صفحات سورية

عنف السلطة وإرهابها


هيثم وقاف

العنف ليس شأناً خاصاً بمجال السيطرة. فهو ينتمي أيضاً إلى مجال السلطة. لكنه يختلف في كل من المجالين باختلافهما. وأساس الاختلاف هو مفهوم “الشرعية” فالعنف في علاقة السلطة “شرعي” وتسوغه القيم والاعراف والقوانين. وهو يستمد شرعيته في الأصل من شرعية الأهداف التي تتوخاها السلطة، كما من الضرورات المعترف بها اجتماعياً، والتي تحتم في لحظة ما استخدام هذه الوسيلة الكريهة. وعلى هذا الأساس يمكننا تفهم الجواب الذي قدمه ماكس فيبير عن سؤاله “ما الدولة؟” ب”  أنها حق الاستئثار بممارسة العنف المادي المشروع”. أما العنف في إطار علاقة السيطرة، فهو بالطبع عنف لا شرعي، أو هو استخدام للقوة بغير ما وجه حق. ذلك لأنه يهدف إلى إدامة  هذه العلاقة القائمة أصلاً على القهر والاستغلال. فإذا كانت القوة في علاقة السيطرة تتأسس على الغصب وهي ضمانة لاستمراره، فإنها في علاقة السلطة تتأسس على الحق وهي ضمانة للحق نفسه” وهكذا يتحدد مفهوم العنف السياسي بدقة بأنه استخدام للقوة ضد الأشخاص وأموالهم، أفراداً أو جماعات، بقصد تدميرهم، بصورة أو بأخرى”(1)

ولو أردنا أن نذهب أبعد من ذلك، لقلنا أن العنف يستغرق، كل صور الاعتداء على الآخر إيذاءً، أو إنكاراً، او تجاهلاً، أو بتعبير فوكو”..إرغاماً وإلزاماً للآخر بفعل ما لا يرغب فيه ومالم يختره” عندئذ سنجد أن العنف يتغلغل أيضاً في ثنايا المجتمعات الديموقراطية الحديثة. فإذا كان العنف في المجتمعات التقليدية صريحاً، فجاً، جسدياً، مادياً، فقد غدا في المجتمعات الحديثة خفياً، ناعماً، كيانياً، معنوياً. من هنا يصعب الاطمئنان إلى استخدام العنف كمعيار حاسم للتمييز بين علاقات السيطرة وعلاقات السلطة، ناهيك عن استخدامه للتمييز بين صور السيطرة المختلفة قديمها وحديثها. .

الارهاب في النظام الشمولي:

يمثل العنف وسيلة للقضاء على المعارضة في مختلف نظم السيطرة. وقد يمتد ليطال كل شكل من أشكال النشاط المدني المستقل. ويبالغ فيه في اللحظات الحرجة التي تتعرض فيها مسألة السيطرة للخطر. لكن فلسفة العنف في الأنظمة الشمولية تذهب أبعد من ذلك. فهي ترفع العنف إلى مرتبة المبدأ الناظم لحركتها، وتخلع عليه صفات التعالي والتقديس شأن أفكارها الجوهرية.

إننا نسميه إرهاباً، لا لجهة الشمول، أوالقسوة المفرطة، أو الاعتباط وعدم التمييز فحسب.بل كذلك لأنه يسمو ليصبح صنو العقيدة، ومقدساً بقدسيتها. وهو بالتالي خارج ممكنات المساءلة، و”المفكر فيه”، أو هو داخل مجال”المستحيل التفكير فيه”. وعنده تلتقي حركات إيديولوجية “متضادة” كحركة القاعدة الاسلامية، الحركة الشيوعية(الستالينية)، البعث في العراق وسوريا، الحركة النازية- الفاشية. والاختلاف بينها على المستوى السياسي والأيديولوجي لا يمنع توافقها على المستوى السوسيولوجي. ذلك لأنها تتقاطع حول أمرين أساسيين على الأقل:1-المشروع الطوباوي2-مركزية العنف وتعاليه وعدم تقييده بأية ضوابط إنسانية معتبرة.

إن القضاء على كل نشاط مستقل لا يمثل بالنسبة للسلطة التوتاليتارية سوى الخطوة الأولى نحو “صياغة” المجتمع قسرياً. وكأي صياغة قسرية فإنها تقوم على التماثل، لاعلى التنوع والاختلاف. على النحن، لا على الأنا الفردي، على الجماهير المناضلة، أو النقية عرقياً، أو المؤمنة الخالصة لوجه الله. إنها”صياغة” لا تكتفي بمحاربة الفردانية وازدرائها، بل تتمدد لتطال الفرد في عزلته. فالفرد المعتزل ليس سلبياً فقط، بل هو في منطوقها شخص مقاوم “بالقوة” ولايقل خطراً عن المقاوم “بالفعل”. إنه إمكان مفتوح للرفض لا يعرف مداه، ولا تعرف طرائق وكيفيات تجليه واقعياً. ولذلك من الواجب الاحتياط له، ومراقبته، وإبقاؤه تحت السيطرة.إن الولاء التام غير المنقوص، يعني الانخراط الكلي والحتمي في الحركة، أو في مشروع التغيير “الثوري”، أو في الجهاد من أجل إحقاق الحق وإزهاق الباطل. لذلك لا ضرورة لأن نتساءل ماذا يبقي هذا النظام من الحرية الفردية، طالما انها تقع في باب لزوم مالا يلزم. وبالمقارنة مع صور السيطرة القديمة تشير حنة أرندت إلى أن” السلطة، إذا نظرنا إليها من مصدرها في السلطة الرومانية، وأي شكل اتخذت، تنطوي دوماً على تحديد الحرية، ولا تعني البتة القضاء عليها. في حين أن السيطرة التوتاليتارية إنما تنحو إلى إلغاء الحرية الموصوفة، بل تميل إلى القضاء على كل ظاهرة عفوية بشرية بعامة، ولا تكتفي بتقليص الحرية، أياً كان مبلغ الاستبداد في ذلك”(2)

الحركة التصحيحية ومسار العنف:

منذ انقلاب عام 1970 ،الذي استغرق إعداده عامين كاملين، بدأ التحول الأعمق، لسلطة البعث في سوريا. وصار العنف هو التجلي الأبرز لهذه السلطة. ومنذ مجزرة حماه تأكد الجميع، بالملموس، أن أقصى درجات العنف يمكن أن تمارس كتعبير صريح عن أقصى درجات السلطة. بذلك ينغلق الباب على ما أشرنا إليه سابقاً من “عنف مشروع” بالمعنى الفيبري. وينفتح باب آخر على العنف في صورته التوتاليتارية.

لقد كان حافظ الأسد رجلاً طموحاً، مأخوذاً بسحر السلطة وقوة إغرائها. ولعلها كانت بالنسبة إليه، أطيب اللذاذات وأعظمها. لكن الأهم من ذلك، أنه كان صاحب مشروع تسلطي كبير. يقوم في جوهره على تطويع وإكراه الآخرين وفقاً لرغباته واختياراته. كان يفكر في التأسيس لحكم، لا يكون معه مسؤولاً أمام أحد. يصول ويجول في سلطنته: يأمر وينهى، يراقب ويعاقب، يتحكم في كل شأن. ومن بعده يرث أبناؤه البلاد والعباد. كان يطمح إلى حكم، هو بتعبير حنة أرندت هو “حكم اللا أحد” والذي “يعتبر وبكل وضوح الحكم الأكثر طغياناً” (3).

لقد اعتمد العنف وسيلة رئيسة للحكم. ووثق به ثقة مطلقة، خاصة وأنه اختبر نجاعته عبر الانقلابات التي شارك فيها. ولأن العنف يستمد قوته من أدواته فقد حرص، وعلى نحو لا سابق له في سوريا، أن يوسع ويكّثر ويطوّر،أجهزة القمع بكل ما يرتبط بها من شبكات المخبرين والسجون ومراكز الاعتقال والتوقيف.

في بداية الثمانينات، وعلى خلفية الصراع مع الأخوان المسلمين، شهد المجتمع السوري التطبيق الحيّ لاستراتيجيات القتل والاعتقال والتعذيب والتخوين والترهيب. وكان المغزى السياسي لتلك الاستراتيجيات، يتجاوز تحقيق الهدف المعلن. وهو القضاء على حركة الاخوان. كان المطلوب فعلياً، هو تدجين المجتمع كله، والهيمنة التامة عليه مرة واحدة وإلى الأبد!! بحيث يستحيل التفكير لاحقاً، بمشاريع بديلة عن النظام القائم. هذه الاستراتيجيات العنفية، تحركت كما هي العادة تحت غطاء ما يسمى الايديولوجية القومية المناهضة للغرب الامبريالي والرجعية العربية، ومرتكزاتهما الداخلية. وعندما تحقق الانتصار الدموي على حركة الاخوان، تمّ تمجيد العنف وتطويبه كنهج نهائي في مواجهة الآخر الذي يدعيّ حق الكلام.

اليوم تعتبر تلك المجازر التي ارتكبت في حماه وحلب وجسر الشغور وتدمر، بمثابة بروفات أولية لهذه المجزرة المفتوحة، والممتدة على مساحة الوطن كله. لقد بلغت السلطة أقصى درجات انحطاطها،عندما أطلقت العنان للعنف، ودعت صراحة عبر أبواقها ورموزها وإعلامها، إلى استخدام الحدّ الأقصى منه، بدون أية روادع إنسانية أو أخلاقية أو قانونية. وكأي سلطة فاشية صار الارهاب السافر سمتها المميزة.

إذا حاولنا المقارنة بين العنف المستخدم في بداية الثمانينات، وبين العنف المطبق اليوم. جاز لنا القول أن العنف آنذاك كان عنفاً منضبطاً، توخى الوصول إلى أهداف محددة بدقة. لكن عنف اليوم هو عنف تدميري همجي، لا يمكن أن يكون فعالاً في الوصول إلى غايات سياسية محددة، من شأنها أن تفسره، ناهيك عن أن تبرره لاحقاً.

لاشك أن الدائرة الضيقة والمغلقة للحكم، تعي أنه بات من المستحيل العودة إلى الوراء. وأن النصر المؤزر في الثمانينات، والذي استلهمت مثاله في مواجهة الثورة،لن يستعاد من جديد. ربما أقصى ما يطمح إليه هؤلاء اليوم،على أرضية تخريب البلاد وقتل العباد، هو لبننة الصراع الدائر، ومدّه إن أمكن إلى خارج الحدود، والوصول معه، لاحقاً، إلى اتفاق ما على قاعدة لا غالب ولا مغلوب. آخذين في اعتبارهم دعم حلفائهم الاقليميين والدوليين، وتقاعس المجتمع الدولي عن نصرة الثورة السورية، ومطمئنين إلى فكرة أن الاقليات ستمعن في انعزالها عن الثورة أكثر فأكثر كلما اشتدت وطأة الحرب، مقدمة أمنها وأمانها على مطلب الحرية الجامع.

(1) منطق السلطة- ناصيف نصار- دار أمواج ص/378 ط2.

(2) أسس التوتاليتارية- حنة أرندت- ترجمة: أنطوان أبو زيد- دار الساقي ص/160

(3) في العنف- حنة أرندت – ترجمة ابراهيم العريس – دار الساقي ص/34

http://www.therepublicgs.net/?p=796

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى