صفحات الثقافة

شاعرات مغربيات.. تاء التأنيث المتحركة/ سعيد الباز

 

 

تبدو القصيدة المغربية راهنا شديدة التنوّع واختبارا لمسارات مختلفة وغير مألوفة. قصيدة تهجس بالذات وعوالمها الأثيرة، غير عابئة بمطبّات الأسئلة الكبرى التي انخرطت فيها قصائد الأجيال السابقة. وعلى غير ما اعتاد عليه النص الشعري النسائي المغربي من الوقوع في أسر لغة الجسد ومضاعفاته في القصيدة، هو الآخر انصرف إلى الانشغال بالذات وهمومها سواء كانت وجودية قلقة أو حتّى يومية مبتذلة، فنادية العناية على سبيل المثال شاعرة تحتفي بألم الكائن، تلجأ إلى  الصور الحادّة و العميقة لتصفعنا بها  بكلّ شدّة وقوّة كأن تجعل الحياة تتلعثم والألم ينطق بطلاقة أو أن نفتقد مثلا صباحا نريده أن يرشقنا بموت طائش. أمّا الشاعرة صفاء السعد  فهي تمثل بشكل واضح جيلا شعريا جديدا في رؤاه وتصوراته واختياراته الفنية. هناك في قصائدها وعي شعري حادّ وراقٍ، ينفذ إلى حقائق الحياة من زاوية القلق و الألم الوجوديين، كأن لا ننتبه في كلّ تصرفاتنا حتّى الصغيرة منها إلى أنّنا داخل زنزانة، وحتّى الحبّ هو الآخر يشبه إحساس سجين وجد صرصارا للتسلية. في كتابها الشعري الأوّل(ربع قرن من النظر) اختارت سكينة حبيب الله أن تجعل منه تدوينا لمسار حياة هو عمر الشاعرة، تقدّم لنا فيه شعرا حيّا تتناغم فيه صور مألوفة تنسجها يد الشاعرة بمهارة، ليأتي صوتها رغم خفوته مشبعا بألم الكائن، بحرقة أسئلة الجسد والوجود كأن تقول مثلا: بيتُ العالم من زُجاجٍ/ و يدي بلا حجارة”، في حين تنطلق سناء عادل من تفاصيل صغيرة يومية ومألوفة ومتشظية أحيانا لتشيّد بناء متكاملا يحمل كلّ مشاعر الألم الوجودي، فمن خلال حذاء ومقاساته المتعدّدة نكتشف أنّ سعر الحذاء يعطينا فكرة عن مستقبله، وأنّنا كلّما طال عمرنا اتّسع الحذاء ممّا يقتضي أن نبكي عليه وعلى غباء أقدامنا. من بعيد تلوح إلهام ملهبي شاعرة مشّاءة طريق وأفكار تقرّ بفشلها وحمقها لأنّها تنتظر المطر في بلاد الرمال. وعلى غرارها تتأمّل الشاعرة، فدوى الزياني، الموت في تجلّياته اليومية وتطلب صداقة هذا المقامر الجيّد الذي ينتهي بنا المطاف كلعبة أوراق بين يديه شبيهة بصفّ قطع دومينو لا تنتظر سوى حركة بسيطة للتأرجح تباعا. وإذا كانت الشاعرة، منى وفيق، تلجأ إلى السخرية أحيانا والمفارقة أحيانا أخرى  كأن تعتبر عبور الأشياء و البشر كما تمرّ الأصابع فوق زجاج النافذة، الغبار كفيل بالمحو. فإنّ الشاعرة، إيمان الخطابي، تتأمّل ثنائية الكتابة والموت وتمنّي نفسها بالتسلّي بوصف الحياة والإصرار على قول كلمتها الأخيرة، مؤكّدة أنّه رغم الاختفاء القسري ما زال الموتى يواصلون الاستماع لما يتردّد حولهم.

 

 

ثمة ألم يحدّق في مرايايَّ!: نادية العناية

 

ـ 1 ـ

لستُ فطيرة تفاح شهية

ومع ذلك،

بشراهة يقضمني الحزن.

 

ـ 2 ـ

قلبي

مهترئ كباب قديم

وهذا الصرير الذي تسمعه

ليس حبّا

وليس حياة أيضا.

 

ـ 3 ـ

المصعد الذي دخلتُه

وعلقتُ بداخله

لم يكن سوى حياتي البئيسة هذه

حياتي التي تلعثمت

في أشياء كثيرة

وحده الألم

ما كانت تنطقه بطلاقة.

 

ـ 4 ـ

ترى كم من الغابات

كانت لتكون بداخلي الآن

لو لم يكن ذلك الألم حطّابا

يهوي بفأسه على جذوعي؟!

 

ـ 5 ـ

أظل طوال النهار

مستلقية فوق سرير بلادتي

لا رزمة حب لي

أمسح بها زجاج حياتي المضبب،

حتى الصباح

لم يكن متهورا بما يكفي

ليرشقني، مثلا،

بموت طائش.

 

 

كتعبير عن الـنَّدم: صفاء السعد

 

-1-

 

بيد متردِّدة

نسحبُ قدرنا

من بين قصاصات كثيرةٍ مطويةٍ بعناية

مبتسمين ببلاهةٍ

ولا أحدَ

 

يصفّق…

 

 

-2-

 

من يدٍ الى أخرى

تتقاذف الحياة

كمهرِّج

لا يبدو عليه

أنَّه فعلا

في ورطة.

 

-3-

 

الأصابع، لا بدَّ أنّ الله وضعها كتعبير عن النَّدم.

 

-4-

أصابعنا

نمت

كأغصانٍ

لفرط ما مددنا أذرعنا

لنلامس أطراف الحياة

التي ظلَّت متمنِّعة

ولعوبا

كلما دنت

أو ابتعدت

نحكم قبضَتنا

على

ريحِها.

 

5-

 

كإله غير مجدٍ

جسدي

تصنعُه الأرض

ثمَّ تأكله…

 

فنجان وحيد على الشُّرفة

 

-1-

 

حين تكون منشغلا

بقياس برُودة القضبان

وإحصاء عدد النَّمل في السِّرب

أو تأمُّل التماع الفراغ في حزمة ضوء

أو حتَّى عدِّ الخالات التي على جسدك

لا تكون منتبها

أبدا

أنك داخِل زنزانة.

 

-2-

 

الحُبّ

 

هو المنفذ الوحيد من ورطة العالم

إنه يمنح نفسَ إحساس

السَّجين

الذي وَجد أخيرا

صرصارا

للتَّسلية.

 

 

ربع قرنٍ من النَّظر: سكينة حبيب الله

 

-1-

السّجن كان جسدي وبالأيام عُذِّبتْ،

أما السبب في كوني ما زلت أعيش

فهو لأني عوملت على أني بلا قلب،

لقد صدَّقت بأنِّي ميتة..

ولذلك لم أحاول، ولا مرّة، أن أنتحر.

-2-

جرَّبتُ أن أسقِط اسمي مراتٍ عديدة،

لكن كثيرين ظلوا يركضون خلفي

كي يعيدُوه إليّ.

أما من التقطَه أوّل مرة،

فقد كان الحَظّ،

باصبعين حملهُ كفأرٍ ميت

ورماهُ في وجهي،

وأنا من باب اللباقة

كان عليّ أن أشكرَه.

 

نظرية التطور

بدأ الإنسانُ

مُنحني الأكتاف

كوردة

وانتهى

مُستقيمَ الظَّهرِ

كسِكِّين.

 

لم يحصل أن رأينا الحُبّ وجهاً لوجه

 

لم يلوِّح لنا من بعيد

ولم يمدّ لنا يده المليئة بالورد

تاركاً الوقت كله لنا

كي نزيلَ أشواكه

العالقة بأيدينا.

لكن لسببٍ ما

تسنَّى لنا سماع صوته،

مثل صراخ شخصٍ عالق بين الأنقاض:

حاداً في البداية..

ثمّ خافتاً في ما بعد إلى أن صمت تماماً.

وحين رفعنا الكلمات المحطّمة

والصمت الثقيل

من فوقه،

وجدناه

مُغطَّى بالغبار

ميتاً ومجمداً

في وضعيةِ

من كان يهمّ بالهرَب.

 

 

أحذية: سناء عادل

 

منذ ثلاثين سنة

وأنا أبحث عن حذاء

مناسب للرّكض لمسافة طويلة

ناسية أنّني

دخلت العالمَ

حافيـة

*

للأحذية مقاسات

الطّرقاتُ الموطوءة

إحداها

*

المسمار الّذي علق بقدمي

–حين لم أكن أملك ثمن حذاء–

لم أستطع اقتلاعه

فطويته.

إنّها أشبه بمزحة

المزحة التي تُبكيني

كلّما جرّبتُ طريقاً آخر

غير الماضي

*

سعرُ الحذاء

يعطينا فكرةً دقيقة

عن مستقبله

 

*

من بين جموع الأحذية الواطئة

لم يتوقّف حذاءٌ مرّة

ليسأل الجسرَ

لِمَ تقوّس ظهرُه

 

*

منذ ثلاثين سنة

وأنا أجلس على حافّة العالم

أبكي اتّساع أحذيتي

وغباء قدميّ.

 

 

 

كمن ينتظر المطر في بلاد الرمال: إلهام ملهبي

 

1

 

سأرتّب ضجّة المكان

سأمحو الغبار عن الشعر بأطراف أصابعي

سأجرّب سرد قصة غامضة وملتبسة

سأمشي هذا الطريق كاملا

ربّما كان ذلك الخيال الذي يظهر لي من بعيد

صديقا قديما ينتظر أن نشرب معا فنجان قهوة مؤجلاً بيننا

سأصل هناك فقط لأخبره أنّي لا أحبّ القهوة باردة

وأنّي مشّاءة فاشلة

لم تتعلّم كيف تروّض الطريق والأفكار .

 

2

 

أنا وأنت مسافران

ولا نتذكّر من أيّ شجرة أتينا.

أنا وأنت نضحك عاليا

نعرف أنّ لنا لونا لا يشبهنا

نعرف أنّنا سنظلّ نتدحرج في رحلة الكدمات.

أنا وأنت أحمقان

ننتظر المطر في بلد الرمال.

 

آنية الروح

1

أعرف الملائكة جيّدا، وأحفظ خدعها ومكائدها. لغتها محفورة على ألواح أحشو بها حقائب سفري المؤجّل. هي دائما تشبه شخصا ما، ودائما حزينة، حزنها بلا لون، خافت وخجول. ما الذي يقودها إليّ؟ وما الذي يجعلها تحشو أرجائي بنور غامض؟ أصادفها كثيرا، في الممرات الضيقة لأحلامي، أو بين ثيابي، أو خلف فرحتي. يوما فتحت أحد الأدراج، ووجدت ملاكا قابعا هناك. كان منكمشا على نفسه مثيرا للتعاطف بشعره الأبيض الطويل والنكهة الحزينة على خده. قدّم لي خاتما صغيرا وقال: ارحلي…

2

كنت فرعا في شجرة كستناء  وكانت الثمار السمراء تتدلّى منّي كأجنّة حزينة. لم يكن للريح نشيد مؤلم، ولم تكن الشمس تحصي أنفاسي كل صباح. كانت رائحة التراب رفيقتي المخلصة واللّحاء أغنيتي الدافئة، وكان طائر رمادي يزورني كلّ مساء، لا يغرّد، يحطّ على عروشي ويبقى صامتا، فأحسّ نبضه العنيف كأنّ له أكثر من قلب. مرّة واحدة نطق وقال: احذري…

 

 

أيها الموت: فدوى الزياني

 

 

أيها الموت … كُن صديقي

إنّه محيط بنا

بعدَ الغُروب

يقرع الباب كأب منهك

ينتظر صباحاً مع الرفاق في الساحة

في المدارس

يجلس منزوياً على الكرسي الخلفي

يتصيد آثار الصبية بين السطور

بين الرسوم بين الجداول بين الحقول

في العصاري على البحر يمارس هوايته

يسنّ رؤوس الصخور

متجهم في المساء بين أغصان شجرة الأروكاريا

يحدق جامد النظرات في الضباب

في النّوافذ

 

حاضر على الجهاز الكبير في صالتنا

مرسوم على جرائد جارنا المثقّف

كالأحذية كصناديق المجلات

نائم تحت أسرتنا

الموت… الموت

الموت يا صديقي مقامر جيد

يرتبنا على طاولته في صف طويل

بلطف يحرّك رأس سبّابته

يدفع أولنا

فنسقط كأوراق اللعب تباعا.

 

 

نهرت يدي التي تكتب: إيمان الخطابي

 

مرات كثيرة

نهرت يدي التي تكتب

مع أني لا أجد شيئا آخر لأفعله

أنا مفلسة تماما

وليس بوسعي سوى أن أحشو

قلبي بالكلمات،

الكلمات المتاحة للجميع

الكلمات الملقاة على الطريق كالحصى

الحصى الذي بإمكانه أن يشج رأس حمامة

الحصى الذي بإمكانه أن يغرق النهر

طمعت أن أصنع منه تاجا صغيرا لرأس.

 

مرات كثيرة

نهرت يدي التي تكتب

ووعدت قلبي ألا أمشط ريش الحزن ثانية

وألا أتودد للحب بالرسائل

لكني في كل مرة

أعيد الكرة

وأنا موقنة أن الحياة

لا تملك الوقت لقراءة الرسائل.

 

مرات كثيرة

نهرت يدي التي تكتب

مع أني لا أتقن شيئا آخر لأفعله

أنا مفلسة تماما

والكتابة هي الفعل الوحيد الذي لم أؤدّ عنه

حتى الآن

على الأقل أكتب لألوم الذين أحبهم

وأملأ فمي المر بالحلوى

وصندوق بريدي بالحدائق والأغاني.

 

مرات كثيرة

نهرت يدي التي تكتب

لكني لا أجد ما أصرف به الوقت

ريثما تنتهي فسحتي هنا

دعوني إذن أتسلى بوصف الحياة

كأني خبرتها فعلا

وأقول كلمتي الركيكة كأن أحدا سيسمعها

بعد قليل سأغمض قلبي

ولن يتطوع أحد ليكتب على شاهدي

الأمنيات التي قلتها

يضعون فوق رؤوسنا وسائد متشابهة

من الرخام البارد

يحشرون كلماتنا في جوفنا

وينفضون يدهم منا

معتقدين أن الموتى لا يسمعون.

 

 

قصائد قصيرة مكتوبة بالليزر: منى وفيق

 

1

لِحبل المشنقة أقول:

”أنا أيضا كان لديّ في ما مضى قلبٌ جميل“

2

روحي مبلّلة وتتقاطر

بعد يوم طويل من الحياة

ليسَتْ مدينةً لأحد بأيّ شيء

لهذا،

روحي، تنظر للعالم في عينيه

في عينيه تماما.

3

أنا مجرّد أخرى

مثلهنّ، مثلهم

تقضي الحياةُ في سريرها

ليلة عابرة.

4

كثيرةٌ الأيادي التي تحوم حول قفاي

كيف أجعلهم يفهمون

أنّ الأطفال لا ينصاعون إلاّ بالحلوى.

5

قبل أن أقبّلك

كنتُ أمرّر لساني بدقّة وكثافة

وما كان اللّعاب يُلصق شفتيّ على شفتيك

لم أكن يوما من هواة جمع الطّوابع البريديّة

وإنّما من هواة إلصاقها.

6

لا شيء يقال

كلّ من صرخَ للمرّة الثّانية بإرادته

ألبسوهُ تهمةَ الصّدى.

7

دعهم يمرّون

كما تمرّ الأصابع على زجاجِ  النّوافذ

الغبارُ كفيلٌ بكلّ شيء.

 

ضفة ثالثة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى