صفحات العالم

سورية وروسيا: ‘أنا وأنت ولا حدّ تالتنا…’

بيار لوي ريمون

يستضيف نفسه من جديد على الواجهة: إنه الموضوع السوري، ولكن هذه المرة، نتناول الموضوع من منطلق القصة المركزية التي ‘بطلها’ الطرف الذي حلّ على الجميع في موقع الضيف الثقيل، إنها روسيا، التي أخذت تبرز رغبتها الجامحة في تحريك الموقف لصالح ‘أناها’ على حسب غيرها. وها هو الموضوع الروسي قد أطلّ برأسه الآن ليصاحب الموضوع السوري تعقيدا وتشابكا، مضيفا إلى أزمة ذات بعد مأسوي فاضح معضلة تولّد وجع دماغ لدى أكثر المحللين ضلوعا في السياسية الدولية.

روسيا، حليفة سورية الاستراتيجية العسكرية السياسية المعروفة، لم تتوقف عند استخدام مصلحتها الخاصة كرأس حربة في حلبة القوى العظمى، بل سارعت لتنصيب نفسها إطفائي بؤرة نزاع داخلي محتمل في منطقة الجولان، التي يتخوف الكلّ من أن يستيقظ لهيبها من جديد بعد أربعين عاما من سباة عميق. ها قد برزت روسيا الجديدة، خليفة روسيا الاتحادية ثم روسيا الكونفدرالية، التي حكمت بأن جاء دورها في فصل تلقين دروس السياسة الدولية للطلاب الذين حلوا هم أيضا ضيوفا على الأزمة، أعني أطراف الصراع المعروفين في الأزمة السورية، وأصحاب النفوذ التقليديين في المنطقة.

ها نحن قد بدأنا نرى حلف سورية ـ النظامية وروسيا- النظامية كذلك وإسرائيل، يلوح في الأفق، بهدف الدفاع عن منطقة فضّ الاشتباك هذه، النائمة منذ زهاء نصف قرن. ولإثبات مزاعمها تستعين روسيا بحلفها القديم – الجديد للإفصاح أمام الملأ تعويلها على مصادقة دولية على خطوتها قلبا وقالبا، آتية من كل حدب وصوب، متوقّعة بلا ريب أنها ستلاقي الشكر من المجتمع الدولي على ‘مبادرتها الطيبة’ بإنقاذ الموقف إنقاذا يليق بالمقام. غير أن الموقف الذي تتوقع روسيا إنقاذه قد صار في حكم العائم خارج طوق النجاة منذ اكثر من عامين، وبمساهمة منها يحسب لها حساب.

يبدو أنّ معدة الدبّ الروسي أتخمت بالعسل على نحو لم يعد يسمح له بالتخمين بالحصافة والحكمة المنتظرتين من قوة عظمى تمتلك، فضلا عن قوتها وعظمتها، عضوية في مجلس أمن الأمم المتّحدة.

وأمام تضاؤل حماس القوات المتعددة الجنسيات الموكول إليها مهام الدفاع عن هضبة الجولان من الآن فصاعدا، وإرهاصات رحيلها عن المكان الذي يساهم في تزايد شدّة القلق، تتصوّر روسيا نفسها قادرة على القيام بدور الإطفائي هذا، ولكن يفوتها أن الإطفائي غالبا ما يستدعى عند الطلب… وهنا لم يطلب أحد من روسيا أن تتدخل على الخط، بل لم يطلب أحد منها أن تخال نفسها قادرة على ما لم تقدر عليه وتعلم أنها لا تقدر عليه.

أتخال روسيا نفسها مثلا قادرة على القفز فوق المعارضة المسلحة التي قطعت على نفسها الدفاع المستميت عن هضبة الجولان بالتعاون مع القوات الأممية؟ أيتصور الضبّاط الروس، في حالة تسلمهم الإشارة الخضراء من دولتهم، أنّ في طريقهم إلى منطقة فضّ الاشتباك الآيلة مع الأسف إلى أن تصبح مسمّىً يحتاج لاسم آخر- ينتظرهم مقاتلو المعارضة بكؤوس الشاي؟ أيخال صنّاع القرار الروس أن الجميع يؤمن بصدق نية المهامّ وأن التحرّك إنما هو للصالح العام ولوجه الله؟ أيمكن أن تخطر على بال هؤلاء أنّ الجميع اعتبر أنّ الحلف السوفييتي السوري العسكري والسياسي والاقتصادي المعهود قد بات في خبر كان؟

ما الذي حدا بآل الثورة البلشفية إلى الاعتقاد بأنّه صار بالإمكان استمالة آل الثورات العربية وحاضنيها الاقليميين والدوليين- المخيّرين او المكرهين- بمنطق سذاجة الأطفال؟

أيخال من تشبّع بالايديولوجيا الشمولية التسلطية حتى النخاع على مرّ تاريخه أن المجتمع الدولي سيصطف له على جانبي الطريق المؤدي إلى منطقة فكّ الاشتباك، في موكب تحتشد فيه الجماهير محرّكة الأعلام البيضاء؟ معاذ الله أن تخطر على أذهان الساسة الروس مثل هذه الأفكار… وهي فعلا لم ولن تخطر لهم. فما الذي جرى إذن حتى اقترحت روسيا نفسها إطفائي منطقة أصبحت قاب قوسين أو أدنى من الحريق؟ الذي جرى هو ما يجري منذ نصف قرن، الذي جرى هو تفعيل مجدّد للحلف الموضوعي الروسي السوري، وهذه المرة مع عنصر إضافي هو شراء موافقة إسرائيلية على المشروع ، بعبارة أخرى، انتزاع سكوت الأخيرة طالما ُيوفّق إلى تحقيق تناغم بين الأطراف… ولكنه تناغم لن يعدو هذه المرة كونه ظاهريا، فباطنه مفضوح من زمان، تحكمه اللازمة التي تتغنّى بها منذ منتصف القرن العشرين سورية النظامية وروسيا النظامية معا: ‘أنا وانت ولاحدّ تالتنا، أنا وانت أنا وانت وبس…’.

كاتب فرنسي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى