صفحات العالم

عن السوريين الهاربين من لبنان إلى سوريا!

 

يوسف بزي

قال المواطن السوري لإحدى المحطات التلفزيونية اللبنانية، وهو على أهبة الخروج من لبنان عائداً إلى سوريا بعد فترة لجوء قصيرة: “سأعود إلى بلدي. هذا أفضل من البقاء في لبنان. ليس لديكم كهرباء ولا ماء والخدمات سيئة والأسعار مرتفعة جداً. في سوريا، رغم الحرب، الأمور أفضل”. كان يدلي بتصريحه هذا مبتسماً، ومستغرباً ما اكتشفه عن الحياة في لبنان، وهو جالس في سيارته قرب المعبر الحدودي منتظراً دوره لإجراء معاملات خروجه، فيما الذين مثله، على وشك “الفرار” من لبنان عائدين إلى سوريا، كانوا كثيرين، تلك الكثرة التي شاهدناها قبل أشهر وهم ينزحون بالاتجاه المعاكس، نحو لبنان.

يكشف ذاك التصريح، كما الكثير من الملاحظات التي يبديها الأصدقاء السوريون الذين أقاموا في لبنان أو زاروه، عن تلك التحولات الكثيرة التي أصابت لبنان وصوّرته وبدّلت من أحواله. فهذا البلد الذي كان، على الأقل، في مخيلة الكثير من السوريين، يتقدّم خطوة أو أكثر عنهم، في مجالات عدة، اقتصادية، تكنولوجية، خدمات سياحية، تعليم، مستوى معيشي استهلاكي… إلخ، بدا أن ذلك كله ليس صحيحاً تماماً، أو أنه صار من الماضي، ليس فقط بسبب ما شهدته سوريا نفسها في العقدين المنصرمين من نشاط تحديثي وانفتاح نسبي، ولا فقط بسبب آثار “العولمة” التي اجتازت كل حدود، لكن أيضاً بسبب التدهور الأكيد والمستمر الذي ميّز الحال اللبنانية طوال العقد الأخير. وهو تدهور بنيوي في نظامه السياسي وفي انقلاباته الاجتماعية الكبرى، وفي نظام القيم والثقافة أساساً.

بالطبع، ليست سوريا أفضل حالاً، لكن من المؤكد أن لبنان ما عاد ذاك البلد الذي كانه. وأحسن مثال على ذلك، أن لبنان أنشأ شبكة الإنترنت قبل دخول هذه التكنولوجيا إلى سوريا، كذلك منظومة الهاتف الخلوي.. نراه اليوم بأعين السوريين بلداً متخلّفاً في هذا الميدان. فحتى تلك المدن التي يحاصرها الجيش النظامي ويدمرها ما زالت تتمتع بمنظومة اتصال وتواصل تكنولوجي توازي أو تتفوق على ما هي عليه في أي مدينة لبنانية.

لبنان مثلاً من الدول القليلة، النادرة، التي تفتقر كلياً إلى نظام مواصلات عامة ونقل عام، فيما ما زال هكذا نظام يعمل في سوريا رغم كل المخاطر والأضرار التي أصابته على مدى العامين المنصرمين. كذلك حال الكهرباء وشبكة توزيع المياه الصالحة للشرب.

المعيار الأهم هو تنموي. كان الفقر في لبنان محدوداً وقابلاً للتعيين والاحتواء، أو هو أقل اتساعاً نسبة إلى حجم الطبقة الوسطى. كان فقراً “شاذّاً” بالقياس إلى إصابة البحبوحة القسم الأكبر من السكان. فيما الفقر السوري كان فاقعاً أو غالباً، وهو يراوح بين الإدقاع والكفاف الريفي، ويصيب نسبة كبيرة من السكان. لم تتحسن أحوال السوريين بالطبع، بل هي على الأعم تفاقمت وازدادت بؤساً في الأعوام الأخيرة مع سياسات النهب السلطوي المنظم. ففي تقرير للتنمية البشرية، الصادر عن الأمم المتحدة، ورد أن أكثر من ستة ملايين سوري اضطروا منذ العام 1999 إلى هجرة أريافهم وأراضيهم الزراعية البائرة واللجوء إلى الأحزمة العشوائية المتنامية حول المدن، وتدفق قسم كبير منهم نحو البلدان المجاورة بحثاً عن عمل من دون حيازتهم للتعليم الجيد أو المهارات أو الخبرات والكفاءات. كما شهدت سوريا منذ تلك الفترة نمو طبقة مافيوية ضيقة، شديدة الثراء، بعد استيلائها على المقدرات الوطنية.

والحال أن لبنان بدوره انحرف كثيراً عن مساره التنموي ويتلاقى الآن مع المسار السوري ذاته، فقراً وفساداً وعشوائية وتشوّهاً اقتصادياً فادحاً. ويمكن القول إن “نظام الممانعة” (السوري اللبناني) الذي بطش بمشروع الدولة اللبنانية، كما بخطط إعادة البناء والإعمار، وأرسى الدويلات المسلحة، وأوقع لبنان في أكثر من حرب مدمرة (كلفة حرب 2006 وحدها بلغت عشرة مليارات دولار أميركي خسائر مباشرة وأكثر من 25 مليار دولار خسائر غير مباشرة). عدا عن تحويل لبنان إلى بيئة طاردة للاستثمار والسياحة، وتغليب ثقافة “الشبيحة” و”التشبيح” والتسلّط والانتفاع في الإدارة وفي الإنتاج والوظيفة، وفي أخلاق التعامل.

ومنذ أيار 2008 بات لبنان بلداً داخلياً، بمعنى ضعف صلاته بالاقتصاد العالمي وتراجع أدواره الاقتصادية الإقليمية، وخسارته الفادحة لميزاته التفاضلية. والأسوأ هو “انحطاط” الدولة وشللها، انعكاساً لـ”انحطاط” الاجتماع اللبناني بعصبيات طوائفية ومذهبية مستنفرة وعلى وشك الصدام الشامل.

المواطن السوري الذي كان لا يثق بالدواء المصنع محلياً، معتمداً على الصيدليات اللبنانية التي كانت تنتشر على الطريق الحدودية، بات لا يطمئن لهذا الدواء اللبناني المغشوش، كذا حاله في السكن والمأكل وخدمات الكهرباء والماء والهاتف والإنترنت والمواصلات وكلفة المعيشة اللامنطقية وغلائها غير المبرر. هكذا وجد نفسه مضطراً لتكذيب ما ظنه في لبنان. أما المواطن اللبناني فاكتشف بدوره أن “حقيقة” الامتيازات التي كان ينعم بها مقارنة مع العيش السوري، باتت “خرافة” لا يُعتدّ بها.

هكذا نجح “نظام الممانعة” في نشر المساواة بين لبنان وسوريا. مساواة في البؤس والفساد والخراب، مع فارق وحيد، أن الشعب السوري هو اليوم ينتفض ويثور على نظامه، فيما اللبنانيون مرشحون للانتفاض والانقضاض على بعضهم البعض.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى