صفحات سوريةطيب تيزيني

«سوق السُنَّة» وسوريا المُستباحة

طيب تيزيني

من الظواهر التي برزت في سوريا وتشغل الآن حضوراً كثيفاً ومتعاظماً تلك الظاهرة الطريفة الإجرامية، التي أصبحت تعرف بـ «سوق السنَّة». أما هذه الأخيرة فقد راحت في الفترات الأخيرة تُمثّل حالة “اقتصادية” قد تتحول إلى “سوق” تنافس أسواق سوريا المقترنة تاريخياً بنشأة المدن والبلدات، مثل ما يسمى «سوق الحراميّة» في دمشق وقريباً من «ساحة المرجة»، مع فارق أن هذه السوق تعرض للبيع ملبوسات مستعملة رثّة، في حين أن السوق الأخرى (سوق السُنة) تعرض للبيع ما يسرقه وينهبه “الشَّبيحة” من منازل المواطنين.

ويقوم المشهد الذي يجسده أولئك الشبيحة على عدة خطوات، وذلك في أثناء اقتحام منازل ومواقع المواطنين أما هذه الخطوات فهي التالية: اقتحام المكان المعْني، وقتل الرجال إنّ وُجدوا، واغتصاب النساء بعد تخدير أطفالهن الموجودين بصحبتهن، ونهب وسلب كل ما خفّ وغلا. وتأتي الخطوة الأخيرة، التي تتمثل في إحراق المنزل بمنْ فيه.

ذلك المسار الدرامي، الذي يجسّد رؤية إلى الحضارة وموقفاً منها، يُنقل إلى مسرح آخر يمكث في عالم الأسواق، حيث نشاهد المسروقات التي سطا عليها أولئك “الشبيحة” ونقلوها إلى مدينة أو منطقة أخرى تصلح لأن تكون مكاناً لعرضها وبيعها. أما ذلك المسرح الآخر، فهو هذا الذي يلتقي فيه أصحاب تلك المسروقات، على سبيل المصادفة أو نتيجة بحثهم عنها. في هذه الحال، يصمم أولئك المسْروقون على استرجاع ما سُلب منهم، ولكنْ عبْر العلم بضرورة ألاّ يُعرِّف “الزبون” بنفسه بأنه المالك الأصلي لتلك المسروقات، وكذلك بضرورة عدم ذكر كمية المبالغ التي دفعها ثمناً لممتلكاته المنهوبة.

في ذلك الوضع، يلاحظ المرء مواقف طريفة إجرامية. ومثل ذلك أن المالك الأصلي يدفع ثمناً لشيء من المسروقات التي “كانت له” من قبل، قد لا يصل إلى خمس بالمائة من ثمنه الحقيقي، ويكتشف هذا المالك القديم أن “المالك الجديد” لا يمتلك معرفة في هذا المجال. فينزل ثمن حاجة يصل سعرها الأصلي إلى نصف أو ربع مليون ليرة مثلاً، إلى عشرة آلاف من الليرات، مما تشي بصحة الفكرة الشهيرة، وهي أن حاجة سلعية ما تفقد جلّ سعرها الأصلي، إذا عرضها للبيع بائع ينتمي إلى حقل اقتصادي حضاري لا ينتمي إلى حاضنها الاقتصادي الحضاري المنتج لها، إضافة إلى أن سارق الحاجة من ذلك النمط، يفرّط بها بسهولة لأنه لم يعش تجربة إنتاجها وتطويرها إلخ.

إن أحداث سوريا منذ قريب العامين تفضي الآن إلى ما يقترب من تفكيك بنياتها الاقتصادية والمجتمعية، إضافة إلى تهشيم منظومة القيم المتحدرة خصوصاً منذ المرحلة الأولى لما بعد استقلال سوريا عن الاستعمار الفرنسي عام 1946.

وإذا أعلن بعض الباحثين الاقتصاديين مؤخراً أن إعادة إعمار سوريا تكلف مبلغاً يصل إلى 350 ملياراً من الدولارات الأميركية، فإنهم لم يضعوا أيديهم على التكلفة الهائلة المطلوبة لذلك الإعمار فحسب، وإنما هم نبهونا إلى فكرة في غاية الحكمة والمأساوية، تلك هي: إن من يعمل على تدمير البنيات الأساسية في سوريا، لا يحق له أن يرى سوريا وطناً حبيباً له.

الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى