صفحات سورية

سورية الجديدة تحت المظلة الديمقراطية


    خالد قنوت

    يقول المفكر العربي الدكتور عزمي بشارة: (كل علماني عربي هو جاهل عندما يقول أنه يريد أن يتنازل عن إرث الشريعة الإسلامية العظيم, ليس جاهل فقط بل جاهل بتاريخ أمته..)

    من الطبيعي و المنطقي أن يعيد هذا الصراع السياسي السوري إنتاج نفسه من جديد بعد خمس عقود من مصادرة البعث للحياة السياسية السورية و ما أفرز نتيجة ذلك نظاماً استبدادياً تمخض جمهورية وراثية عائلية مارست اللصوصية السياسية و الاقتصادية في حكم مطلق و مفسدة مطلقة.

    العديد من السوريين الذين عاشوا أو مارسوا أو قرأوا تاريخ سورية قبل حكم البعث يعرف تفاصيل الحياة السياسية آنذاك و مدى حالات الرقي التي انعكست اقتصادياً و اجتماعياً و الأهم وطنياً.

    قبل سنة 1963, كانت هناك مظاهر ديمقراطية حقيقية في سورية سأسرد أهم عوالمها:

    الأحزاب: و كان أهمها

    الحزب الوطني تجمع سياسي للتجار وكبار الملاك وفئات أخرى

    حزب الشعب حزب كبار الملاك والبورجوازية الحلبية وعدد من خريجي الجامعات الفرنسية

    الحزب السوري القومي الاجتماعي وزعيمه انطون سعادة

    الحزب الشيوعي المؤسس عام 1924 ومن مفكري هذا الحزب في ثلاثينيات القرن العشرين سليم خياطة و هو المبادر لدعوة المثقفين عام 1934 إلى مؤتمر زحلة لبحث الوحدة العربية ثم ظهور مدى تأثر الحزب الشيوعي بالستالينية مع المسيرة الطويلة لخالد بكداش في الحزب الشيوعي

    الاخوان المسلمون بعد انتقال دعوة الجامعة الاسلامية من مصر إلى سورية،

    مع المرشد العام للاخوان المسلمين مصطفى السباعي وسياسته المتزنة والمعتدلة وكتابه “اشتراكية الاسلام” الصادر 1959. .

    حزب البعث العربي مع قدوم ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار من فرنسا و تأسيس حزب البعث

    الحزب العربي الاشتراكي وهو وليد حركة الشباب الحموية المناهضة للسيطرة الإقطاعية لأعيان حماة وقد لعب زعيم الحزب اكرم الحوراني دورا في توحيد صفوف الفلاحين من سنة وعلويين ومسيحيين مع الطبقة الوسطى الحموية محققا جبهة طبقية وطنية عريضة توّجت نشاطها بتنظيم مهرجان حلب الفلاحي في 15 – 9 – 1951. وبعد هذا التاريخ بقليل اتحد هذا الحزب الفلاحي مع حزب البعث حزب الطلاب والمثقفين.

    رؤساء الحكومات:

    تولى رئاسة الحكومة السورية سعد الله الجابري كأول رئيس وزراء في عهد الاستقلال و شكل وزارته في حزيران عام 1946 و كان خالد العظم آخر رئيس حكومة قبل استلام البعث على السلطة في أيلول سنة 1962 مروراً بفارس الخوري الذي أعاد تشكيل وزاراته ثلاث مرات في ظل تولي شكري القوتلي رئاسة الجمهورية السورية.

    الدستور:

    جاء الدستور السوري عام 1930 متوازناً في الفصل بين السطات و اعتبر سوريا “جمهورية نيابية” دين رئيسها الإسلام و قد حددت رئاسته بخمس سنوات لا يجوز إعادة انتخابه إلا بعد مرور خمس سنوات على انقضاء رئاسته الأولى.

    خرج دستور 1950 بصيغته النهائية مؤلفاً من 166 مادة و أكثر المواضيع التي احتدم النقاش عليها كانت موضوع إعلان الإسلام دين الدولة أو دين رئيس الدولة حيث بقيت صيغة دستور 1930 مع محافظته على طبيعته البرلمانية و وسع الحقوق العامة و المادة 28 تختص بالحقوق و الحريات العامة و منها حصانة المنازل و حرية الرأي و الصحافة و الاجتماع و التظاهر و المحاكمة العادلة و منع الاعتقال التعسفي و التوقيف دون محاكمة لفترة طويلة.

    عام 1952 عطل العمل بالدستور بعد أن أصدر أديب الشيشكلي دستوراً جديداً تميز بإلغاء منصب رئيس الوزراء على غرار الولايات المتحدة و اعتبار الوزراء مسؤولين أمام رئيس الجمهورية الذي سينتخب من الشعب مباشرة, أما فيما يتعلق بالحقوق والحريات العامّة والتعددية السياسيّة والاقتصاديّة ودور الفقه الإسلامي في التشريع فقد حافظ على نصوص دستور 1950 و لكن دستور الشيشكلي طبق فقط ستة أشهر من 10 يوليو 1953 إلى 26 فبراير 1954.

    المرة الثانية التي عطل بها العمل بدستور 1950 هي بين 1958 و 1961 خلال الفترة التي كانت فيها البلاد جزءاً من الجمهورية العربية المتحدة حيث استبدل بدستور مؤقت وضعه جمال عبد الناصر و بعد الانفصال أعيد العمل بالدستور السابق بعد تعديلات بسيطة.

    سنة 1973 شكل حافظ الأسد لجنة لصياغة دستور دائم للبلاد أقره الشعب باستفتاء يوم 12 آذار مارس, فرض على الدولة فكر حزب البعث و اعتبر أن أهداف المجتمع السوري هي الوحدة و الحرية و الاشتراكية. حافظ الدستور كما الدساتير السابقة على اعتبار دين رئيس الجمهورية هو الاسلام و أن الفقه الاسلامي هو المصدر الرئيسي للتشريع. أما صلاحيات رئيس الجمهورية فهي واسعة و شبه مطلقة فهو رئيس السلطة التنفيذية و له سلطة أصدار التشريع منفرداً أو حجب تمرير التشريع أقره البرلمان و رئيس المجلس الأعلى للقضاء و المعين للمحكمة الدستورية العليا و القائد الأعلى للجيش و القوات المسلحة و و و فضلاً عن كونه منتخب لمدة سبعة سنوات مفتوحة الإعادة و التكرار.

    بعد هذا السرد, أركز على نقطة مهمة و هي أن كل الدساتير السورية أوردت العبارتين: (أن دين رئيس الجمهورية هو الاسلام و أن الفقه الاسلامي هو المصدر الرئيسي للتشريع).

    يعود هذا الصراع القديم إلى السطح مع بدء عودة الروح للجسد السياسي السوري المموت على مدار حوالي خمسة عقود و يعود الجدل إلى طبيعة الدولة السورية المرجوة و التي تشترك كل القوى العاملة على الأرض من سياسية و عسكرية على هدف اسقاط النظام و لكنها تختلف على شكل النظام الجديد.

    لننظر إلى حقائق أساسية في طبيعة المكونات الاجتماعية السورية:

    الإثنيات: أغلب مكونات المجتمع السوري من العرب حيث تبلغ نسبتهم 90% من السكان, مقابل 8% أكراد و 2% من الإثنيات الأخرى كالآشوريين و الأرمن و الشركس و التركمان.

    الأديان: حسب الاحصاء الرسمي عام 1985 و كذلك التقديرات الغربية فإن في سورية 77% مسلمون سنة, 10% علويون و مرشديون, 3% دروز, 1% اسماعليون, 0.4% شيعة و إثنا عشرية, 5% مسيحيون, و توجد طائفة يزيدية على جبل سنجار على الحدود العراقية.

    يقول أحد المفكريين السوريين: إن هناك نعمة كبيرة في سورية أن الطائفة السنية هي الأكثر عدداً فيه,ا ليس كما هو موجود في دول الجوار كلبنان و العراق, و أن طبيعة الطائفة السنية المتسامحة و المعتدلة شكل و سيشكل مناعة ذاتية ضد أي إقتتال طائفي على عكس دول الجوار.

    كذلك يصف المفكر ميشيل كيلو الحالة الدينية الظاهرة في الثورة السورية بأن (حجم العنف الذي يتعرض له السوريون من طرف النظام يجعلهم يتمسكون بشكل فطري بالدين الاسلامي فيعودون له كحصن لإنسانيتهم المهددة بالفناء و التي تتعرض للخطر الكبير).

    إن الاسلام في مفهوم الإنسان السوري هو ثقافة عميقة في التاريخ تدخل في تركيبته الفيزيولوجية و النفسية لا يمكن لأحد كان من كان أن يلغيها من ضميره و من مستقبله. معظم السوريون بالعمق متدينون كانوا إسلاماً أم مسيحيون و لكن تدينهم يوصف بالاعتدال و التسامح نظراً للطبيعة الجغرافية و الديموغرافية لسورية, فالسوريون تجار بالفطرة و التجارة لا تتقاطع من العنف و التطرف بدليل أن انفتاحهم على الجهات الأربعة من العالم يجعلهم الأكثر مرونة في التعامل مع الثقافات و المفاهيم خارج حدود الوطن. هنا يمكن أن ندرك مدى التشويه الذي تعرض له السوريون نتيجة العزلة التي فرضها النظام عليهم خلال عقود. يذكر الراحل إلياس مرقص: أن السوري قبل حكم البعث كان يتجه لأوربا ليستمتع بالصيف هناك بينما كان العراقيون و الخليجيون يتجهون لشواطئ الساحل السوري صيفاً.

    صحيح أن النظام قد سيطرعلى المرجعيات الدينية إسلامية و مسيحية و دجنها في خدمة استمراره خاصةً بعد مجازر الثمانينيات و قام بفتح دكاكين دينية أسلامية سنية بإشرافه و تحكمه الكاملين: معاهد الأسد لتحفيظ القرآن, جماعة كفتارو, جماعة البوطي, القبيسيات…

    لكن مع إنطلاق الثورة و فضحها لرجالات النظام المتحكمين بهذه الدكاكين, إنفض أعضاؤها عنها و انخرط معظمهم بالثورة و تؤكد بعض المصادر أن أكثر المجموعات الدينية المسلحة المنتشرة في دمشق و ريفها هم من تلامذة الشيخ سعيد رمضان البوطي و منهم من يوصف بالمتشددين.

    صحيح, أن المعارك و انتشار السلاح قد قوض الحراك الشعبي السلمي بعض الشيء, لكن كل المصادر تؤكد أن 60% من السوريين هم ضد النظام أو على الأقل ضد ما يقوم به النظام من قتل و تنكيل بالمدن السورية و بالسوريين و لكنهم يقبعون داخل بيوتهم بسبب رفضهم للسلاح و لانتشاره الفوضوي. هؤلاء ال 60% هم سوريون من كل الإثنيات و كل الأديان و كل الطوائف و المذاهب, و يعبرون عن ذلك بعدة أشكال منها خلال شبكات التواصل الاجتماعي برفضهم التام للنظام أولاً و للتطرف و الفوضى ثانياً و لكل فرض لشكل متطرف و إقصائي لنظام الحكم الجديد في سورية .

    الثورة السورية لم يكن لأي فكر أو عقيدة دينية أو سياسية الفضل بقيامها فهي قامت شعبياً و تستمر بقوة ذاتية بدأت بالمطالب الأساسية حرية و كرامة من ثم دولة مدنية ديمقراطية تعددية, ليس لأحد أن يفرض رؤيته على الآخرين في شكل الدولة السورية القادمة, علمانية أم دينية إسلامية, حتى المجموعات المسلحة الكبرى أكدت الطبيعة المدنية للدولة السورية القادمة و لو أن بعضها أصر على الفقه الاسلامي هو مصدر الرئيسي للتشريع.

    من هذا المنطلق, فإن من واجب كل سوري كسر حاجز الخوف و شارك بالثورة بأي شكل من الأشكال, أو كل سوري مازال في بيته و كذلك كل سوري يخاف من البدائل, إلى أن يضع هدفاً اساسياً لمستقبل سورية و هو المظلة الوطنية الديمقراطية التي تحتها سيعيش في هذا الوطن و يمارس عمله و حياته و حريته السياسية دون خوف من استبداد جديد أو أي شكل لنظام الحكم ديني, ليبرالي, علماني.. طالما بيده أن يتحكم بصناديق الانتخابات و يصوت لمن يشعر بأنه سيحقق مصالحه و آماله كل أربع سنوات.

    الإصرار على الهدف الديمقراطي كأحد أهم أهداف الثورة سيحمي الجميع من الجميع, سيحميك من استبدادي و سيحميني من استبدادك. تحت المظلة الديمقراطية يمارس الانسان حياته و عمله و عقائده و أفكاره بقوة الدستور و القوانين و ليس بمنح و عطايا من أحد لأنها شاملة للجميع و مفجرة لروح الابداع و المبادرة.

    الثورة السورية فاجئت العالم يوم انطلقت و تفاجئ العالم باستمرارها و انتشارها رغم كل التشوهات و العفن الذي يخرج من بطن المجتمع المستكين زمناً طويلاً و لكن المتوقع أن الثورة السورية ستفاجئ العالم بحضاريتها و إنسانيتها بعد انتصارها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى