صفحات العالم

عامٌ بألفِ سنةٍ


 فاروق عيتاني

   لستُ مبالغا إن قلت أن عام 2011 ، عام الربيع العربي ،كان بألف سنة من تاريخ العرب .

فلأوّل مرة يتحرك العرب شعوبا من مغربهم إلى مشرقهم لإسقاط أنظمتهم السياسة.هكذا وبلا توقع أو حساب ، تقدم الشعب العربي أفرادا و نزلوا فأسقطوا ثلاثة أنظمة من تونس إلى مصر إلى ليبيا ، و باشروا عملية إسقاط  نظامين في المشرق: اليمن و سوريا.

و لأنّ للإنتصار أباء كثر ،حاول العالم نسب الفضل لهم: من قائل بفضل توسع العولمة و أدواتها النتّية إلى قائل بانهم يستكملون ربيع أوربا أو ما توقف قبل خمسين سنة أو ما ثبت الأمر عليه منذ الحرب العالمية الأولى أو  هم يستأنفون 1840 الأوربية أو الثورة الاميركية، أو إنهم يعممون النموذج الإيراني .و حتى اللبنانيين على قسمتيهم 8 و 14 آذار نسبوا الفضل و الإلهام لهما !. في البدء قالت 8 اذار به ، ثم لمّا رأت ؟ ولت مدبرة ! و استفاقت 14 الشهرفتراكدت سراعا بوصول الثورة إلى عدوها اللدود ، و عدو لبنان ، نظام ال الأسد ،مؤكدة على أنها في ثورة الأرز فتحت الطريق!

  لكن الحقيقة في مكان آخر. في البداية سميتُها  رجّة لأن الرجّة خافضة رافعة و تأتي من العمق البعيد، و فجائية . لكن بعد إنتصارات تونس و مصر و ليبيا إتضح لي أنها أنقلبت  ثورة . وهي بالطبع ثورة في سوريا و ثورة في اليمن وثورة حتى تمتد من مراكش إلى بغداد.

لأوّل مرّة يعاقبُ الشعب العربي الحاكم المرتد عن مفهوم الجمهورية أو الحاكم المستبد . ولأوّل مرّة تطرح جماهير إستكملت أو تستكمل قياداتها في مسيرتها ( أي أنها قامت بلا قيادة )موضوع تداول السلطة . فترفض مفهوم حاكم إلى الأبد و تخرج من ثنائية سلطان غشوم أو فتنة تدوم ، كما تخرج من متممتها ؛ سلطان غشوم أو غرب ظلوم.

لأوّل مرّة في تاريخ العرب الحديث لم يكن العدو هو الخارج ، بل كان الداخل ،لأوّل مرة في تاريخ العرب الحديث ، كانت اوطان سايكس بيكو و تقسيمات المستعمر ،خارج الطرح العائم للجماهيرالعربية ، حتى فلسطين الثابت المثبت ، بدت خارج طرح الربيع و مخصوصة بأهلها و مستقلة ( وهذا أفضل ). ماذا قالت هذه الجماهير التي لم تردُ من تقسيمات برجوازية أو عمّالية ، ولا من ريف دون مدينة ، ولا من أعمار فوق الثلاثين ، ولا من ذكور دون إناث ،ولا من قطاع ونخب متعلمة دون أمّية، ولا من إستكمال دورة الحداثة الأوربية؟

قالت : نريد إسقاط النظام . هكذا و بلا مقدمات أو تمهيدات أو توقعات ! و أسقطت …و..سحلت!

   في كتابه ( إبراهيم العريس) ، حوارات النهضة الثانية ، حاور العريس حوالي أربعين شخصية فكرية عربية معروفة منذ عقود . جرت الحوارات بين 2007 و 2010. و أنا أتصفح  اليوم حواراته ،فأكتشف أنّ قلة كانت تثق بالجماهير ( شذّ الجابري و ربما معه واحد أو إثنان) . أمّا البقية فليس منهم إلا النعي ! نعي الجماهير و نعي الناس و نعي الامل. ماذا يعني هذا ؟ يعني أنهم لم يتوقعوا! لم يحلموا!. و الأصح لم يعرفوا الناس ، فقط كانوا يعرفون أنفسهم.

  اليوم هناك من الوراقين ( أصحاب الصحف ) و الفنانين و الفنانات و الممثلين ومقدمي البرامج و “المثقفين” التافهين و المختلين ثورية و  رعيان الطوائف و مشايخ السلطان  و الشبيحة و دوائر السلطان و أجهزته العشائرية و الأمنية و الجهوية و بطانته المقربة و النصف بعيدة و بقايا أحزاب الشموليات وحنين الوهم يتوهمون أن بإمكانهم توقيف هذا التسونامي العربي الجارف !

و في الجهة المقابلة هناك من يغوص في الوهم الأخر، فيرسم هذا التسونامي العربي صورة عن أحلامه الوردية.ويوهم نفسه أنه”، ثقافتان تلتقيان اليوم في صراع شرس ومصيري، ثقافة القتل والإلغاء والاحادية والاوليفاريشية، وثقافة الحرية والمواجهة والتعدد والتسامح والديموقرطية.”- كوليت مرشليان – ملف ثقافة عام 2011 المستقبل_.

     لكن الواقع انه ليس كذلك خصوصا فيما يتبدى من نتائج أوّلية للمواجهات و للعمليات الانتخابية.

فعلى الأرض من مغرب  العرب إلى مشرقهم يفرض الإسلاميون العرب أنفسهم سواء في ميدان المنازلة أو في الانتخابات أو حتى من باب إلتزام التطبيع مع إسرائيل . و يبدو لي أنه ثمة إسلام حراكي يتدبر نفسه للوصول إلى السلطة ، و قد وصل هذا المد في تونس و ليبيا ومصر و في المشرق العربي . هو على الارض وفي العمق وإن تزين بطرابيش علمانية بتلوينتيها  القديمة أو الجديدة الليبرالية.

هذا الإسلام الجديد أو بالتلوينة الجديدة و المستيقظ على القطع مع إيران ومن باب العقائد و ليس هذا بالسهل تجاوزه و المهادن للغرب و إسرائيل وليس هذا ايضا من السهل الوثوق به ، و القائل بدوام الديمقراطية الانتخابية و تداول السلطة و مواضيع ” الأب تو ديت” والمرأة و التسامح و التعددية ( لفظة مدرجة بديلا عن التنوع أميركية المنشأ ) و الأقليات ،.وليس هذا من باب التسليم بدوامه عنده، و المتشبه بتركيا و المختلف عنها في التوجه الإثني .وهذا واقع لا يتوقع تبدله في المدى المنظور، وإن أنكر البعض و تناسى هذا التباين لدعم النظام السوري( جهاد الزين في النهار اللبنانية مؤخرا) . هذا الإسلام بالتلوينة الجديدة لا يقلقني . ذلك ان مجمل الأفكار الإسلامية التي تداولت في القرن الماضي ، كانت افكارا مأزومة  في صراعها مع السلطة المحلية العربية بوصفها صنيعة غربية و غير وطنية في مرحلة ما بين الحربين و إستبدادية عسكرية كاذبة في ممانعتها بعد الخمسينات و متواطئة مع كل السفليات الغربية.

   أنا أؤمن أن الناس ستكتشف بعد مدة إشكالية كل الشعارات التي رفعها التياران الاسلاميان الحركي الأشعري و السلفي المتحرك ( إجتماعهما يعني قاعدة ) – وهذا لن يحصل بعد الان -إذ أن مرحلةالقاعدة هي مرحلة ما قبل السلطة بينما السلطة تتطلب مفاهيم جديدة عمادها السياسة . وأولى مظاهرها  ليس في مصر( التصريح السلفي بالإلتزام بالتطبيع) أوفي تونس و سلوك النهضة إلى الآن و تصريحها بالحفاظ على مكتسبات المرأة هناك . أو في ليبيا ، أصل القاعدة وفصلها العروبي خصوصا في البيضاء و بنغازي و في درنة تحديدا . فهؤلاء رفعوا العلم الفرنسي و ” قبّلوا ” أيادي الفيلسوف الفرنسي اليهودي ، هنري برنار بعدما كانوا يصرّون على رفض أي مساعدة غربية ! بل في فلسطين – حماس  و تصريحات مشعل أخيرا ، و على الرغم من خصوصية الموضوع الفلسطيني إذ يبقى صراعا ضد الخارج و مباشرا على عكس الخصم في الربيع العربي.ستكتشف الناس هشاشة كل هذه الطروحات الإسلامية.

ما أتوقعه أنه في العام 2012-2013سوف يخرج من جمهور كل منهما ( التيارين الإسلاميين المذكوريين سابقا)حالة أشبه بحركة الشيوخ في السعودية سنة 1927و سيبادران الى سحقها إن إستعملت القوة ضدهما مما سيعجل بتسارع إنكفاء كل الاوهام و المخيلات التاريخية المغلوطة التي خيّمت فوق أذهان الجماهير الاسلامية.ما أتوقعه أنه سيعاد إبتعاث قهم إسلامي جديد مصدره الأساسي هي التجربة التاريخية للمسلمين.

في نفس الوقت فإن التفكير الغربي و المتغرب عندنا بدعم التيار الصوفي ( دراويش و قبّارين ) على اساس فكرة وحدة الوجود  هي مسألة تكشف عن جهل هذه الحركات و محدوديتها في الفهم . فالصوفي لا يعشق إلا نفسه ،وهو أيضا يستخدم العنف . أوليس الخميني و التشيع الصفوي هو الاكثر إلتصاقا بهذه المنظومات الذهنية :من ” مقبور دمشق ” إلى الملا صدرا وصولا إلى الشيخ النابلسي طيب الذكر بلبنان ،( دعونا من هنري كوربان و نواف الموسوي مترجمه- أو  إستعدادها للانقلاب على كل شعاراتها من أجل السلطة.

إن التغيير في الفهم الاسلامي عند العرب ، مسألة تراكمية ولا تنبع إلا من داخل الفكر نفسه و في نفس الوقت هي حتمية و لها أساسها الشرعي القائم على أن الامامة في الاسلام الاكثري السني و ليس في الاسلام الهامشي هي مسألة ملحقة .

هل بأمكانني ان اقول أننا من مستنقع الشرق إلى الشرق الجديد خرجنا؟ صحيح ولكن لنتذكر أنه مازال اسمه الشرق ولن يصير في يوم من الايام غربا.

                                                              فاروق عيتاني

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى