ديمة ونوسصفحات الثقافة

“سوريا تتحدث”.. لغة ما قبل الثورة/ ديمة ونوس

 

 

“سوريا تتحدّث.. الثقافة والفن من أجل الحرية”، كتاب صدر قبل أيام عن “دار الساقي” في بيروت وشارك فيه 54 سوريّاً بين كتّاب محترفين وآخرين جدد ورسامين ومصورين وسينمائيين. “الإبداع ليس الطريقة الوحيدة للاستمرار في الحياة في ظل العنف فحسب، إنما هو طريقة فعالة لتحدّي العنف ذاته كذلك”، يقول الكاتبان زاهر عمرين ومالو هالاسا في مقدمة الكتاب الذي أعدّاه سوية إلى جانب الصحافية نوارة محفوض.

النصوص التي يضمّها الكتاب (304 صفحة)، تقدّم للقارئ ذاكرة بصرية خصبة عن سوريا بعد العام 2011. مع أن نصوصاً عديدة تؤرّخ لذاكرة الثمانينات والتسعينات، إلا أنها تبقى في حيّز الثورة، لأنها ربما تنشر الآن للمرة الأولى. وإن خطر في بالنا أن نعطي الكتاب عنواناً جانبياً فلن نجد سوى “الحنين إلى الزمن الجميل”.. زمن الثورة بين آذار/مارس 2011 ومنتصف العام 2013. وبما أن زمن الثورة يتصّف بالسرعة وبتراكمات قاسية من الخوف والقلق والموت والدمار والعنف والغربة، يبدو الكتاب الذي أنجز قبل عام تقريباً بتمويل من “صندوق الأمير كلاوس” و”المركز الدنماركي للثقافة والتنمية”، متخصّصاً في مرحلة معينة مرّت بها الثورة السورية. في المقابل، تطرح النصوص المشاركة أفكاراً قيّمة ومسائل إشكالية في علاقة النخبة بالثورة من جهة وبالشارع الثائر من جهة أخرى.

في المقدمة أيضاً، يشير معدّو الكتاب إلى أن “النشاط الفني والثقافي السوري لطالما اعتبر نشاطاً نخبوياً منعزلاً عن هموم المواطنين، حتى قامت الثورة السورية فأنهى الشارع السوري بشجاعة قرابة أربعين عاماً من الصمت واجترح لنفسه أدوات تعبيره الذاتية (….) الأمر الذي جعل ممارسي الفنون والثقافة يقفون عاجزين أمام هذا الكمّ الهائل من المظاهر الفنية والثقافية التي ظهرت بعد آذار/مارس 2011”. هنا أيضاً، يتوهّم المشرفون على الكتاب أنهم في صدد إنجاز موسوعة تخصّ الشارع الثائر، وهو أمر غير دقيق. أولاً، لأن المشاركين في الكتاب هم في معظمهم من النخبة، حتى وإن خصّصوا نصوصهم للحديث عن الشارع. ثانياً، لأن معظم النصوص مكتوب بلغة كانت سائدة منذ سنوات ما قبل الثورة. باستثناء نصوص قليلة مثل نص الروائية السورية سمر يزبك أو السينمائي أسامة محمد أو المصوّر والرسام خليل يونس أو الشاعر دارا العبد الله أو الطبيبة والقاصّة فاديا اللاذقاني.

الأزمة الأخرى التي يطرحها الكتاب، هي مسألة الهوية السورية الضائعة. إذ يلاحظ القارئ أن النصوص التي تمسّه في الروح هي النصوص المكتوبة في الداخل السوري أو عن يوميات الداخل السوري. بينما تقع النصوص الأخرى النظرية والعامة في حفرة التنظير والنخبوية، وهي حفرة باتت أكثر عمقاً بعد انطلاق الثورة، بحيث يبدو الصراخ منها، صدى يصعب التقاط نبرته تحت أصوات القصف والدمار والدم. لذلك ربما تقول الفنانة سلافة حجازي في ختام النص الذي كتبته مرفقاً برسوم لها يعود تاريخها إلى بعد الثورة: “لكن الرسوم التي أنتجتها في الداخل أكثر عفوية وأكثر طبيعية ونابعة من القلب حقاً”. وتعيد عبارتها تلك إلى الأذهان سؤال الوجود السوري خارج سوريا مع العلم أن معظم من اختار الرحيل، اختاره قسراً ومجبراً وهارباً.

سمر يزبك، التي عاشت لوقت قصير في الشمال السوري المحرّر، تكتب نصّاً رائعاً سبق له أن نشر في صحيفة الحياة اللندنية بعنوان “بوابات أرض العدم”. يكتسب النص هذا أهميته إلى جانب لغة سمر العذبة والوفية للشريحة التي عاشت معها لأيام في سراقب، من الوجع الطالع مباشرة من هناك من دون أن يعبر أي حدود. الوجع السوري الذي بات يسافر من سوريا إلى تركيا أو بيروت أو عمان أو مصر أو أوروبا، لا بدّ أن يفقد بعض طراوته مع كل حاجز يجتازه خارج البلاد. نعم، للوجع طراوة أيضاً، ومعظم السوريين يعيشون ذلك الوجع هناك. تروي سمر مذكراتها عن تلك الرحلة، وتشتقّ قصصها من ذاكرة الثوّار والناس والبيوت التي زارتها والطرقات التي مشت فيها. “كان ذلك بمثابة اكتشاف متأخر للهوية السورية، ولجعرافية بلد من طين ودم ونار، ومفاجآت لا تنتهي”، تقول سمر معلنة ذلك الانفصام الحقيقي الذي عاشه كثير من السوريين، في جهل مؤلم لهويات بعضهم البعض. الآن ربما، لم يعد باستطاعة سمر الدخول إلى المناطق المحررة التي أعادت “داعش” احتلالها من جديد.

يصعب الاقتناع بأن الثورة السورية الدامية، قامت فجأة. ومن يقول عكس ذلك، ربما يتجاهل تراكمات الوحشة والخوف التي عاشها السوريون لعقود. من هنا أيضاً، تكتسب نصوص أخرى أهميتها إذ تؤرخ لحياة السوريين قبل الثورة، تلك الحياة الشاحبة على حدّ تعبير سلافة حجازي والطفولة الكئيبة الممسوحة بانعكاسات النظام الاشتراكي. المخرج السينمائي أسامة محمد، يكتب أيضاً نصّاً بديعاً عن وجع سعاد التي شاركت منذ طفولتها في مظاهرات ومسيرات “عفوية”، والتي هتفت للقائد وصوتها يضيع في زحمة الأصوات الأخرى، ثم استفاقت بعد انطلاق الثورة وموت صديقتها الحميمة في حمص. إنها الذاكرة السورية التي تتحدث. ذاكرة الملايين المهمّشة والمنسية التي حان الوقت لتخليصها من مخبئها. الثورة ليست أحاديث اليوم فقط ولا توثيق الانتهاكات المستمرة التي يرتكبها نظام الأسد، إنها أشياء أخرى أيضاً، من بينها إحياء الماضي المسكوت عنه وإعادة كتابة تاريخ سورية الفعلي. قصة فاديا لاذقاني التي اعتقلت واعتقل أخواها، هي واحدة من تلك القصص التي عاشها مئات الآلاف من السوريين في تاريخهم الحديث، تاريخ السجون والمعتقلات والموت. فاديا لاذقاني التي أفرج عنها لاحقاً وأفرج عن أخيها، قيل لها إن أخاها الآخر مات. ظلت تلاحق قصته لسنوات، حتى استسلمت في النهاية، وصدّقت، أنه مات فعلاً في السجن.

الكتاب الغني بالنصوص والشهادات والصور واللوحات ورسوم الكاريكاتير، يصلح لأن يكون وثيقة عن السوريين، ذلك الشعب الذي عاش دماراً نفسياً وجسدياً وعاطفياً ومادياً، لم يعشه شعب آخر ربما. وثيقة للرأي العام الغربي ولحكومات الصمت التي تتفرّج وتكتفي بالإدانة. وثيقة تعيد للذاكرة زمن الثورة الجميل، وتؤرخ لمرحلة خرج فيها الناس إلى الشوارع ليغنوا للحرية وليرفعوا لافتات سلمية، فقتلهم نظام(هم). في المقابل، يذكّرنا الكتاب/الوثيقة، بمأساتنا. الكتاب الذي أنجز قبل عام تقريباً، لم يعد يصلح ليومنا هذا. قبل عام أو أكثر بقليل، كانت سمر لاتزال قادرة على الدخول إلى سوريا، وحسّان عباس كتب نصّه من قلب دمشق ولم يكن قد غادرها بعد، وياسين الحاج صالح، كان لايزال متخفيّاً هناك. رزان زيتونة وسميرة خليل وناظم حمادي ووائل حمادة، كانوا في مدينة دوما. عبد الباسط الساروت، كان في حمص المحاصرة منشداً للثورة ومقاتلاً ورمزاً. لافتات “كفرنبل المحتلة” كانت ماتزال مؤثرة وينتظرها الكثيرون يومياً. عدسة الصحافي المواطن، كانت عيون السوريين المفتوحة على الأمل. “كرتونة من دير الزور” كانت تقاوم حصار نظام الأسد وشبيحته فقط.

“سوريا تتحدث” كتاب يستحق القراءة، والتمعّن وإعادة التفكير والاعتراف بالخطأ. يستحق ذلك لأن سوريا كانت ما تزال تتحدث قبل عام والسوريون لسانها. إن غادر اللسان فمها، ستصمت.

المدن

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى