صفحات الحوار

عبد القادر الحصني: كلّ ما يقع تحت مظلة التاريخ لا يكفُّ الإنسان عن مشروعه الداخلي

 

اسكندر حبش

أرى شمساً كبيرة تنتظر لحظة انطلاقها صاعدة إلى سماء المنطقة

من اللحظة السورية الراهنة، يبدأ الحديث مع الشاعر السوري عبد القادر الحصني، الذي يعد واحداً من أبرز الشعراء على الخارطة الشعرية العربية، لكنه لا يتوقف عندها، إذ يتخطاها ليبحث في شؤون الكتابة والشعر والعمل الفني، عبر سلسلة من التنويعات الراهنة.

في بيروت كان هذا الحديث:

ـ أيّ حديث اليوم، لا يمكن إلاّ أن يبدأ من اللحظة الراهنة التي تجتازها سوريا والمنطقة. سؤالي الطبيعي إذاً، كيف تعيش هذه اللحظة؟

* لا شك في أنّ إحساس المأساة هو المهيمن على البرهة الراهنة. ولكنّ المأساة حين تستمر وقتاً طويلاً يغدو الأمر محلا لتأملات فكرية ووجدانية كبيرة لا بدّ من أن تفرض نفسها لترى ما الذي يجري. في برهة ما بعد تأمل المأساة التي ما زالت مستمرة أرى أن ما يدفعه الشعب السوري الآن، إنما هو تسديد لفواتير متراكمة على مدى عقود من الزمن كان ينبغي التعامل مع كلّ فاتورة منها في آنها وفي استحقاقها، ولكن قطرات الماء المجتمعة فيما بعد تصبح سيلا جارفاً. وأرى أيضاً أن هذه المأساة القائمة، إنما هي مقدمة لحياة جديدة تستحق أن يقدم من أجلها كلّ هذا، فليست الحرية رخيصة وليس استقلاب الواقع والمضي من برهة إلى برهة تاريخية أخرى، بالأمر اليسير، إذ يبدو أن المنطقة برمتها هي في طريق هذا الاستقلاب الذي تصنعه الناس، على الرغم ممّا يبدو من مؤثرات خارجية كبيرة. ولكن هذه المؤثرات الخارجية ما كان لها أن تكون على هذا النحو لو لم يكن في الواقع ما يستدعيها أو يحتضنها أو يتعامل معها أو يمهد لتدخلاتها الكبيرة.

كشاعر لا أجد نفسي إلا مع الناس الذين يدفعون التكاليف الأبهظ، لذا كانت القصائد الأخيرة التي كتبتها معنية بعذابات الناس ودماراتهم وسط هذا المخاض الصعب. لا أكتمك أنني كنت أرى الذي يجري الآن منذ زمن بعيد وقد عبرت عنه في شعري. كنت أعيشه هواجس عميقة وكوابيس، أصارح بها بعض المقربين، فمنهم من يصغي ومنهم من يراني متشائماً أو سوداوياً. فمنذ ثلاثة عقود حتى الآن كان ينتابني هاجس – وأنا في المواصلات العامة في دمشق – أن أجد أمامي حاجزاً ويصبح الوصول إلى البيت أمراً غير ممكن. فمن هم في هذه الجهة من المدينة إلى جهة والآخرون إلى جهة أخرى.

كان ينتابني وأنا أستحم وأضع الشامبو على رأسي، أن لا يبقى من الوقت ما يكفي لإزالة “الرغوة” عن الجسم بسبب ما يمكن أن يقع لحظتها. أقول في قصيدة من مجموعتي الشعرية الثانية “الشجرة وعشق آخر” الصادرة عام 1980

“نحن نعلم أنكم الذاهبون إلى غير عودٍ

وأن دماءكم الآن تركض مرعوبة في المواسير

ثم تنام وراء الصنابير آسنة فتعستم مساء

لكل زمانٍ زمانُ يحاكمه

فتية يرتدون مآسيه

لست حزيناً

ولا طالباً وردة من حجر

حجراً من ندى

ذاهب كل شيء إلى جدل

وأراني من أكثر الذاهبين إلى جدلٍ جدلاً

أراني أحاكمكم في دمي ونموت معاً

ولكن دعوا وجهها حلماً يعشق القادمون رؤاه

فمن أجل جيل جديد سيأتي دعوها

ومن أجل أغنية لم تُغنّ دعوها

ومن أجل خبز وملح وماء

أسندوا رأسها

إنها متعبة

أسندوه إلى حجر في العراء”…

ولكن يبدو أنهم لم يفعلوا ذلك، فهي كما ترى الآن تتهاوى بأبنائها الطيبين ولا تجد من يتيح لها فرصة أن تلتقط أنفاسها وتضم هؤلاء الأبناء.

تستغرب إذا قلت لك إنني أرى شمساً كبيرة تنتظر لحظة انطلاقها صاعدة إلى سماء المنطقة، وأعتقد أن هذه الشمس ستكون إطلالتها الأكبر والأوسع والأكثر إبهاراً وحضوراً من مصر العربية. يبدو لي هذا مثل حلم ولكنني كشاعر أؤمن به وما يقال من تشنيع على الربيع العربي أراه ردود فعل أناس يريدون للبرهة التاريخية أن تبقى متخثرة، ولكن الحياة سيدة هائلة وتعرف كيف تتعامل مع أولادها في بيتها في كل الظروف. ألم عميق على شرفة برهة مشرقة جدا، هذا ما استشعره.

ـ استشرفت ما يحدث، كما تقول، الآن كيف انعكست هذه البرهة في القصيدة الحالية؟ هل انعكست الأحداث بالضرورة في كتاباتك الأخيرة؟

* من طبيعة تجربتي أنها ليست ذات ترجيع قريب لما يحيط بها، فأنا لست من الذين يبادرون إلى ردّ الفعل السريع أو الاستجابة الفورية لما يقع. إنني شاعر مجتر إلى حدّ لا بأس به. تعيد الأحداث نفسها فيّ مرات ومرات إلى أن يمكن أن أقول فيها ما أطمئن إليه. كتبت مجموعة من القصائد نشرت بعضها في جريدة “السفير” في الآونة الأخيرة، هي قصائد جمعت ما بين البرهة المأساوية والبرهة الجمالية، فالذي يعاني في مثل هذه الحالة هو من تحب، وأعتقد أن في هذه القصائد بكاء مريراً مأنوساً بالحب والجمال ولافتاً إلى المضمر البهي في سوريا، وفيها، في مواضع منها عتاب مر أيضاً وتذكير لبرهات سابقة من حياتنا بما كانت عليه.

إنني حذر جداً من الكتابة في هذه المرحلة لأنني أخاف أن يبدر في شعري ما يمكن أن يظهر ملطخاً بالدماء، وهذا ما لا أريده لشعري ولأي فن من الفنون. أريد للفن أن يبقى نجمة الليل الحالك، نداء القلب المحبّ، ولا أريد له أن يدخل في ما يشجر من أمور سياسية، فالسياسة كثبان رملية متحركة، والفن هو ما يقيم الواحات في هذه الصحارى لكي لا تبتلع الكثبان الرملية المتحركة كل ما عليها.

أعيد قراءة أشعاري القديمة في هذه الليالي الحالكة وأتوقف فيها عند مقاطع معينة وأشعر بالألم لأنه على ما يبدو لم يكن هناك من يصغي لما فيها من نبوءات ورؤى تقول ما يجري الآن.

في مجموعتي الشعرية الأولى الصادرة عام 1976 “بالنار على جسد غيمة” أقول:

“بردى دثرني إني خائف

من مائك تجري أرصدة في كل بنوك العالم

وأنا حلقي ناشف

إني أسمع أشياء تتساقط في الداخل

إني أهوي وأنا واقف”

وفيها أيضا أقول:

“لماذا توارى هواجسنا عريها

بالرؤى الغامضة

لماذا يحاصرنا الخوف

بين انطلاق الحروف

وبين مباغتة الفكرة العارضة

وحين يراود حلمُ التعري الجلودَ التي تفضح الكي والنار

تفضح أوسمة المرحلة

لماذا يكون التعري على خشب المقصلة

مرير هو الصمت في زمن الاغتراب

مرير هو الصوت يسقط بين السيوف وبين الحراب

فمن ذا يغامر

من ذا يحل المعادلة القاتلة

ويخبر أن الحداة سترمي إلى الموت بالقافلة”.

مثل هذا الكلام ما كان يمكن أن يجد آذانا صاغية على ما يبدو في وقت كان تفاؤل ما بعد حرب تشرين 1973 يملأ حناجر كثير من الشعراء بالتغنّي بالنصر. أقول في قصيدة “توضيح لا بدّ منه بين يدي أبي العلاء المعري” عام 2006

“أخاف وقد حلّ الغزاة ببابنا

انتظارَ خلاص اليائسين لجزار

وأن أغتدي في عقر داري لاجئا

مدمّرّ أوكارٍ مهدمّ أوجار

تهيم على وجهي ذئاب توجّعي

وتهدل في أطلال روحيَ أطياري

فأجد في هذه الأبيات نبوءة ما أعيشه الآن من تشرد الناس في بلدهم من مكان إلى مكان وقد باتت بيوتهم مدمرة ولا يجدون ما يؤويهم في داخل بلدهم وفي خارجها.

ـ تطرح أكثر من إشكالية في جوابك السابق، لا تأتي الكتابة إلا بعد زمن الحدث، أي تبتعد عن اللحظة الراهنة التي لا تظهر إلا لاحقاً، وثانياً علاقة الكتابة بقارئها. هل فعلا كنت تأمل بأن قارئاً يقرأ حقاً؟

* كنت أدرك أنني اصرخ في البرية وأن من يصغون قلة قليلة جدا، لما في الشعر من رؤى، ولكن هذه طبيعتي وهذه طبيعة تجربتي الشعرية وما كان بوسعي أن أكون إلا على النحو الذي كنته.

السياسي غارق في المجريات ومستغرق في الآني ومصاب بعمى المكتسبات التي لا تترك محلا لعقله إلا في كيف يستولي على ما يمكن أن يستولي عليه من برهة الواقع، بينما الشاعر متحللا إلى حدّ كبير من هذه المواصفات يرى ببصيرته ما لا يستطيع السياسي أن يراه. وإذا ما قدر لسياسي أن يصغي للشاعر فإنه يعرض عما يسمع منه لا سيما إذا كان هذا السياسي في إطار رؤية تستشعر التمكن والقوة والجبروت. إنها لمشاقة يبدو أنها ستبقى أبدية ما بين الفنان أو المبدع أو الفيلسوف والسياسي. على وجه العموم تجربتي الشعرية، تُحدق في كثير من قصائدها، في القبح السياسي وترى أنه أقبح القبح، وقد قال أحد النقاد ذلك عن تجربتي.

يحدث انفجار يذهب ضحيته بين قتيل وجريح حوالى مئة من الناس بين هؤلاء واحد من رجال السياسة كان هو المستهدف. السياسيون والإعلاميون يسلطون الضوء ويديرون كاميراتهم وأقلامهم وتحليلاتهم حول ذلك الشخص في تغطية ما يزيد على 99 في المئة من الحادث ويعطون واحداً في المئة هامشا لذكر عدد الآخرين الذين قتلوا وجرحوا. الشاعر يسهر لياليه معايشاً أولئك الناس الذين لم يحظوا إلاّ بهامش ذكر عددهم فيرى فيهم الطالب الذاهب إلى مدرسته والصبية الذاهبة إلى موعد مع حبيبها والأب الذي يحمل بعض حاجات بيته إلى أولاده والأطفال الذين كانوا يلعبون على الرصيف. هذا هو الفرق بيني وبينهم أعني السياسيين. يصعب أن أجتمع وإياهم في برهة إنسانية على صعيد واحد.

ـ هل معنى ذلك كله أن الشعر حياة أخرى، بديلة من حياة ما لا تجد فيها هذه البرهة الإنسانية الحقيقية؟

* الشعر هو الحياة وهو الناس وهو ليس برهة بديلة، ما قلته هو أن البرهة السياسية ليست معنية بإنسانية الإنسان في هذه الحياة على ما يبدو لذا أنحاز أنا إلى الحياة وإلى ناسها وأرى في السياسة وفي هؤلاء السياسيين برهة الموت، على الرغم مما يبدو من أنهم يصنعون ما نعيشه.

يروى عن أحد الصوفيين أن سلطانا استدعاه وأبقاه عنده ثلاثة أيام، لم ينبس خلالها الصوفي ببنت شفة وعندما خرج سأله الناس لِمَ لَم يتكلم شيئا مع السلطان فقال لهم “ثلاثة أيام وأنا أفكر في كلمة ترضي السلطان ولا تغضب الله فلم أجد”. أنا في محله أقول “مكثت ثلاثة أيام أفكر في كلمة ترضي السلطان ولا تغضب الناس فلم أجد”. على صعيد الإنسان تبدو لي المفارقة ما بين الناس وسلاطينهم لا سيما في هذا العصر، تبدو لي مفارقة لا رافع لها.

ـ ربما تكون معادلة صعبة، أي هذا الاصطدام بواقع مخالف. لا أسأل بالطبع عن جدوى الكتابة، ولكن هل يمكن للكتابة أن تستمر، إلى أين ستوصل؟

* ستستمر، ستستمر. وإلى أين ستوصل؟ سؤال لا أراه وجيها في طرحه. لا أنتظر من الفن على وجه العموم والشعر على وجه الخصوص أن يقود الحياة أو أن يحقق ما يعجز عنه من يخوضونها. ولكنه سيبقى الحارس الأمين على إنسانية الإنسان وعلى ندائه العالي المطالب بالحرية والكرامة والقيمة في وجه من يعملون على انتزاع هذه المعاني من الإنسان ومن حياته. الجمال، الحق، الخير، من يحرسها غير الفن العظيم بأوجهه المختلفة، نحن الأطفال الذين سنبقى مصرين على طفولتنا ومصرين على رفع أصواتنا بأن السلطان عارٍ ولا يلبس شيئاً وسط حشود من المستهجنين الذين ما أن يتاح لصدقنا أن يلتحم بتصحيح رؤيتهم حتى ينتفضوا على ذلك السلطان المزيف. طبعا يأتي بعده سلطان آخر وسوف يكون مزيفا أيضا وسنستمر نحن في تعريته. ليس هناك أمر آيل إلى أن يستقر على وجه من الوجوه، يبدو أن اللعبة مصممة في الأساس على هذا النحو.

ـ أوافقك على أنه لن يغير الحياة ويحولها، لكن أيضا، قصر جزء من الشعر على هذه المطالبة ألا تظن إنه يفقده دوره الأكبر؟ بمعنى أن تسقط الكتابة في شعار ما. أليست الكتابة أبعد من ذلك؟

* أعتقد أن في القصيدة دولتين، دولة للموضوع ودولة للفن. دولة الموضوع مؤقتة وإجرائية غالباً، أما دولة الفن فهي دولة تتسم بالديمومة ومؤبدة. القصائد العظيمة التي كتبها المتنبي، بعضها في مناسبات نحن لا نعرف عنها شيئا الآن تقريبا إلا إذا بحثنا في بطون الكتب التاريخية وإذا وجدنا في هذه البطون شيئا فقد نكون غير معنيين به. هذا ما دعوته دولة الموضوع. ولكن دولة الفن في قصائد المتنبي هذه، هي التي أبقت شعر المتنبي إلى الآن.

يروى أن أحد الفراعين طلب من أحد الفنانين في عصره أن يقيم له جدارية عظيمة تظهر أعماله وإنجازاته وانتصاراته، فعكف الفنان سنين حتى أنجز هذا المشروع الضخم وطلب عندما انتهى من الفرعون، أن يتيح له أن ينقش اسمه كصانع لهذا العمل، فأبى الفرعون وقال له مثل هذا العمل ينبغي أن تكتب عليه اسمي وأسماء أولادي وألقابي وما فعلته من أعمال كثيرة تؤرخ لي فقط. انصاع الفنان للفرعون وعمل ما أمر به. مرت مئتا سنة من الزمن وإذا بالكتابة على هذه الجدارية قد بدأت تتآكل وتتساقط فقد كانت على طبقة أضافها الفنان إلى جسم العمل وكتب عليها ما كتب. وبعد تساقط هذه الطبقة ظهر اسم الفنان على جسم العمل الحقيقي.

قد تكون هذه القصة رمزية، ولكن السؤال هو هل خدع الفنان الفرعون؟ في رأيي أنه لم يخدعه فقد أعطاه من العمل الزمن الذي يستحقه ليبقى ما تبقى من الزمن للفنان والفن. هاتان هما الدولتان اللتان عنيت.

فأن يكون في عمل شعري مقاربات للواقع والمجريات أمر قد يكون لا بدّ منه لا سيما في مراحل من الويلات ولكن ينبغي أن تكون في القصيدة دولة هي العليا وهي التي ستبقى بعد أن يأخذ الزمن في مجراه الويلات وغيرها إلى كتب التاريخ. فنية الفن هي الأبقى، حتى إننا نلاحظ في القصيدة الواحدة لدى الشعراء جميعا كيف أن الشعرية تتخفض حين يصير التعبير مقاربا مقاربة تسجيلية أو تقريرية للواقع، بينما تحلق الأجزاء الأخرى من القصيدة التي يرتفع بها الشاعر من سواء الواقع إلى ما فوقه من رؤى لا تنفصل عنه ولكنها لا تترسب فيه.

من الواقع في الواقع إلى الواقع في القصيدة يصير الواقع لحظة اختراقية، نوعية، يتبدى معها الواقع وكأنه صار واقعا آخر. أمثل لهذه الفكرة بنقل عرش بلقيس: فعندما سأل سليمان بلقيس (كما تروي الأسطورة الدينية) أهذا عرشك؟ قالت له كأنه هو، بينما هو كما في سياق القصة عرشها ولكنها لم تجرؤ على قول إنه هو. السبب أن هذا العرش قد عبر لحظة اختراقية هي: أنا آتيكَ به قبل أن يرتدّ إليك طرفك. بعد هذا العبور يصعب على صاحبة العرش نفسه أن تقول إنه هو. اسمّي هذه اللحظة الاختراقية بُعد النُقلة، فالفن، كل فن، يأخذ من الواقع لكنه يحيله إلى واقع فن. الخمر ليست عصير العنب والعسل ليس رحيق الأزهار، لقد عبرت هذه الوقائع أو المواد برهة نوعية غيرت من طبيعتها ومن فاعليتها ومن وقعها في النص والمتلقي على الرغم من أن مادتها الأساسية هي الواقع.

على النحو نفسه توهمت بلقيس أرض البلاط أنها لجة وكشفت عن ساقيها لتعبر، فقال لها إنه صرحٌ ممردٌ من قوارير، أي أنه من البلور المصقول. هذا الواقع الذي هو البلور المصقول ما الذي طرأ عليه حتى أوهم بأنه ماء؟ الذي جعل له هذا الفعل هو الفن، فقد نقله من واقع إلى واقع. ودعني أسمّي هذا الفعل عمق الاستحالة وعلى ذلك يكون الواقع في القصيدة وفي أي عمل فني قد عبر لحظتين استثنائيتين هما بُعد النُقلة وعمق الاستحالة.

ـ ولكن في هذا أيضاً رهاناً كبيراً، إذ في النهاية، وهنا السؤال الكبير الذي أجده، ما هو العمل الفني؟

* ثمة في النفس البشرية توق إلى معانقة البعيد وإلى متاخمة المطلقات والرحيل من هنا إلى هناك. هذا التوق جوهري في الإنسان لم يتنازل عنه على امتداد آلاف السنين التي تصرمت من عمر النصوص التي وصلت إلينا والأعمال الفنية التي وصلت إلينا أيضا. العمل الفني هو ذلك العمل الذي يعيش الراهن في عمقه ولكنه حامل لهموم ذلك التوق. لذا يكون ما ينجزه من أعمال عرضة للخلود على ما في هذا التعبير من مفارقة واضحة بين العروض والخلود. وقد جعلت التعبير على هذا النحو لأضعه في إطار الاحتمال. العمل الفني محاولة/مكابدة لمواجهة الموت بما يبقى ولا يموت، من البحث عن عشبة الخلود في جلجامش إلى اندهاش ماركس أمام تعلق الناس بمشاهدة التماثيل اليونانية، إلى جدارية محمود درويش إلى كل ما يمكن أن يخطر على بالنا من أعمال كبيرة على صعيد الفن، نجد هذا التوق الكبير إلى معانقة اللانهائي حتى في رهان الشيطان مع فاوست “حين أقول للهنيهة الهاربة، تلبثي أنت جد جميلة، عندها شدني بقيودك التي لا تنتهي”، رهان يضمر فيه فاوست أنه لن يقول هذه الكلمة فهو يريد ما لا يمكن الاكتفاء به، ما لا يمكن أن يقع في المحدود.

هذه البذرة على ما يبدو هي المسؤولة عن شجرة الفن وعن أنساب الآلهة لدى هزيود. المشروع الخارجي مهما عظم، وأعني بالمشروع الخارجي كل ما يقع من أعمال تحت مظلة التاريخ من حروب وفتوحات وتحولات كبرى في المجريات، لا يستطيع أن يملأ الإنسان وأن يكفه عن مشروعه الداخلي، فحين كانت “الجيوش الإسلامية” تنداح على الأرض وتحقق ما تحقق عاملة على كلمتين كبيريين: الجهاد والشهادة، لم يكف ذلك شاعرا كجميل بثينة عن أن يقول:

“يقولون جاهد يا جميل بغزوة

وأيّ جهاد غيرهن أريد

لكلّ حديث بينهن بشاشة

وكلّ قتيل بينهن شهيد

ثمة جهاد وشهادة أخريان تتبعان مشروعا داخليا يأبى إلا أن يفصح عن نفسه على هذا النحو على الرغم من المشروع الخارجي. فالعمل الفني هو عمل مجسد لهذا الشوق العالي إلى أن يعانق الإنسان إنسانيته بأبعادها الشاطئة عن مجريات الواقع وحده.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى