صفحات الرأي

سورية صراعٌ زائف/ سلافوي جيجيك

 

 

كلُّ ما هو زائف في فكرة التدخّل الإنساني وممارستها تفجّر وتكثّف بصدد سورية. صحيحٌ أنَّ ثمّة دكتاتوراً رديئاً، (يُزعم أنّه) يستخدم الغازات السامة ضدّ شعبه. ولكن من هم الذين يعارضون نظامه؟ يبدو أنَّ كلَّ ما تبقى من مقاومة ديمقراطية علمانية قد غرق الآن إلى هذا الحدّ أو ذاك في معمعة الجماعات الإسلامية الأصولية التي تدعمها تركيا والمملكة العربية السعودية، مع وجود قوي لتنظيم القاعدة في ظلالها.

بالنسبة إلى بشار الأسد، ثمّة ادّعاء على الأقلّ بأنّ سوريته دولة علمانية، لذلك لا عجب أن يميل الآن المسيحيون وغيرهم من الأقليات إلى الوقوف في صفّه ضدّ المتمردين السنّة. باختصار، نحن إزاء صراع غامض، شبيه على نحو مبهم بالثورة الليبية على العقيد القذافي. ما من رهانات سياسية واضحة، ولا دلائل على وجود ائتلاف ديمقراطي تحرري واسع، بل مجرد شبكة معقدة من التحالفات الدينية والإثنية التي تمارس عليها القوى الكبرى (الولايات المتحدة وأوروبا الغربية من جهة، وروسيا والصين من جهة أخرى) ذلك التأثير المفرط والحاسم. وفي مثل هذه الظروف، فإنَّ أيّ تدخل عسكري مباشر هو جنون سياسي ينطوي على مخاطر غير محسوبة. مثلاً، ماذا لو تولّى الإسلاميون الراديكاليون السلطة بعد سقوط الأسد؟ هل تكرر الولايات المتحدة ذلك الخطأ الذي ارتكبته في أفغانستان حين سلّحت الكوادر التي شكّلت لاحقاً كلّاً من القاعدة وطالبان؟

في مثل هذا الوضع المضطرب المشوَّش، وحدها الانتهازية قصيرة الأجل والمدمرة للذات يمكن أن تبرر التدخّل العسكري. وما إثارة الفظاعة الأخلاقية لتوفير غطاء عقلاني للتدخل القسري (“لا يمكن أن نسمح باستخدام الغازات السامة ضد المدنيين!”) سوى ادّعاء وخداع. وإذ يُواجَه المرء بأخلاقيات عجيبة تبرر الوقوف في صفّ جماعة أصولية إجرامية ضد أخرى مثلها، لا يمكن له إلا أن يتعاطف مع رد فعل رون بول على دعوة جون ماكين إلى تدخل قوي: “مع سياسيين كهؤلاء، من يحتاج إرهابيين؟”.

لا بدّ من مقارنة الوضع في سوريا مع نظيره في مصر. لقد استقرّ قرار الجيش المصري الآن على كسر الجمود وتطهير المجال العام من المتظاهرين الإسلاميين، والنتيجة مئات، وربما آلاف القتلى، الأمر الذي يدفع المرء إلى أن يتراجع إلى الخلف قليلاً ليتأمّل الطرف الثالث الغائب عن الصراع الدائر: أين نشطاء احتجاجات ميدان التحرير قبل عامين؟ ألا يشبه دورهم الآن شبهاً غريباً دور الإخوان المسلمين في ذلك الوقت، دور المراقبين السلبيين المندهشين؟ مع الانقلاب العسكري في مصر، يبدو كما لو أن الدائرة قد أغلقت على نحو من الأنحاء: المحتجّون الذين أطاحوا مبارك، مطالِبين بالديمقراطية، راحوا يجزون الدعم السلبي المنفعل لانقلاب عسكري ألغى الديمقراطية… ما الذي يجري؟

القراءة الأكثر شيوعاً هي تلك التي اقترحها فرانسيس فوكوياما، من بين آخرين، وهي تجري على النحو التالي: بصورة غالبة، كانت الحركة الاحتجاجية التي أطاحت مبارك ثورة الطبقة الوسطى المتعلمة، في حين اقتصر دور العمال الفقراء والفلاحين على دور المتفرّجين (المتعاطفين). ولكن ما إن فُتحت أبواب الديمقراطية، حتى تمكّن الإخوان المسلمون، الذين تشكّل الغالبية الفقيرة قاعدتهم الاجتماعية، من الفوز بالانتخابات الديمقراطية وشكّلوا حكومة يهيمن عليها المسلمون الأصوليون، إلى درجة أنّ النواة الأصلية من المحتجين العلمانيين تحولت ضدهم، لأسباب مفهومة، وباتت مستعدة لأن تؤيّد كل ما يوقفهم، بما في ذلك الانقلاب العسكري.

بيد أنَّ هذه الرؤية المبسّطة تتجاهل سمة أساسية من سمات الحركة الاحتجاجية. انفجار المنظمات متغايرة العناصر (من طلاب ونساء وعمال)، تلك المنظمات التي أخذ المجتمع المدني يعبّر من خلالها عن مصالحه خارج نطاق مؤسسات الدولة والمؤسسات الدينية. وهذه الشبكة الشاسعة من الوحدات الاجتماعية الجديدة هي المكسب الأساس للربيع العربي، أكثر من إطاحة مبارك بكثير. فهذه عملية متواصلة، بغض النظر عن التغيرات السياسية الكبيرة كالانقلاب. ذلك أنها تمضي أعمق من الانقسام الديني/ الليبرالي.

حتى في حالة الحركات الأصولية الواضحة، لا بدّ من الانتباه إلى عدم إغفال قوامها الاجتماعي. على سبيل المثال، عادةً ما تُقَدَّم “طالبان” باعتبارها جماعة إسلامية أصولية تُنْفِذ حكمها بالإرهاب – غير أنّهم حين استولوا على وادي سوات في باكستان، في ربيع عام 2009، ذكرت صحيفة “نيويورك تايمز” أنهم أداروا “ثورة طبقية تستغل الشقوق العميقة بين مجموعة صغيرة من ملّاك الأرض الأثرياء والمستأجرين الذين لا يملكون أرضاً”. ولكن، إذا ما كانت “طالبان” قد “أفادت” من محنة المزارعين و”أَعْلت التنبيه إلى المخاطر التي تواجه باكستان، التي لا تزال إقطاعية إلى حد كبير”، ما الذي منع الديمقراطيين الليبراليين في باكستان، ومنع الولايات المتحدة من أن “يفيدوا” بالمثل من هذه المحنة ويحاولوا مساعدة المزارعين الذين لا يملكون أرضاً؟ يتمثّل المعنى الضمني المحزن لهذا التقصير في أنّ القوى الإقطاعية في باكستان هي” الحليف الطبيعي” للديمقراطية الليبرالية … والسبيل الوحيد أمام المحتجّين الديمقراطيين المدنيين كي يتلافوا تجاوز المتدينين الأصوليين الدينيين لهم هو إذاً باعتماد أجندة للتحرر الاجتماعي والاقتصادي أكثر راديكالية.

يعيدنا هذا إلى سورية: الصراع الدائر هناك هو في نهاية المطاف صراع زائف. والشيء الوحيد الذي ينبغي أن نبقيه في أذهاننا هو أنّ هذا الصراع الزائف يزدهر بسبب الثالث الغائب، أي بسبب غياب معارضة تحررية راديكالية قوية كالتي تبيّناها بصورة واضحة في مصر. وكما كنا نقول منذ نصف قرن تقريباً، لا حاجة بالمرء لأن يكون عالم أرصاد جوية كي يعرف إلى أين تأخذ الرياح التي تهبّ في سورية هذا البلد: إلى أفغانستان والأفغنة. حتى لو ربح الأسد بطريقة أو بأخرى وأعاد الوضع إلى الاستقرار، ربما يولّد فوزه انفجاراً مماثلاً لثورة طالبان التي سوف تجتاح سوريا في بضع سنوات. لا يمكن أن ينقذنا من هذا الاحتمال سوى إضفاء الطابع الراديكالي على الصراع من أجل الحرية والديمقراطية وتحويله إلى صراع من أجل العدالة الاجتماعية والاقتصادية.

إذاً، ما الذي يجري في سورية هذه الأيام؟ لا شيء خاص حقاً، ما عدا أن الصين باتت أقرب خطوةً من أن تصبح القوة العظمى الجديدة في العالم في حين يثابر منافسوها على إضعاف واحدهم الآخر.

عن الغارديان، الجمعة 6 أيلول/سبتمبر 2013

ترجمة ثائر ديب

السفير العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى