صفحات العالم

سوريا والحسابات التركية


غازي دحمان

ثمة تناقض، تكاد لاتخطئه العين، بين التصريحات التركية المتشددة، تجاه تطورات الأحداث في سوريا، وبين السلوك السياسي والدبلوماسي الهادئ لأنقرة، ولعل مقارنة تصريحات رئيس الوزراء رجب أردوغان عن الفرصة الأخيرة لدمشق بالخلاصات التي عاد بها وزير الخارجية أحمد اوغلو، توضح هذا التناقض، ففي حين تبدوا تركيا في التصريحات السياسية وكأنها تتجهز لإعلان الحرب على النظام السوري، تبدو في السلوك السياسي متفهمة لإحتياجات النظام ومتطلباته، حتى لو وصل الأمر إلى حد إنتظار النظام حتى يكمل مهمة القمع في حماة ودير الزور وإدلب.

إضافة لذلك، تميزت ردة الفعل التركية، تجاه دعوات بعض عواصم القرار الغربية للرئيس بشار الأسد، بالتناقض الملحوظ، ففي حين رددت الدبلوماسية التركية بأن أنقرة ستكون جزءاً من الموقف الدولي تجاه دمشق، وهو الأمر الذي فسره المراقبون بإمكانية تحول تركيا إلى رأس حربة لإحداث التغيير في سوريا، بالنظر لموقعها في حلف الناتو من جهة، وتطبيقاً للمقولات الإستراتيجية التي أفرزتها الأزمة السورية من أن الأوضاع في سوريا تقارب الشأن الداخلي التركي ولا تنفصل عنه.

وبالطبع، من غير الممكن تفسير هذا التناقض بوجود تيارات متباينة داخل مؤسسات صنع القرار في تركيا تجاه الوضع السوري، بل المؤكد هو عكس ذلك، ثمة رؤية واضحة وإتفاق وإنسجام بين مختلف مستويات صنع القرار التركي تجاه الحالة السورية، فمن المعروف أن مصادر السياسة الخارجية التركية تجاه سوريا تكاد تكون محدودة ومحددة بنفس الآن، وهي تستند بدرجة كبيرة إلى الأفكار التي طرحها الوزير أوغلو ورؤيته الإستراتيجية فيما خص علاقات تركيا بجوارها.

غير أن التفسير المنطقي للتناقض التركي الظاهري يتمثل بمحاولة توظيف التصريحات السياسية المرتفعة النبرة لتحقيق مكاسب تفاوضية، وهذا يعني أن التفاوض وعمليات المساومة هما الآليات المتوفرة لتركيا حتى اللحظة، بالرغم من أن التصريحات التركية أريد لها أن تفهم وكأن تركيا طرف مقرر في الحالة السورية، من جهة أخرى تسعى تركيا إلى توظيف التصريحات المرتفعة النبرة من أجل ردع النظام السوري وتخفيف حدة إندفاعه، وخاصة وأن النظام السوري كان قد إتبع تجاه تركيا لعبة (حافة الهاوية) عبر استعراض حشوده العسكرية على مقربة من الحدود السورية التركية.

الموقف التركي يستبطن نوعاً من الحذر الناتج أصلاً عن عدم معرفة مآلات الأمور في سوريا، وغموض الموقف الدولي، الذي يكتفي حتى اللحظة عند حدود عقوبات إقتصادية على بعض السياسيين والأمنيين في النظام الحاكم، ويرى في دعوات التنحي الصادرة عن بعض المراكز الغربية نوعاً من سياسات تهويلية لا تملك آليات فاعلة للترجمة على أرض الواقع، في حين يعجز مجلس الأمن عن إتخاذ قرارات واضحة تجاه سورية بسبب الموقفين الروسي والصيني، والواضح أن تركيا هنا لا ترغب في التورط والذهاب بعيداً في سلوكها السياسي تجاه دمشق، وهي تضع في حساباتها إحتمال نجاة النظام وخروجه سالماً من الأزمة.

وثمة رأي يعتقد أن الحسابات التركية براغماتية إلى أبعد درجة، بعكس الموقف الخليجي الذي تقوده السعودية، وهو موقف منحاز للشعب السوري، فتركيا تريد السيطرة على الحالة السورية بشقيها الحاكم والمعارض، وهي تتعامل بتوازن مع الطرفين حتى اللحظة، صحيح أنها توجه إنتقادات قاسية للنظام، لكنها بنفس الوقت لم تقدم للمعارضة أكثر من منابر كان يمكن أن توفرها أي دولة عربية.

ولعل من ضمن أهم الحسابات التركية خيار التعامل مع نظام ضعيف يتكون من توليفة سياسية بعثية إسلامية تكون تركيا مرجعيته، وهو نظام شبيه بالنظام اللبناني في تسعينات القرن الماضي وعلاقته بسوريا، وهذه مسألة حساسة بالنسبة لتركيا التي لها مصالح كبيرة في سوريا، كما تتشتبك معها في العديد من الملفات (النائمة) والتي يهدد فتحها مستقبل العلاقات بين البلدين (مياه الفرات لواء إسكندرونة ). والواقع أن هذا الخيار ليس مستجدا في العلاقة بين الطرفين ولايشكل قطوعاً في سياقها الذي يمتد من إتفاقية أضنة، حيث كانت تركيا تفضل على الدوام نظاماً ضعيفاً، بل أن ضعفه شكل علاقة طردية مع عملية تحسين العلاقات معه.

غيرأن الموقف التركي بحساباته المغرقة في البراغماتية، يعمل على التشويش على الموقف العربي الآخذ في التبلور، والذي يتوقع أن تكون دول الخليج نواته، وبذلك تحاول تركيا خطف الورقة السورية من إطارها العربي لتوظيفها في صالح علاقاتها الإقليمية والدولية وذلك سيكون على حساب الدم السوري المراق.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى