صفحات الرأيعبدالله أمين الحلاق

عن الفردية العربية وموسم الهجرة إلى الجموع


عبدالله أمين الحلاق *

يتيح الربيع العربي بروز إشكاليات وحوارات وأفكار ما كانت لتطفو على سطح السجالات السياسية والفكرية اليوم، لو أن الأنظمة بقيت هانئة لا يقض مضجعها التفكير باحتمال أن تهب الشعوب في وجهها، وأن تبدأ الأصنام والتماثيل بالتهاوي في بلدان الصمت العربية. لكن، وبما أن أنظمة عربية كثيرة لم تستفق بعد على أنها باتت مأزومة وأن مسألة وجودها وبقاء رموزها في السلطة بات على المحك، فإنها لم تنِ تستعيد تقاليد وطقوس كاريكاتورية تظن أن مفعولها الإعلامي لا يزال على قيد الفائدة، منها على سبيل المثال مسيرات التأييد والتهليل والهتاف للأخ الأكبر والانبطاح تحت صوره والسجود عليها في مشاهد هي إلى الفاشية أقرب، فاشية النظام العربي الرسمي ورد فعل الجموع عليها.

وبما أن جموع التأييد «العفوية» تقع على الضفة الأخرى من جموع واحتجاجات وتظاهرات شعبية عفوية (من دون مزدوجين) معارضة للسجود والركوع وتقديم فروض الطاعة، فإن ثمة خلافات ومقاربات يتيحها كل من الجمعين، جمع المؤيدين للاستبداد والعودة القهقرى إلى المواضي، وجموع الانتفاضات والتأسيس بشكل لا إرادي للمستقبل، بناء على مسألتي الفردية والمواطنية.

هكذا، وعلى سبيل المثال، كان محمد البوعزيزي سيُفقد انتحاره كل المعنى الذي اختزنه فعل الاحتراق لو أنه أحرق نفسه ليفتدي الحاكم العربي وفق شعار «بالروح بالدم نفديك…»، وكان سيضاف رقماً لا أكثر إلى قائمة مؤيدي الأنظمة وأبواقها ممن يفتدونها كلامياً وإعلامياً (ولا نرغب أن يفهم من كلامنا هذا أنه يدعو إلى الانتحار والموت تحت أي مبرر أو داعٍ).

لكن البوعزيزي الذي كان احتراقه فاتحة للربيع العربي، ما أحرق نفسه إلا بعد أن سدت كل أبواب الأمل التي كانت ستميزه، لو فتحت بوجهه على مصراعيها، عن الجموع المحرومة مما يبحث عنه المنتفضون العرب اليوم، أي حقهم في الحياة الكريمة، وبأن يكونوا مواطنين بكامل أهليتهم، وأفراداً لا أرقاماً في جموع لا تتحرك من سبات وركود استكانتها للحاكم إلا في مهرجانات الولاء والتأييد التي تتكرر كلما أرادوا تجديد البيعة له عبر استفتاءات النسب الخيالية، مع غياب أبسط حقوق المواطنة وما تخنزنه من أنسنة تحرمهم منها تلكم الطقوس والأجواء الربانية.

إن حقوق الفرد – المواطن هي فرض عين يحتم على الدولة أن تكفلها له، تقابلها واجبات عليه تأديتها تجاه المجتمع المحكوم من الدولة المعنية والملزمة بكفالة تلك الحقوق، غير أن تلك الواجبات تغوّلت وأفضت إلى سحق الفرد ليتحول مجرد رقم يضاف إلى الملايين العربية من جموع اللامواطنين المطلوب منهم واجب الولاء تجاه اللادولة… أو تجاه الدولة بالمعنى التسلطي لا بالمعنى الحداثي لمفهوم الدولة. هكذا بات قضم المواطنة ومسخها إلى جموع متوترة مغلوباً على أمرها من طبائع الأوتوقراطيات العربية السابقة على الإجماع والسياسة الحديثين… بل بات إحراز المواطنة وتالياً، الفردية المصانة حقوقها كاملة، من سمات إجماع وسياسة ينافيان منظومات سياسية متآكلة كالتي تنتفض الشعوب العربية في مواجهتها اليوم.

وإذا ما قاربنا الموضوع من خلال تجارب الآخرين التي نجحت واستقرت، فإننا سنجد الغرب مثالاً بالغ الدقة على ذلك، على رغم ما يفصل عالمنا العربي عن نماذج استواء الدول – الأمم على رأس تلك المجتمعات وما ستكابده مجتمعاتنا من طول الأمد وعسر المخاضات لولادة الاستقرار. فهناك، تبدو حقوق المواطنة وحدود الدولة مرسومة بما لا يدع مجالاً لتلك الأخيرة للتغول والمد على ما هو حق مكتسب نظّر له منظرو التنوير والنهضة والحداثة وقامت على أساسه أفكار الثورة الفرنسية التي غدت مثالاً في الانتقال نحو الفردية – المواطنية في أوروبا وفي العالم كله، رغم الانزياحات المحدودة التي قد تحدث، وهي حدثت فعلاً، في مسيرة الديموقراطيات الليبرالية الغربية والفرنسية منها على وجه التحديد.

لكن العالم العربي يعيش على بعد مسافات شاسعة من تلك النماذج، وإن كان يقدم اليوم مشاهد تقول إن ما تحقق هناك يمكن أن يتحقق هنا، وبضريبة ومرحلة انتقالية صعبة كالتي يعيشها أي مجتمع عند الانتقال من نظام واحدي إلى نظام تعددي. أضف أن الجموع المعارضة التي تملأ الشوارع العربية اليوم ما تحركت إلا لكون كل متظاهر في عدادها يبحث عن حق الاعتراف به، أي ألا يكون نقطة هامشية في دفتر الأنظمة كما كان عبر عقود، وهؤلاء الناس البسطاء الآتون من خلفيات وبيئات فقيرة وطبقات وسطى غالباً، هم أفراد إلى درجة كبيرة، وإن لم يتعلموا في أكاديميات علوم الاجتماع والسياسة معنى تلك المفاهيم، فهُم بشجاعتهم وتحويلهم الميادين العربية إلى ساحات لمواجهة ثقافة الأنظمة وجموعها، إنما يؤسسون لحالة مختلفة عن السائدة منذ أول انقلاب عسكري بعد هزيمة فلسطين، والتي بدأت تترسخ معها كلمات مثل «الجماهير والأمة والزعيم والقضية المركزية» وغير ذلك من مهازل أتاحت للنظم العربية سَحل الفرد على مذبح تلك الأوهام.

* كاتب سوري

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى