صفحات سوريةعزيز تبسي

عندما تكتسب المفاهيم قيمة سلعة سريعة العطب: العجز عن فهم الحركات الثورية الجديدة


عزيز تبسي

        -1-

        بطبول و صنّوج نحاسية،وبصخب فرق العراضة، إستقبلت فكرة المجتمع المدني، قبل تحويلها إلى أيديولوجيا(وعي زائف)في سوريا والبلدان العربية.صيغ المفهوم في مراكز الأبحاث الغربية على عجل في معيانة لتجربة نقابة تضامن البولونية ومبادرتها الإحتجاجية على سياسات التقشف التي تبنتها الحكومة بالتوافق مع صندوق النقد الدولي، وكذلك وفق الحاجات التعبوية للهجوم الإيديولوجي الإمبريالي على التجربة السوفياتية ونتائجها،وقذف به مشفوعاً بأختام مراكز الدراسات العديدة ليملئ فراغاً،قبل وأثناء وبعد إنهيار الإتحاد السوفياتي والمنظومة التابعة له …..في غرور ليكون مفتاحاً لبرنامج تحرري للشعوب المضطهدة.

        وساهم عجز اليسار بأدواته التحليلية ووقوعه في أسر أيديولوجيا(وعي زائف) باتت معادية للشعوب وإندفاعها الثوري لإنتزاع وتثبيت حقوقها في الحرية والعدالة، عن إنتاج مقاربة نظرية للتجربة الفاشلة والوقوف على أسبابها وسيرورتها وأفقها التاريخي،ورصد إحتمالات إنبثاق للحركات الثورية الجديدة،والتي سيكون من ضروراتها الإصطدام بالشيوعية التقليدية الرجعية،وتقويضها.

        عجز مفهوم المجتمع المدني عن إيجاد إطار فكري تفسيري لواقع هذه المجتمعات الإنتقالية،وإعتمد على أشكال من الإنتقائية التعبوية،هي من فضلات الخطط الحربية و زوائدها أكثر من كونه ذا عمق فكري يستدرج العقل إلى التأمل والتجريب والحوار،أنتج مروّجوه حالة من الاضطراب والغموض.

        والغموض الذي لم يكن يوماً من سمات الفكر الثوري التحرري،الغموض من مستلزمات الفكر الغيبي والشعوذة والسحر.

        نقدت التجربة السوفيتية وتوابعها من خاصرتها الضعيفة(غياب الحريات العامة)ومن خلالها تم العبور إلى الإقتصاد التي يسيطر عليه متحد لبيروقراطية مدنية وعسكرية لصوصية ولا أخلاقية،بعضها(بولونيا) ينفذ بحذاقة الخدم وطواعيتهم،ومنذ زمن قبل سقوطه وصفات المؤسسات المالية الدولية المسيطر عليها إمبريالياً،أنتجت من التكيّف الإقتصادي أساساً متيناً لها.وبعدهما تمت النقلة الثالثة إلى إحياء قضايا الأقليات القومية والدينية(البلقان-القوقاز)،بأنماط تفتقد للمبدئية وتندفع غريزياً بقوة ذرائعية تدميرية،تعي هدفها السياسي وتبصره.

        بوضوح:مفهوم المجتمع المدني،مفهوم قلق وغامض،وبتعبير آخر مفهوم إشكالي،لا يفسر شيئاً،ولا يصف شيئاً محدداً،له جذور قديمة في علم الإجتماع الأوروبي ومقارباته الفكرية للسلطة السياسية والدولة والمجتمع ،لكنها وبعمومها لا تتحدث عن شئ بعينه،كل فيلسوف ومفكر (من هوبز ولوك إلى ماركس وغرامشي)يتحدث عن مجتمعه المدني.

        تذكر النقاشات حول المجتمع المدني في البلدان العربية وأسئلتها باليسار الهيغلي في الجامعات الألمانية في منتصف القرن التاسع عشر،الذي حول الإنجازات الثورية للشعوب الأوروبية إلى مفاهيم مجردة،وقد رد ماركس وإنجلز ذلك إلى ضعف الحركة الديموقراطية الثورية في ألمانيا ولقوة الدولة البوليسية ورجعية سلطتها السياسية.

        في مقاربة الدكتور عبد الرزاق عيد وهو من أعيان لجان إحياء المجتمع المدني في سوريا(ويسألونك عن المجتمع المدني) ،نلمس هذا الإضطراب والقلق والتخبط،وعجز واضح في السيطرة على المفهوم الزئبقي،والذي إنتقل مع الفسحة الحوارية الضيقة التي سمحت بها الطغمة العسكرية إلى عجز حوامله،حيث تبدى فقدان سيطرتهم عليه وتوطينه في الثقافة السياسية وإعادة إنتاجه بما يوافق الحركة الديموقراطية ومشروعها.

        وطالما ذكّر الدكتور عيد بعبارة جوزف برودون”خصوبة اللامتوقع”لتتحّول عنده هروباً إلى الأمام من عجز راسخ يصعب تجاوزه،وضرب من فأل”حسن الطالع”للمستقبل،يتحقق بمجرد الخروج من النفق الكابوسي الأسود،الذي كرسه الإستبداد الطويل.

        سرعة تبني هذا المفهوم دون معاينته باتت في حكم التهور والعبث الفكري………خصوصاً عند الجماعات ذات الماضي الطويل في التعيش على نفايات الأيديولوجية السوفيتية.

        وللحقيقة لم يتبن موضوعة المجتمع المدني في سوريا مفكراً،يعي حدود كلامه ومقارباته التاريخية،تبناه مجموعة من كتاب اليوميات الصحفية،إختار معظمهم فيما مضى الموقع الوظيفي لمندوب الدعاية لسلع الأيديولوجيا السوفيتية في عهدها”البريجينيفي”الأكثر إنحطاطاً وعديم الإنجازات.وعكست بعمومها حالة التبّرم واليأس المتولدة من الأحزاب المحلية التي فاتتها معظم قطارات التغيير والتي توزعت خياراتها ومصالحها على خيارين:التواطئ المكتمل العناصر مع الطغمة العسكرية،أو التمويت المتواصل في السجون.مما ولد حالة من الفراغ الفكري والسياسي الذي شكل دافعاً لإشغاله من قوى ثورية جديدة،عجزت عن إنتاج أفكارها ومقارباتها الفكرية.

        وزاد الأمر إرباكاً حين دخلت الجماعات الإسلامية المنفتحة والمحاورة على خط تبنيه،لتخلطه تارة بالمجتمع الأهلي،وتارة بالاقتصاد المؤسس على الأوقاف الإسلامية والجمعيات الخيرية الإحسانية.

        كثيراً ما نشعر بشفقة على هذا المفهوم،الذي لم يختلف مصيره عن مصير الطفل الوحيد في عائلة العميان.

        ويمكن إعتبار موضوعة إحياء الخلافة الإسلامية،الذي أنتجته بعض من التيارات الإسلامية(حزب التحرير الإسلامي على وجه الخصوص)أكثر وضوحاً من تعبير لجان إحياء المجتمع المدني.

        ماالذي يراد إحياؤه؟المجتمع المدني.لكن ما هو المجتمع المدني،وهل هو ميت ؟؟

        يُبدّد المفهوم بين البنية الإجتماعية الرأسمالية بخصائصها الليبرالية النموذجية تارةً وهي عند الكثيرين عودة حلمية ذات سمات طفلية إلى مرحلة54-58 من تاريخ سوريا،وتارة إسترداد النقابات المهيمن عليها بوليسياً،وتارة تفعيل منظمات الدفاع عن حقوق الإنسان والمواطن،وجمعيات الدفاع عن المعتقلين وضحايا التعذيب،ومنظمات الدفاع عن حقوق المرأة وتمكينها الحقوقي والإجتماعي والسياسي….

        بعد مرور عقد من الزمن السوري الطويل،يتوجب وقفة للنقد الذاتي،وإعادة فحص وتعيين للمفهوم،وإختبار حدوده،وليس من الخطأ رميه جانباً،من يذكر اليوم الرواج الهائل لروايات كولن ولسن،وألبيرتو مورافيا،بل من يذكر اليوم الكتابات الصقيعية ل أفاناسيف وزرادوف ونيكيتن…التي كانت تحضر الثورات بفعل يشبه تحضير أرواح الموتى عند سحرة الهنود الحمر،عموم تلك الكتابات لم تحقق وظيفياً سوى دور الحطب الرطب لشعوب “قتلها البرد والجوع”.

        -2-

        إتركوا الموقد ملتهباً!!

        بضرب من تضليل أيديولوجي عملت بعض القوى السياسية على تسويق فكرة البناء الذاتي للمنظمات الديموقراطية،بعيداً عن الحزبية(التي باتت اليوم منبوذة وملعونة)وهذه تعبير عن نقلات نوعية في العمل الديموقراطي بأن تتمكن مجموعات من الشبان/الشابات من وعي اللحظة التاريخية والعمل على تفعيّلها بمبادرات ذاتية،أمر يعكس تقدم الوعي وتوسعه وعناق مع تاريخيته،لكن أن تكون القضية مفتعلة من أصولها لتحقيق غايات دعائية للحصول على غنائم المنح المالية والبعثات التدريبية والدعوات لحضور مؤتمرات،فهذا من التزييف والإنحطاط،وما فرضُ السرية والكتمان على هذه الحالات إلا لعكس هذه المخاوف،مثلاً معظم التعبيرات التنظيمية عن الإنتفاضة الشعبية الثورية أنتجتها بعض من أحزاب تقليدية مناضلة،وبعض من إنشقاقات من أحزاب أخرى.

        حسناً،لماذا التستر على تلك العلاقة،وهي علاقة شرعية ومشروعة؟ألا تحتاج الجماعات الجديدة التزود من خبرات وعلاقات وثقافة الجماعات التي سبقتها،ألم يعلم بعد أن الفعل الثوري هو فعل تراكمي،وليس ولادة من عدم.معظم التشكيلات الجديدة يقف أمامها وخلفها ومعها قيادات وكادرات من الأحزاب التقليدية،بوعي نقدي لتجاربها الآفلة:لجان التنسيق المحلية/إتحاد تنسيقيات الثورة السورية/شباب17 نيسان/الهيئة العامة للثورة السورية/المجلس الأعلى لقيادة الثورة…………

        وماذا بعد-ننتج الزبدة؟

        ليس ماءً،إنه الحليب المشبع بروح الأعشاب ونسغها مايمور منذ عام ونصف في حوجلة الإنتفاضة الشعبية الثورية.مر المجتمع السوري منذ ما قبل الإنتفاضة الشعبية الثورية،بحالة من الإصطفافات الجديدة وإعادة تشكيل بطيء للمقاربات الفكرية،التي حملت الكثير من إعادة معاينة اليقينيات وإمتحانها والمراجعات العميقة والسطحية للتاريخ القريب والبعيد والتشكيلات الإجتماعية ودورها التاريخي،ساهمت إنطلاقة الإنتفاضة18آذار2011 بتسريع حسم للعديد من المقاربات الفقيرة وإنتاج الجديد من الخيارات الثورية وبلورتها،وطرح جانباً الكثير من ماضي المقاربات الفكرية والسياسية التي إستهلكت أوقاتاً طويلة من النقاشات والجدالات العقيمة،من مثل المطولات في الإصلاح السياسي التي كانت تتوخاها عموم التشكيلات السياسية قبل وبعدحزيران2000 من السلطة “الجديدة”.لكن،وبعد شهر على إنطلاقة الإنتفاضة حسم خيار الإصلاح السياسي وتبينت حدوده التضليلية،والذي إستغرق الحركة الديموقراطية لثلاث عقود خلت،نار الإنتفاضة أتت على يابس الفكر السياسي المحلي ويستمر لهيبها……………..

        حلب تموز2012

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى