صفحات العالم

سورية .. نظام يجب التخلص منه


د . مثنى عبدالله

تتمدد المأساة على طول وعرض أرض الشام الآبية . تتلون المدن والقرى والحارات والازقة بلون الدم القاني . يودع الوطن أبناءه كل يوم شهداء وسجناء ومعذبين ومهاجرين ومهجرين في ملحمة النسغ الصاعد نحو الحرية والكرامة، والنسغ النازل المتشبث بالتزوير والادعاءات الكاذبة . أنها معركة السلطة من أجل السلطة، ومعركة الوطن من أجل الوطن . فمن بين صفوف السلطة من يريد التغيير لكن تقاليد السلطة وثقافتها وبهرجتها تقمعه، فيرتد خائفا من الغد الى أحضان السلطة علها تحميه، ويعاود التوسل بأساليبها مبتعدا عن شعبه، لأنه يفتقر الى شجاعة المراجعة والنقد الذاتي . كذلك المعارضة فبين صفوفها من لايعنيه الوطن وكل عينه على منتجات السلطة والحكم، لذلك ليس لديه الشجاعة الكافية للجلوس في حوار الوطن مع السلطة للوصول الى مشتركات مقبولة من الجميع، فلقد أستساغ المعارضة لأنها أصبحت علامته الفارقة، خاصة عندما يسلط الغرب عليه ألاضواء ويستقبله بالاحضان، فيغدو الوطن لديه مجرد صفقة . لايمكن أن تخلو السلطة ممن ينطبق عليهم وصف المسؤول الخادم لشعبه، كما في المعارضة يوجد من ينطبق عليه وصف المُعارض من أجل تقويم الاعوجاج، وكلا الوصفين هما العلاج الناجع للوضع العربي عامة . لايمكن للمعارضة أن تطلب من سلطة شمولية مطلقة أن تتحول فجأة الى سلطة ديمقراطية، كما لايمكن للمعارضة أن تقبل على نفسها دور التابع للسلطة، وتتخلى عن برنامجها وتمثيلها الشعبي لعيون السلطة .

يقينا أنها معادلة صعبة وسط كل هذه الظروف الدولية والاقليمية الضاغطة على السلطة والمعارضة . فهذه الظروف تضغط على السلطة بالمعارضة كي تجرفها نحو قسوة أكبر في التعامل مع الشعب، كي تقطع كل الجسور بينها وبين المواطن في سبيل أسقاطها . وتضغط على المعارضة بقسوة السلطة كي يبتعد الخطان عن التلاقي من أجل الوطن، لأن اللقاء بينهما سيفشل المخطط الغربي . لكن اللقاء بين الاثنين السلطة والمعارضة – أستحقاق خاص للمرحلة السورية الراهنة، كما أنه أستحقاق عام للمرحلة العربية الراهنة أيضا . نحن اليوم في سورية لسنا بحاجة الى سلطة بالمعنى القهري كي نحافظ على خارطة الوطن، فالحفاظ على الوجود المادي والمعنوي للوطن لايأتي بأنهار الدم وقذائف الدبابات عندما تكون المعضلة داخلية، بل يأتي بمواجهة السلطة لنفسها قبل أن يواجهها الشعب، وعندما تغفل السلطة عن أستحقاقات الوطن وتواجه معارضة شعبية كالتي في سورية، عندئذ عليها أن تتنازل عن غلوها بفعل راق وأحساس شفاف وأقرار بأن التنازل للشعب والوطن هو ليس من معايب الاشياء . كما أن الاستحقاق الآني للوضع السوري لايتطلب معارضة بالمعنى المتربص للوثوب الى الكرسي فقط، لأن أستحقاقات الجغرافية السورية والتاريخ فيها والدور الذي لعبته في حياة الامة العربية على مدى قرون أكبر من ذلك بكثير، وأن الوضع السوري الحالي يمثل أكبر فرصة تاريخية للقوى الدولية والاقليمية المتربصة بالمنطقة والتي تحاول أخراج سورية من البيت العربي كما أخرجت العراق. لذا على المعارضة أن تبتعد تماما عن الحديث بالمنطق الطائفي، وأن تتخلى عن التمترس خلف مايسمى أغلبية سنية غير حاكمة وسلطة علوية أقلية، وأن غلو السلطة في البطش والقسوة لايعطي المعارضة الحق أبدا في أن يكون خطابها بهذه الصيغة، لان البوابة الاستعمارية الغربية الجديدة قائمة الان على أساس التقسيم الطائفي والعرقي، وأن أي طرف يستخدم هذا الاسلوب حصانا للوصول الى السلطة، أنما سيجد نفسه أقرب الى الاجندة الامريكية السائدة من الاجندة الوطنية المطلوبة. كما أن الابتعاد عن تصوير الصراع القائم على أنه صراع عربي- أيراني على الارض السورية، بات ضرورة مطلوبة حتى لاتتداخل الخنادق، وكي لانمنح الاخرين أستحقاقات على أرضنا في حالة تغير الوضع السياسي السوري .

أن من حق كل مواطن عربي سواء في سورية أو غيرها من الاقطار العربية أن يتساءل اليوم، أين كانت السلطة غائبة على مدى أربعين عاما كي تبدأ الاصلاح الآن؟ ومن الذي أعطى الحق للحاكم أن يبدد أعمار وأمال وأحلام أجيال من شعبنا، فقط لانه كان غافل أو سارق أو ملتزم بأجندة التركيع والتخلف؟ من لكل هؤلاء الذين يئنون الآن في قبورهم لأن أمالهم وئدت على يد زعماء القبائل والاقطاعيات السياسية في هذا القطر أو ذاك؟ وما الذي تحقق على أيديهم طوال كل هذه السنين؟ وأين ذهبت مليارات براميل النفط المحسوبة ثروة لكل مواطن عربي؟ وأين أراضينا التي حرقنا دماءنا وأعمارنا صبرا كي نحررها كما كانوا يعدونا؟ ولماذا قضينا العمر نأكل كفافا ونلبس كفافا لأن (كل شيء من أجل المعركة) كان هو شعارنا؟ لكل هذا وذاك لم تعد بعد الآن شرعية لأي رئيس أو أمير أو ملك عربي سواء شرع بالاصلاح أم لم يشرع . لان الإهدار كان بالأجيال وليس بالموارد وحسب . كان بالحقوق وليس بالشكليات . وأذا كان الملوك قد فرحوا بالمصير الذي واجهه رؤساء الجمهوريات, متصورين أنهم أصلح حالا من غيرهم فهم واهمون كثيرا لأن الانسداد التاريخي الذي وصل اليه حال الامة، كان دورهم فيه أكبر كثيرا من الدور الذي لعبته الانظمة الجمهورية وهم يعرفون ذلك جيدا، لذلك تراهم اليوم قد فتحوا خزائنهم كي يرشوا شعوبهم بعد طول تقتير، لانهم يعرفون جيدا تاريخهم وحجم السوء الذي تسببوا فيه للأمة . لكن القناعة بالحاكم لاتتولد بين يوم وليلة خاصة مع حكام تبين أنهم خانوا الامانة وتخلوا عن التزامات الراعي ونهبوا حقوق الرعية وملأوا خزائن الدنيا بالاموال وكانت كل أدوارهم أدلاء خيانة للغزاة؟ أن الامة تواجه الان مصيرها وبدرجة خطورة أكبر من أية مرحلة تاريخية سابقة، لأنها اليوم في صراع مع ذاتها، والصراع مع الذات يتطلب درجة شجاعة من نوع فريد . أنه يتطلب الاصطفاف الواعي بين الجميع كي يكون خط الشروع واحد، لان الاستثناءات والخطوط الحمراء التي يضعها كل من يتصدى لعملية النهوض المجتعي ضد هذا الطرف أو ذاك، أنما ستجعله يعطل نفسه عن الوصول الى الهدف، لانه سوف يحول شرائح أجتماعية الى معارضات لامبرر لها، وقد أخطأت الكثير من الانظمة العربية بسبب هذا الاسلوب وصنعت لنفسها معارضات عرقلت برامجها السياسية، ثم أصبحت معولا بيد القوى الاستعمارية أستخدمتها في الانقضاض على النظام .

أن الوضع المتفجر اليوم في سورية يتطلب من السلطة التوقف عن كل الممارسات اللاشرعية التي تنتهجها مع الشعب . فالقوة العارية تخلط الدماء البريئة الطاهرة من العبث والاغراض الدنيئة بتلك التي تستخدم الشعارات الوطنية سبيلا للوصول الى السلطة حتى لو كان على حساب خراب الوطن . أنه وهم قاتل ذلك الذي يصور للحاكم بأن القوة يمكن أن تقمع المطالب المشروعة . بل هو العكس تماما، لان القوة تؤجج الشعور بالعداء الشعبي مع السلطة بما يجعل حركة المواطن خارج حركة السلطة، وخارج أطار توجهاتها حتى لو صحت تلك التوجهات، وتبقي العلاقة عدائية بين الطرفين.

أن تغيير السلوك الحكومي بات مطلبا ضروريا أمام السلطة السورية، وأذا عجزت عن هذا فأن المصلحة العليا تتطلب منها التعامل بشرف مع القضية الوطنية، التي تولت مسؤوليتها لعقود من الزمن، وأن تخضع للارادة الشعبية أشرف لها ولنا من الخضوع للاملاءات التركية والايرانية والغربية، التي لايمكن بأي حال من الاحوال أن تكون مجردة عن الاغراض الخاصة، خاصة وأن الموقف الدولي يتطور بسرعة نتيجة الضغط الامريكي والغربي، ونتيجة القسوة المتناهية التي يمارسها النظام، مما أحرج القوى الدولية التي كانت حتى الامس القريب معه .

وبالرغم من خطورة الوضع السوري يبقى الزعماء العرب أضعف من أن يقفوا وقفة مشرفة لاخراج حل عربي من داخل الامة، وهم يعلمون جيدا خطورة الحلول الخارجية للمشاكل العربية . فهل سحب السفراء من دمشق سيضع حدا لمأساة أهلنا في درعا وحماه ودير الزور والبوكمال وغيرها، بينما يصر الامريكان على تواجد سفيرهم في دمشق وجولاته في المدن السورية؟ وهل خطاب الملك السعودي التي صورته وسائل الاعلام الخليجية على أنه فتح الفتوح، سيحقن الدماء الشريفة النازفة في الطرقات؟ أنها أصوات وأفعال سمعناها وشاهدناها بعد دعوة وزيرة الخارجية الامريكية للدول العربية لاتخاذ موقف حيال الاحداث، ولم تكن مبادرة عربية خالصة على الرغم من سذاجتها، وهي خطوات رمزية كسيحة فقط تؤشر أننا هنا . وأذا كانت هذه هي صحوتهم وليست أستجابة لطلبات أسيادهم، فليقولوا لنا ماهي خطتهم لانقاذ الوطن السوري من التشرذم على الطريقة العراقية في قوادم الايام؟ ولماذا لم نر العاهل السعودي يضع يده بيد أشقائه زعماء الخليج وينزل في مطار دمشق، كي يصنع الحل العربي في داخل سورية بالضغط على الحاكم؟ الم يذهب الى بيروت ويده بيد الرئيس السوري لحل المشكلة اللبنانية؟

أسئلة كثيرة تحتاج الى أجابات شجاعة من زعماء تقدّم عليهم شعبهم بشجاعته وبطولته وتضحياته ولم يعودوا صالحين لقيادة الامة في مرحلتها التاريخية الآنية، بل باتوا يشكلون عبئا كبيرا على كاهلها يجب التخلص منه .

‘ باحث سياسي عراقي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى