صفحات الثقافة

في مديح “الكاسيت”

روجيه عوطة

 داخل تلك العلبة البلاسيتكية الصغيرة، سكنت قصص الهجرة. حكايات طويلة وسلامات وخبريات العائلة، كلها حُفظت لسنوات داخل شريط “الكاسيت” الذي ردم جزءاً من المسافة الفاصلة بين البلدان البعيدة.

من دون أن تبتلّ فعلياً، حضنت الأشرطة التسجيلية الدموع، حفظت الأصوات المشتاقة، قبل أن ينتقل الناس إلى عصر جديد من التعبير المباشر، عبر الهاتف الخلوي والمحادثة النصية والصوتية، “سكايب” وبرامج وتطبيقات “تاك” و”فايبر” و”تانغو”.

كان الكاسيت في المسجّل سهل الإستخدام، تماماً كسهولة تعطله، لدرجة بات معها “علك” الشريط في المشغّل أحد “أدبيات” إستخدام “الكاسيت”. هذا ما جعل القلم واحداً من العدة المرافقة، لإصلاح ما عطله الإستخدام المتكرر، والقيام بتسجيل فوق آخر، وهكذا… كما لو أن المرء يصلح صوته، أو يقوم بعملية مونتاج يدوي لما سبق أن حفظه “الكاسيت”.

 انتشرت قبل فترة على مواقع التواصل الاجتماعي، صورة تخبر بأن الجيل الجديد لا يعرف شيئاً عن العلاقة بين القلم الرصاص والشريط المدمج. ففي الماضي، كان القلم يُستعمل لإعادة الشريط إلى مكانه، بتثبيت رأسه في أحد “دولابي” الشريط وبرمه لإعادة ما تسرّب أو “تجعلك” من خارج السكّة والسياق.

 لا ينتهي التفاعل بين المستمع والشريط المدمج عند حد الإصلاح والتشغيل من جديد، بل يظل قائماً خلال مراحل الاستعمال كافة، لا سيما في مرحلة التسجيل والمحو التي تشبه إلى حد بعيد آلية التذكر والنسيان البشرية. يتيح الشريط تخزين الصوت وإزالته، على عكس القرص المدمج، الذي ما إن تسجل المعلومات عليه حتى تعلق بداخله، وتتأبد، إلى حين إصابته بعطل ٍ ما، فيتوقف عن العمل، ورغم ذلك، لا يزول محتواه. فلا وظيفة للقرص سوى التذكر الدائم، على عكس “الكاسيت” الذي يتذكر وينسى، بحسب اختيار المستمع. وهذا ما يعني أنه أكثر ارتباطاً بذاكرته، إذ تستعيد هذه الحادثة، وتمحو أخرى، كي تستمر بالتسجيل وتخزن العدد الأكبر من الإشارات الصوتية والبصرية. فعندما تحدث فرويد عن اختراع الفونوغراف، قال إنه يسمح للمستمع بالعودة إلى صوت الغائب، الذي هو، في النهاية، تعويض عن فقدان البيت الأول.

وفي هذه الحالة، يشترط الفونوغراف مكوثاً دائماً في البيت المفقود، أو العودة المستمرة إلى الماضي، لأن مخزونه لا يُمحى، بخلاف “الكاسيت” الذي يتميز بحرية التعامل مع الصوت، وبالتالي، مع الغائب، إذ يستطيع المستمع استرجاعه أو محوه في اللحظة التي يختارها.

 لطالما كان “الكاسيت” إذاً، جزءاً من التواصل بين الناس الذين تبعدهم المسافة بعضهم عن بعض. وأشرطة التسجيل التي كان المسافرون يرسلونها إلى ذويهم خير مثال على ذلك، إذ كانت تصل من المهاجر مملوءة بالقصص والأسرار والأسئلة، وتعود إليه بتسجيل شبيه. وكان المخرج أحمد غصين حوّل “الكاسيتات”، التي كانت أمه ترسلها إلى والده في السعودية، إلى موضوع سينمائي في فيلمه  “أبي ما زال شيوعياً: أسرار حميمة للجميع”.

ففي أشرطة “الكاسيت” يكتشف المرء صوته أو أصوات الآخرين، يحاورها، يمكث فيها، قبل أن ينسحب منها، ماحياً إياها بكبس زرين متلاصقين من أزرار المسجلة. وبهذا الفعل، يهبط بالذاكرة إلى درجة النسيان، حيث يبدأ من جديد بتخزين الأصوات، وجمع الذكريات، والبحث عن الغائب. فيفضي التفاعل مع “الكاسيت” إلى المكان المفقود. فأن يسجل المرء صوت الآخر يعني أنه يتوقع خسارته، وحين يستمع إلى التسجيل الصوتي، يستحضره أمامه، متغلباً على الفقدان ومتحدياً الغياب. بالتالي، يصبح الشريط هو الرابط بين الذات والغائب، الذي يمثل الصورة الأمومية، المنسلخ عنها. شيئاً فشيئاً، يصير التفاعل مع العلبة البلاستيكية ضرباً من الفتيشية(fétichisme)، إذ يُعبَد “الكاسيت” بطريقة حديثة، ويستحيل التسجيل والاستماع بمثابة صلاة تقنية، تضع  الذات على اتصال مع قوة  بعيدة وغير مرئية.

 وإذا استمع المرء إلى صوته الشخصي، اكتشف أنه غائب عن ذاته، لا سيما عندما يلاحظ أن الصوت الذي يخرج من المسجلة لا يشبهه البتة، وهذا ما يرويه عباس بيضون في فصل من فصول كتابه البيوغرافي “مرايا فرنكشتاين”. إذ يتعرف على نفسه من خلال صوته المسجل، أي من جهة غير ذاتية، أو بالأحرى مفصومة بين شخصيتين أو أكثر، يتعارفان بمدّ الشريط المغناطيسي بينهما، وبالإستماع المتبادل. لا يتيح “الكاسيت” اللقاء بالآخر فحسب، بل بالذات بوصفها غَيراً، وفي الوقت عينه، يسمح برفض هذه الذات وهذا الآخر، وإعادة التفتيش عنهما من جديد بعد أن تمحى آثارهم الصوتية.

بذلك، يخرجان من البيت المفقود، ولا يعودان صورة أمومية، تهدد بالانسلاخ عنها. لكنهما، بعد إزالة صوتهما، وفك غيابهما، لا يحضران طبعاً، بل يتحللان ويختفيان.

 ليس “الكاسيت” بيت الغائب فحسب، بل أنه قبر بلا قعر أيضاً. فإزالة صوت أحدهم عن الشريط يعني سحب هوية الغياب منه، وتركه خارج الحضور بالفعل نفسه، وبهذا المعنى يموت ويتحلل “جسد صوته”. أما المستمع، فيستمر في عبادة الشريط المدمج، ويزداد تعلقاً به، نتيجة تعويضه عن المفقود، ما يدل إلى أن العلاقة بين الإثنين شِعرية. فالآخر الذي خسرناه في الواقع بسبب الابتعاد أو الوفاة، يعود صوتياً في الشريط. أي أن الصوت هو استعارته الشعرية، طريقه إلى الظهور في حياتنا من جديد. وذلك من دون أن يخرج من “الكاسيت”، من القصيدة البلاستيكية للغياب.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى