صفحات العالم

لماذا مات الدور التركي الوسيط؟

 

محمد نور الدين

من العناوين الأساسية للسياسة التركية في المنطقة كان ما سمي ب “الدور الوسيط” سواء بين الدول المتصارعة أو بين أطراف داخل دولة معينة  . وبلغ الدور التركي الوسيط ذروته في ملفين: الصراع بين سوريا و”إسرائيل”، والملف النووي بين إيران والغرب  . وقد منح الدور الوسيط تركيا هالة من التقدير والإعجاب ومضاعفة تأثيرها في المنطقة  .

لكن التطورات التي توالت منذ العدوان “الإسرائيلي” على أسطول الحرية  وسفينة مرمرة التركية، ومن ثم بدء الثورات العربية، أربك تركيا وجعلها لا تنظر بمعيار واحد إلى الأحداث، وتناسلت الانعكاسات إلى أن وصلنا اليوم إلى مرحلة نعي الدور التركي الوسيط في كل الملفات  . فلم نعد نرى المسؤولين الأتراك يتنقلون من عاصمة إلى أخرى من أجل حل المشكلات، بل باتوا هم يحتاجون إلى مَن يتوسط لحل مشكلاتهم مع الآخرين  .

وبمعزل عن الأسباب فإن هذا الدور الوسيط لم يعد قائماً ولا في أيّ ملف، لأن علاقات أنقرة مع معظم الجيران انقلبت من “صفر مشكلات” إلى “صفر علاقات”، وغابت تلك الثقة الأكثر من ضرورية بوظيفة الدور الوسيط  .

غياب الثقة كان بسبب الشكوك في أهداف السلوك التركي تجاه الآخرين، وهي ثقة طالت كل جيران تركيا من العرب والمسلمين وحتى روسيا و”إسرائيل” وقبرص اليونانية  .

ولا يمكن بأي حال تفسير انقلاب السياسات التركية على نفسها بأن كل هؤلاء الجيران مخطئون فيما تركيا وحدها على حق  .

ولعل من أهم أسباب انهيار العلاقات الجيدة بين تركيا وجيرانها المباشرين على الأقل، محاولة أنقرة استغلال التحولات في المنطقة العربية من ثورات واحتجاجات من أجل ترجمة مشروع هيمنة خاص بها لا يأخذ في الاعتبار وجود مكونات أخرى في المنطقة  . فوزير الخارجية التركية أحمد داوود أوغلو قال أمام البرلمان التركي في إبريل/نيسان 2012 ان تركيا سوف تقود الشرق الأوسط الجديد الذي يولد وستكون طليعته وهي التي سترسم ملامحه مهما علت انتقادات الآخرين لهذه السياسة  . وهو خطاب وصفه المعلقون الأتراك قبل غير الأتراك بأنه عثماني النزعة  . ومثل هذا الخطاب لا بد أن يستثير العرب وإيران والروس والأكراد  .

إن التفرد في زعامة المنطقة هدف تركي لا يمكن لأحد القبول به  . وما كان لتركيا أو أية قوة إقليمية تستشعر في نفسها القوة والقدرة أن تحاول ترجمة هيمنتها لولا غياب الدور العربي  .

ولعل أحداث غزة الأخيرة التي انتهت إلى انتصار المقاومة عسكرياً وسياسياً وتقديم الدور المصري على ما عداه، مثال على أنه عندما ينهض العرب ويستيقظون من سباتهم لا يعود من مكان ولا دور لأحد  .

وحدها مصر تستطيع قلب المعادلة في المنطقة  . هكذا فعلت مع محمد علي باشا في القرن التاسع عشر، ومع جمال عبد الناصر في القرن العشرين  . ومن المهم هنا، على ما أعتقد، الاشارة إلى أن مصر عندما تقوم بدورها سواء كانت نزعته عروبية أو إسلامية أو إفريقية، فإنها لا يمكن أن تهمل العناصر الأخرى في هذا الدور  . أي أن الدور المصري لا بد أن يكون جامعاً لكل هذه المكونات  . لذا فالمهم أن تبادر مصر إلى القيام بدورها بمعزل عن طبيعة السلطة الحاكمة  . وقد بدا ذلك ولو في بداية خجولة في دور مصر في اتفاق غزة الأخير، ليس لمضمون الاتفاق بل لأن مصر عملت لتكون طرفاً يشعر بأنه شريك في الحدث وليس، كما كان في عهد حسني مبارك، مجرد متفرج بل أحياناً متآمر  .

الدور المصري في غزة، على تواضعه، كان دليلاً على أنه إذا تحركت مصر انكفأت القوى الأخرى  . وأبرز المنكفئين في هذه الفترة كان الدور التركي الذي حاول أن يزج بنفسه في الصورة  كسباً لبعض الفتات، لكنه كان عاجزاً عن أن يتقدم الدور المصري  . بل إن ما يؤسف له أن نائب رئيس الوزراء التركي بولنت أرينتش وصل به الأمر في خضم أحداث غزة والبحث عن وقف المجازر، إلى أن يدعو إلى أن تستأنف تركيا اتصالاتها مع “إسرائيل” كي يمكنها ممارسة تأثير على “الإسرائيليين” لوقف العدوان، في حين أن المقاومة الفلسطينية لم تكن بحاجة إلى أحد، وكانت قدراتها الصاروخية التي فاجأت “إسرائيل” هي الأساس لفرض شروطها على “إسرائيل”  .

إن افتقاد تركيا دورها الوسيط لا يمكن إحياؤه إلا بالتراجع عن السياسات التي تريد الهيمنة على المنطقة، والتي لا تنظر إلى حدود تركيا إلا على أنها حدود لحلف شمال الأطلسي، وهو ما لا يمكن لأحد أن يقبله خصوصاً في ظل الحماية الكاملة للحلف للوجود الاستعماري للكيان “الإسرائيلي” في المنطقة  .

الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى