صفحات الناسهيفاء بيطار

شيء عن الكراهية/ هيفاء بيطار

 

 

أقوى غريزةٍ لدى الإنسان هي غريزة حب الحياة، وغاية الإنسان هي السعي إلى سعادته وسعادة أسرته وأصدقائه وإخوته في الإنسانية بشكل عام. ولا يُمكن فصل الشعور بالسعادة عن الإحساس بالكرامة وإنسانية الإنسان. ومن ظواهر مؤلمة ومُخزية في المجتمع السوري ظاهرة كراهية الحياة والآخر المتألم والمُروع من المأساة كمعظم السوريين، ففاقد الشيء لا يُعطيه، ومن تقسو عليه الحياة إلى درجة فظيعة من استشهاد أولاده في حرب قذرة، إلى اضطراره للنزوح، سواء داخل سورية أم الهجرة إلى خارجها. إضافة إلى الفقر والانهيار الاقتصادي، وانسداد الأفق بحل قريب. فمن يعاني هذه المعاناة، مفرطة القسوة، تصبح الحياة بالنسبة له جحيماً، فيكره يومه، وأحياناً يكره نفسه، ويعتبر نفسه منحوساً وتعيساً. وتنعكس مشاعره السلبية هذه على المقرّبين منه من الأقارب والأصدقاء، ويتقوقع داخل قوقعة حزنه، ويبتعد عن رفاقه، وأحياناً تحل القطيعة بينه وبين أصدقائه وأقاربه، بسبب الخلاف في وجهات النظر حول المأساة السورية.

وأحياناً، تحل القطيعة والإحساس بالكراهية تجاه الآخر (يُماثله في ظروفه المأساوية، وأحياناً يتفوق عليه في الألم) من دون سبب واضح، ربما لأن الآخر يجسّد له حقيقة معاناته، أي كما لو أنه مرآة روحه، فيهرب من حقيقته المؤكّدة، ويبتعد عن الناس، ويعيش عزلةً، يقتات كل يوم أحزانه ومأساته، وهو مُدرك تماماً أن الضمير العالمي لا يبالي به، ولا المسؤولون في وطنه الذين لا يهمهم سوى البقاء في مراكزهم، يتمتعون بالسلطة والمال، ويُسفّرون أولادهم إلى أوروبا وأميركا، تاركين الموت للشبان الفقراء الذين لا تستطيع أسرهم دفع الأموال الطائلة للمهرّبين، ولا يستطيعون الفرار من مصير الجندي السوري أو الشهيد البطل. كم سمعت عباراتٍ تلعن حياة القهر والذل في سورية، وخصوصاً عبارة “الموت أفضل من هذه الحياة” و”الموت ولا المذلة”.

لكن هذه المشاعر بالكراهية التي يحسّها الإنسان السوري المسحوق ليست أصيلة، ولا حقيقية، فهو لا يكره أخاه المتألم مثله، بل يهرب من كل من يجسّد له حقيقة عيشه الذليل. ولا يجوز التعميم، إذ يجد بعضهم السلوان والتعزية في الصديق والقريب، فالأم الثكلى تجد عزاءً في الأمهات الثكالى أمثالها. وفي عيد الأم، تنطلق مظاهرة غير منظمة من الأمهات الثكالى إلى المقابر لزيارة أبنائهم الموتى الشهداء، ويجدن العزاء أمام مقابر أولادهم الشبان.

الفساد المستشري في كل مؤسسات الدولة السورية يجعل المواطن السوري حاقداً أيضاً وغاضباً، فراتبه الهزيل الذي بالكاد يشتري به الخبز لأسرته يتم اقتطاع مبلغ منه من أجل إعادة الإعمار (كما لو أن الهدم قد توقف)، وهو يرى طبقة أثرياء الحرب تعيش بذخاً أسطورياً غير مباليةٍ بالأغلبية الساحقة من السوريين الذين يعانون الفقر والقهر. وبلغ فحش تلك الفئة من أثرياء الحرب أن زوجة أحد المسؤولين احتفلت بعيد ميلادها في فندق روتانا في اللاذقية، وكلفة الاحتفال أربعة ملايين ليرة سورية. وبعد ثلاثة أيام، احتفلت السيدة إياها بعيد ميلاد ابنتها في فندق روتانا، وكلفها الاحتفال أربعة ملايين أيضاً.

أمام هذا العهر الأخلاقي وسرقة المال العام، لا يستطيع المواطن السوري سوى الإحساس بالنقمة والقهر والظلم. وتصبح مشاعر الطمأنينة وراحة البال والسعادة ضامرةً جداً وغائبة. أخبرتني إحدى الأمهات أنها، ومنذ ثلاث سنوات، تدفع كل شهر سبعين ألف ليرة سورية، للضابط المسؤول عن ابنها المجند كي لا يضعه في الصف الأول للقتال، إضافة إلى هدايا كثيرة يطلبها الضابط من ابنها.

أساس السعادة العيش تحت سقف القانون الذي يسري على الجميع، ويجعل الإنسان يحسّ بكرامته وإنسانيته، وبأن له قيمة في هذه الحياة، وليس مُهمشاً، ولا أحد يبالي به، وبمأساته. كم يؤلمني تأمل وجوه إخوتي السوريين، خصوصاً حين أكون في مقاهي الرصيف؛ كل الوجوه أيقونات ألم ومعاناة، ولا يجدون متنفساً لهم سوى سموم الأركيلة التي تكاد تكون العزاء الوحيد للسوري الفقير.

الكراهية الزائفة فرضها النظام والدول الكبرى الظالمة على السوري، فهو أساساً إنسان يُحب الحياة، لكننا نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلاً. وللأسف، سبل السعادة مقطوعة في سورية، ولم تبقَ إلا مشاعر الأسى والقهر والإحساس بانعدام القيمة، وكره الآخر كرهاً مزيفاً، لأنه كل مواطن صار يمثل مرآة مأساة أخيه الإنسان.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى