صفحات العالم

سوريا بين سقوط النظام وسقوط الشعب/ عبد الوهاب بدرخان

عندما خرج الأخضر الإبراهيمي من قاعة مجلس الأمن، يوم الخميس الماضي، كان الانطباع السائد أن صفحة المفاوضات السورية في جنيف طويت لفترة قد تطول، بل إن مراقبين تكهّنوا بأنها دُفنت، وأن الحل السياسي- رغم أنه الحل الوحيد – أصبح مجرد سراب. ولكي يؤكد الإبراهيمي ذلك، أطلق تحذيره من إجراء الانتخابات الرئاسية التي باشر النظام الاستعدادات لها ستطلق رصاصة الرحمة على أي حل من خلال التفاوض. ولم يجد ممثلو النظام سوى مهاجمة المبعوث الدولي – العربي، لأنه تدخل في «شأن داخلي» و«سيادي»، لكن الرجل قدّم تحليله السياسي للوضع، وهو صحيح، ولم يدعُ صراحةً إلى منع إجراء الاقتراع، بل الأصحّ أن النظام نفسه كان متوقعاً منه أن يكون أكثر حرصاً على إبقاء الأبواب مفتوحة أمام حل سياسي، لكنه يهجس بالحل العسكري منذ البداية الفعلية للحراك الشعبي، الذي تحوّل إلى أزمة داخلية باتت كل تفاصيلها مدوّلة سواء في جانب النظام أو في جانب المعارضة.

لم يكن التفاوض سوى آخر يسقط، فعلى مرّ الأيام والشهور خلال هذه الأعوام الثلاثة، فوّتت فرص كثيرة كان بالإمكان استغلالها من هذا الطرف أو ذاك، إلا أن النظام وحلفاءه، خصوصاً إيران وروسيا، فضّلوا وضع الأزمة السورية في سوق الصراعات والمساومات مع الدول الغربية ولا سيما الولايات المتحدة، التي كانت باشرت عملياً تطبيق استراتيجيتها الجديدة بالتخفف من الشرق الأوسط ونزاعاته. ولذلك لم تتعامل واشنطن مع الشأن السوري إلا من زاوية إسرائيل وأمنها. ويمكن إجمال الخيارات والرهانات التي سقطت تباعاً في سياق هذا الصراع، كالآتي:

1 – السلمية التي بدأ الشعب بها حراكه، وكان مصمماً على أن يواصلها، وظلّت التظاهرات العزلاء تعم المناطق كافة حتى بعد بلوغ ضحايا القمع الدموي أكثر من عشرة آلاف قتيل وأضعافهم من الجرحى والمعتقلين والمخطوفين والمفقودين.

2 – براغماتية عُرف بها النظام في مواجهته للأزمات الصعبة، والبعض سمّاها «عقلانية»، إذ أن عارفيه توقعوا أن يعمل للخروج سريعاً من المأزق بالسياسة وليس بالشدّة الأمنية فحسب، لكنهم كانوا يقيسون إلى نهج النظام في عهد رئيسه الراحل. لكن تبيّن أن الرئيس الابن والمحيطين به لا يتقنون هذا النهج.

3 – بعد مرور أربعة أشهر على المواجهات كان معظم القوى الخارجية، بالأخص الأساسية منها، يدعو النظام إلى وضع «خطة لإصلاح حقيقي» و«أن يقود هذا الإصلاح» (وفقاً لمقولة باراك أوباما)، ولم يكن شعار «إسقاط النظام» قد تحوّل بعد إلى مطلب رئيسي للشعب. لكن ما قدّمه النظام كان مخيباً للآمال، حتى أنه لم يحتمل ما سمعه في «الحوار الرسمي» الذي أشرف عليه فاروق الشرع.

4 – المبادرة التي طرحتها تركيا، استناداً إلى العلاقة «الاستراتيجية» التي نشأت بينها وبين النظام وظنّ داود أوغلو أنه استطاع أن يُحدث بها اختراقاً في الأزمة، لكن لم يمضِ وقت طويل حتى تحوّلت العلاقة الحميمة إلى قطيعة وعداء مستحكم. وما أفشل هذه المبادرة سيفشل كل المحاولات التي تلتها.

5 – كان واضحاً المنحى الاستفزازي الذي اتّبعه عنف السلطة لاستدراج الانتفاضة إلى «عسكرة» حتمية. فما كان للسلمية أن تدوم مع الاستهداف المنهجي للمتظاهرين وإطلاق النار على مشيعي القتلى وبداية التململ في صفوف الجند الذين يدعون إلى قتل أهاليهم وتصفية من لا ينفذ الأوامر منهم. ومع ظهور «الجيش السوري الحر» كتشكيل معبّر عن عسكرة الانتفاضة، اعتبر النظام أنه بات في معادلة قتالية سيكسبها بتفوّقه الناري.

6 – المبادرة العربية التي شكّل نصها الأساسي مرجعاً لكل المبادرات اللاحقة، وقد سعى النظام إلى توظيفها لتساعده في إخماد الانتفاضة، ولما تجاهل الإجراءات والمهل الزمنية التي حددتها كان من الطبيعي أن تتوقف.

7 – التدويل استند إلى معطيات التعريب التي استخلص كوفي أنان ست نقاط منها وحاول تطبيقها فاصطدم بعَنَت النظام فانسحب لكن بعدما زرع «جنيف 1» كمسار مستقل عن مجلس الأمن الذي توصّل «الفيتو» الروسي إلى إقفاله.

8 – منتصف 2012 بدا ممكناً إسقاط النظام عسكرياً، لكن داعمي المعارضة وحلفاء النظام فضلاً عن إسرائيل حالوا، كلٌ لأسبابه، دون التسليح النوعي لـ «الجيش الحر»، واعتبروا أن المعادلة الميدانية المتوازنة تتيح الضغط على الطرفين للذهاب إلى حل سياسي.

9 – تراجع الولايات المتحدة عن خطة الضربات الصاروخية لمواقع النظام رداً على استخدامه السلاح الكيماوي. كان هذا أكبر الرهانات العسكرية وأهمها على الإطلاق، وبسقوطه كسب معسكر النظام معركته الرئيسية.

10 – بعد ذلك تمكّن النظام أيضاً من إفشال مفاوضات «جنيف 2» ليتفرّغ إلى ما تبقى لديه من خطط الحسم العسكري الذي لن يحسم بل سيطيل النزاع من دون أي أفق.

في المقابل يبدو النظام، الذي خسر شعبه، وكأنه كسب كل رهاناته: العنف، العسكرة، الاستعانة بالمجموعات الإرهابية لاختراق الخصوم، تفتت المعارضة، والأهم ثبات حلفائه فيما أظهر داعمو المعارضة أنهم لا يزالون بلا استراتيجية.

الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى