياف والبوادي النائية عن المدن، والحواضر التي لم تصلها بعد أصباغ التمدين وطراوته وتطريته ورخاوته، حيث يتابع الكاتب خطوات، ومعايشات وملابسات، حفدة هؤلاء السكّان الأوّلين، الذين استوطنوا هذه الأراضي، التي كانت في ما مضى مرتعاً لحضارات قديمة مميّزة سادت فيها ثم بادت.

إنّ أخبار هذه القصص وأحداثها لا تنحصر في شعبٍ بعينه، بل إننا نجدها في مختلف الشعوب التي لم يعد موجوداً منها بين ظهرانينا اليوم سوى موروثاتها وتقاليدها ولغتها وحفدتها.

يريد الكاتب أن يفهمنا في هذا الكتاب أنّ صاحب الأرض السّاكن الأصلي في هذا البلد لم يعد يبدي اليوم مقاومة، ولا صدوداً نحو اللغة والثقافة الإسبانيتين الوافدتين مع الغزو الإسباني، في جنوب القارة، ولا نحو اللغة والثقافة الإنكليزيتين في شمالها، إلاّ أن هذا القاطن الأصلي مع ذلك حافظ بالمقابل، ليس فقط على تقاليده وعاداته، وحسب، بل أنه حافظ كذلك على لغته التي تفصح عن هويّته التي توارثها أباً عن جدّ، وهو ما زال يلقن هذه اللغة لأبنائه وحفدته، وسوف تلقّن لمن سيأتي بعدهم، وعليه فإنه حتى إن أمسى اليوم ثنائي اللغة الإسبانية جنوباً، وأصبح ثنائي اللغة الإنكليزية شمالاً، وحتّى لو أذاقه أهلُ هاتين اللغتين والثقافتين في الحالتين الأمرّين، مع ذلك إنه لا يقلّد أبداً الإنسانَ الأبيض في الجهتين لا في عوائده، ولا في تقاليده، ولا في طريقة تفكيره، بل إنه يتحاشى أن يكون مثله، وهو شديد الاعتزاز بماضيه والافتخار والتباهي به.

كيف كانوا يعيشون..

الكتاب الذي بين أيدينا على الرّغم من أنه مجموعة قصصية قصيرة إلاّ أنها قصص مترابطة، ومتشابكة، ومتلاحمة ببعضها بعضا، حيث تغدو في آخر المطاف وكأنّها رواية مسلسلة الحلقات، حيث يحكي لنا هذا الكتاب قصّة هؤلاء السكّان الأصلييّن، كيف كانوا يعيشون في ماضيهم البعيد، كما أنه يرصد لنا كيف كانوا يفكرون، ويسجّل لنا كيف كانوا يتصرّفون، إزاء الحضارة الوافدة أو الغازية خلال القرون التي تلت (الاكتشاف – الغزو) وبشكلٍ خاص خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، يحكي لنا الكتاب كيفية اندماجهم، فى الحياة العصرية، وما نتج عن ذلك من مفارقات وتناقضات ومواجهات، ومضايقات، ومشاكسات، مع تسليط الأضواء على مختلف أشكال الظّلم، والتعنّت، والتمييز، والحيف، والاستلاب الذي تعرّضوا له من جرّاء الغزو الأجنبي لبلدانهم، وأراضيهم وحياتهم.

هذا الكتاب لم يُكتب داخل أحد منازل المدينة الفارهة، أو في صالونات بيوتاتها الأنيقة، أو دورها العصرية، حيث التدفئة، وجميع وسائل الرّاحة متوفّرة، بل إنّه كُتب بعيداً عن المدينة، حيث عاش الكاتبُ بالفعل مع هؤلاء السكّان الأصليّين، أيّ أنه عايش أبطاله في قراهم، وفي مداشرهم، وفي غاباتهم وأدغالهم، وفي الأرباض النائية، والنواحي البعيدة التي تطلّ من بعيد على إحدى أكبر مدن العالم (مكسيكو سيتي) العملاقة، أو على حاضرة تينوشتتلان، حسب اسمها الأزتيكي القديم. يخبرنا الكاتب أنه عايش «المايا» في جزيرة «جُوكَاتَانْ» المكسيكية، حيث ظهرت ونشأت وترعرعت وإزدهرت حضارتهم، ثمّ سرعان ما خمدت وهمدت وذبلت وأفل نجمها.

ينبئنا الكاتب كذلك أنّه خلال كتابته لهذا المؤلَّف نسي «ظرفه الإنساني»، ونسي الشّهادات الجامعية التي يحملها، وأصبح واحداً من هؤلاء البسطاء، إننا نتلمّس من خلال سطور هذه القصص الرّغبة الجامحة، والجوع المعرفي للتعمّق في حياة شخصيات قصصه، وأبطالها ومعاناتهم التي تختلف عن معاناة الإنسان المتمدّن، وينبئنا الكاتب أيضاً عن الشأو البعيد الذي أدركه هؤلاء السكّان الأقدمون، كما يخبرنا عن درايتهم الواسعة بعلوم الفلاحة والزراعة والبستنة والريّ، وعن علوّ كعبهم في علوم الفلك والنجوم والتنجيم، والمناخ والرياضيات، وإطّلاعهم الكبير على أسرار الطبيعة التي كانوا يعيشون في كنفها، فضلاّ عن معارفهم المتوارثة وثقافتهم الفطرية، التي ترعرعت فوق هذه الأرض التي – يقول الكاتب- أصبحنا نحن اليوم نطأ وجهها، ونلطّخ أديمها، ونتلف ثراها بلا خَجَلٍ ولا وَجَل.

لماذا تحلّق الطيورعلى علوٍّ شاهق؟

يشيرالكاتب على هامش قصصه كذلك إلى «أنّ هؤلاء القوم الذين ينمّ مظهرُهم عن خشونة وغلظة وقسوة، يسري في دمهم، ويجري في أجسادهم إحساس رقيق، وشعور مُرهف، وعطف كبير على أمّهم الأولى الطبيعة، التي لا يتوقف الإنسان الأبيض المتمدّن اليوم عن تدميّرها وإتلافها، إنه يقول كذلك: «إنّ الواحد منّا عندما يندمج في مجتمعهم ويتعرّف على عوائدهم، ويقف على حِكمهم، ويُصغي إلى أمثالهم، ويتمعّن في حِكَمِهم، يشعر بالخجل من نفسه ومن شهاداته الجامعية العليا، إذ أنّ معارفهم عن الطبيعة، وتحركاتها، وتغيّراتها لتبعث على الذّهول والإعجاب، إنّهم يراقبونها بواسطة الطيور وتصرّفاتها..»لن يسقط المطرُ اليوم، أَلاَ ترى أنّ الطيور تحلّق على علوّ شاهق، وارتفاع عالٍ…؟ أمّا اليوم فسوف تهطل السّماء مُزناً نديّا، وأمطاراً غزيرة، أَلاَ ترى كيف أنّ العصافير تحلّق على انخفاضٍ دانٍ مُسفّ».

صمتُ النُّجوم وَلَمَعَانُها

إنّ هدوء البادية، وسكون الغاب، بالنسبة لنا نلمسهما في صمت النجوم، ولمعانها، وفي ريح الصّبا الطريّة، إلاّ أنّ تلك الظواهر والعلامات والأَمَارات عندهم لا تعني ما تعنيه نفسه عندنا، فليلةٌ هادئة جدّاً إنّما هي تُعلن، أو تُنبئ عن شئ مّا، أو عن حدث مّا، أو ظاهرة طبيعية مّا، عن شمسٍ قائظة حارّة حارقة، أو عن هواء مُبلّل عليل، أو ربّما كانت تعني، أو تنذر ببردٍ قارس زمهرير، إنّ الطيور إذا زقزقت والعصافير إذا غرّدت بهذا الشكل وليس بغيره، فإنّما هي تفعل ذلك نتيجة إرهاصٍ خفيٍّ بتغيير وشيك الحدوث في الطبيعة، بل إنّها ملاذ للتفكير، وإعمال النظر والتأمّل من غسق الفجر إلى شفق المساء، إنّهم دائمو الحيطة والحذر على ما يملكون لحفظه ورعايته وصونه من التّهلكة، والمخاطر والتّلف والضياع والدّمار.

كلّ هذه المعاني البسيطة والتفاسيرالغريبة في آنٍ واحد، والتي تدخل في باب السّهل الممتنع، وكل هذا الحديث المطوّل والمشوِّق عن الطبيعة، وعن ألغازها الكبرى، وأسرارها المحيّرة، وظواهرها المُبهرة، يُشكِّل نوعاً من الفلسفة لدى هؤلاء القوم، كلُّ واحدٍ منهم حسب سنّه، ومكان وجوده وظرفه وزمانه، قد يفكّر تفكيراّ مغايراّ عن الآخر، إلاّ أنهم حتى لو اختلفوا، وتباينوا في ما بينهم عن الجزئيّات، فإنّهم في النهاية يلتقون دائماّ في الجوهر أو في العُمق.

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى