صفحات مميزة

عن بقاء الأسد في الفترة الانتقالية –مقالات مختارة-

 

 

ممنوع السقوط، ممنوع التدخّل! القضية السورية في مسار عالمي/ ماهر مسعود

تقوم المعادلة السياسية المُثبَّتة دولياً في سوريا منذ بداية الثورة حتى اليوم على محورين: الأول هو منع إسقاط الأسد بالقوة الشعبية الداخلية مهما كان نوعها؛ سلمية كانت أم عسكرية، والثاني هو منع إسقاطه خارجياً وعبر التدخُّل بالقوة العسكرية مهما تجاوز نظامه خطوطاً حمراء، ومهما ارتكب من مجازر ومحارق وبراميل. لا بل إن التدخل العسكري الحقيقي الذي حصل، كان هو التدخل لمنع إسقاطه.

اندرجت تلك المعادلة في سياق الربيع العربي بشكلها الأولي بعد إسقاط القذافي بالقوة، ودخول روسيا على خط الثورات لتثأر من استغفال الغرب لها وعدم إعطائها حصتها في ليبيا، كما لإدراكها أن نجاح الثورات عبر الإسقاط السلمي الداخلي أو التدخل الخارجي قد يتمدد إلى محيطها، وربما ديارها الواقعة تحت لعبة «الديكتوقراطية» التي مثَّلَها تناوب بوتين ومدفيدف على السلطة منذ مايو/أيار عام 2000، حيث أن مسار بوتين منذ استلامه الأول للسلطة حتى اليوم هو السيطرة على جميع مفاصل الدولة حرفياً، ووضع أزلامه وتابعيه على رأس مؤسسات الجيش والأمن والإعلام، والتحكم بمافيا الاقتصاد، إضافة لتصفية رؤوس المعارضة بالقتل أو السجن أو المنفى كما حصل مع المعارض الشهير بوريس نيمتسوف، أو الملياردير الروسي المعارض ميخائيل خودوركوفسكي وآخرين. والمرعب في الأمر -كما يصفه أحد المعارضين الروس- هو أنه لم يبقى أي بديل سياسي حقيقي عن بوتين لحكم روسيا، وهذا بالضبط ما تقوم عليه السياسة البوتينية، مثلما قامت عليه سياسة الأسدين في سوريا، أي منع السياسة بوصفها صراعاً سلمياً لتداول السلطة.

من المعروف أن ترك ليبيا السريع لتتعفن في فوضاها تم تحميله على ظهر تدخل فاشل سابق هو الاحتلال الأمريكي للعراق، فاجتمعت في المشهد الدولي ثلاث صور مخيفة، جميعها جاءت في مصلحة الأسد والروس وجميع الأنظمة المضادة للثورات: صورة التدخل الأمريكي في العراق في الخلفية، وصورة الوضع الليبي الكارثي في المقدمة، تقف بينهما صورة مصر بعد فوز الإخوان المسلمين في قيادتها، و«طحشتهم» باتجاه تديين الدولة وأخونتها. ومن تركيب هذه الصور بدأ انحدار الربيع العربي في المشهد الدولي (المدني والسياسي) نحو أمرين: الخوف من الأسلمة وتكرار «الثورة الإسلامية في إيران» في حال انتصرت الثورات، والخوف من الإسقاط بالقوة بما يكرر الفشل الأمريكي في العراق ثم الدولي في ليبيا، لتؤول الأمور نحو بداية المتلازمة الروسية حول سيادة الدول التي سادت أيام الحرب الباردة، وسقوط مبدأ التدخل الإنساني الذي ساد بعدها، وصعود صوت اليسار المناوئ للتدخل و«الامبريالية» في الشرق والغرب، ثم تَتوَّجَ كل هذا بانقلاب السيسي وبداية الانحياز الدولي نحو الرؤية الروسية لنتائج الثورات.

صعود روسيا في الصراع الدولي كان بمثابة المنجاة لعدد كبير جداً من الدول، مختلفة في المصالح ومتباينة في الرؤى، لكنها سعيدة بالنتائج. فأمريكا الأوبامية جاء من يريحها من عبء التدخل وحتى الضغط باتجاهه، كما جاء من ترمي عليه الحمل الأخلاقي في دعم الأسد الذي ترغب هي بدعمه وتغطيته، ولذلك كان الفيتو الروسي أشبه بالهدية الرائعة والمجانية لأمريكا. أما السعودية وإيران فقد كانا يهللان معاً، مرة لإيقاف الربيع العربي الذي كان في طور التوسع والعدوى والتهديد الديموقراطي، ومرة لاستغلال الثورات في تحقيق أعلى مستوى من التدخل والحرب بالوكالة، فجاء الدعم السعودي والإماراتي لانقلاب السيسي لاحقاً للدعم الإيراني الهائل لبشار الأسد، ومختلفاً عنه كماً وكيفاً وفي كل شيء، ما عدا الهدف الأخير في حماية الديكتاتوريات بوصفها نوعاً من الحماية الاستباقية للذات.

كان عام 2013 هو عام الانقلاب الأكبر ضد الثورات، والبداية المرعية دولياً للثورات المضادة، فبعد الامتصاص العربي والدولي لموجة الثورات التي وصلت أقصى مداها في العام 2012، حصلت في العام 2013 ثلاث ضربات قاصمة للثورات، كانت كفيلة بإعدام أي أفق ديموقراطي للمنطقة على المدى القريب والمتوسط بأقل تقدير، وهي:

1- استغلالُ الاحتجاجات الشعبية الهائلة ضد الإخوان المسلمين في مصر، وانقلابُ العسكر المصري بقيادة السيسي على الرئيس الشرعي المنتخب ديموقراطياً، بدعم سعودي إماراتي وتنسيق أمريكي.

2- تجاوز الأسد للخط الأحمر الأمريكي وإمحائه باستخدام الأسلحة الكيماوية، لتبدأ بعده الصفقة الكيماوية التي سمحت ببداية التنسيق الروسي الأمريكي الإسرائيلي، والتي أعطت روسيا مجمل مخرجات الحل في سوريا، وأعطت الأسد ضوءً أخضر لإبادة السوريين وإبادة الثورة دون محاسبة، ليبدأ نهاية العام نفسه ظهورُ داعش الذي أعلن عن نفسه عام 2014، وتحويل أنظار العالم من القضاء على تنظيم الأسد إلى القضاء على تنظيم داعش والتنظيمات الإرهابية الأخرى، تلك التي لاقت ترويجاً إعلامياً هائلاً بِعَدِّها بديلاً عن الأسد. وبالفعل منذ عام 2013 بدأ تصاعد عنف الإسلام السلفي الجهادي يتناسب طرداً مع تصاعد الدعاية الإعلامية الدولية الكبرى له؛ وإن كان من موقع الخصم والعدو، بينما يتناسب عكساً مع ضعف الثورة بجميع مكوناتها المدنية والعسكرية والسياسية داخل سوريا وخارجها.

3- بداية المفاوضات السرية الأمريكية/ الإيرانية في عُمان، التي ترافقت مع وصول روحاني لسُدَّة الرئاسة في إيران، والتي كان جوهرها يقوم على تخلي إيران المشروط عن برنامجها النووي مقابل الاعتراف الأوبامي بالتمدد الإقليمي لإيران وضمان عدم إزاحة الأسد ورفع العقوبات الاقتصادية الغربية التدريجي عن إيران.

تلك الثلاثية التي حصلت عام 2013 ثبَّتت مجموعة من النتائج، كان من الصعب؛ إن لم يكن من المستحيل، تغييرها. فبالمعنى الإسرائيلي والغربي عموماً، تم التخلي عن خطرين كبيرين هما السلاح الكيماوي السوري والنووي الإيراني، وهو ما يصب في أمن إسرائيل ويفتح شهية الدول الغربية للاستثمار الاقتصادي في الأسواق الإيرانية الواعدة، ومن جهة أمريكا، الأوبامية وقتها، كان ذلك يعني من ضمن ما يعنيه، ليس التفرغ للصين وإكمال وعود أوباما بالانسحاب من المنطقة فحسب، بل ترك التوترات السنية/ الشيعية التي بدأت بالوضوح والسطوع أكثر من أي وقت مضى، لتستنزف كلاً من إيران والسعودية معاً، إضافة للدول الواقعة في محور الصراع، وتجعل من كلا البلدين الغنيين بالنفط والموارد، أكثر مرونة في تقديم التنازلات؛ لأمريكا أساساً ولكن للغرب وروسيا والصين أيضاً، وأكثر حاجة للتغطية الدولية على حروبهما بالأصالة أو بالوكالة في المنطقة برمتهما، ولذلك كانت تصريحات أوباما تركز على احتمال بقاء الحروب في المنطقة لثلاثين عاماً قادمة.

بالمعنى الغربي أيضاً، كانت التجربة المصرية القصيرة مع الإخوان المسلمين كافية لزيادة حُمّى الإسلاموفوبيا وزيادة المخاوف من مخرجات الثورات، فكانت الموافقة الضمنية ثم الصريحة على انقلاب السيسي بمثابة نقطة حاسمة لتفضيل العسكر على الإسلاميين، حيث بدأت فكرة الاستثناء العربي من موجات الديموقراطية في العالم، وهي الفكرة التي كانت سائدة قبل عام 2011 في مجمل مراكز البحث الغربية، بالعودة للحياة والنقاش بعد أن غيَّبها انبثاق الربيع العربي المفاجئ ووعوده الأولى بتجاوز ثنائية العسكر والإسلاميين نحو ديموقراطية حقيقية.

المكسب الروسي بعد عام 2013 كان مضاعفاً، فإذا كانت روسيا البوتينية قد تلقت العديد من الخسائر والصفعات الاقتصادية عبر العقوبات الغربية إثرَ غزوتها في أوكرانيا في الشهر الثاني لعام 2014 واحتلالها لشبه جزيرة القرم، فإن ذلك لم يمنع الانتصار الجوهري لحقيقة استراتيجية كانت روسيا قد خسرتها منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، وهي عودة مبدأ احترام سيادة الدول القائم على لعبة التوازن الأمني والتلازم النووي بين روسيا وأمريكا الذي كان سائداً أيام الحرب الباردة، وبداية نهاية مبادئ حقوق الإنسان وإمكانية التدخل الإنساني الذي ساد بعدها، وهذا بالمجمل يعني العودة لسلطة الدولة مقابل سلطة المجتمعات المدنية/السياسية، والعودة لأولوية الأمن على الحريات، وأفضلية السيادة على السياسة، وتقدم أسوار الدول القومية على انفتاح المجتمعات المعولم، وأخيراً سيادة التنظير الجيوسياسي القائم على رؤية البُنى الكلية؛ «مؤسسات الدولة» أجهزة المخابرات، حجم الجيوش ومعداتها.. إلخ، على التحليل الاجتماعي السياسي الذي يهتم بحركة الشعوب ويستند إليها بدل النخب الحاكمة، ويستند إلى قوى المجتمعات الحيوية بدل البنى المغلقة، وديناميكية التغيير من تحت بدل ستاتيكية التحكم في التغيير من فوق.

منذ عام 2013 أيضاً بدأت مفاعيل المكسب الروسي، وتحته الإيراني ثم الأسدي، تنتقل بخطوات متدرجة ومتصاعدة نحو مختلف دول العالم، فصعود الإرهاب غير المنظم للتنظيمات صعَّد معه الإرهاب المنظم للدول عبر سنّ قوانين مكافحة الإرهاب التي هي بمثابة البديل عن إعلان حالة الطوارئ، أو الشريكة لها في أحيان أخرى، كما أن عدوى الثورات الديموقراطية التي بدأت بالانتقال إلى وول ستريت ولندن بعد عام 2011، انقلبت إلى عدوى الحاجة للقوة والتسلط والحزم التي مثَّلها بوتين وغيّبها التردد الأوباموي، وليس بعيداً عن نتائج ذلك ما حصل في السنوات الماضية من صعود اليمين الأوروبي والأمريكي، ليصل إلى فوز دونالد ترامب ووصول اليمين الأوروبي إلى نتائج غير مسبوقة منذ الحرب العالمية الثانية. كما أنه ليس بعيداً عن ذلك أيضاً، انقلاب الخط التركي الصاعد سابقاً نحو المزيد من الديموقراطية والمدنية والتصالح مع الأكراد و«الصفر مشاكل»، إلى الانحدار الصاروخي نحو التسلط الأقرب للنمط البوتيني والخراب الكلي للعلاقة مع الأكراد والاقتراب من «الصفر ديموقراطية» الحاصل اليوم.

نتائج الفيتو الروسي الذي حمى شرعية الأسد في الأمم المتحدة حصدته روسيا عبر التدخل العسكري «الشرعي» في سوريا في أيلول 2015، طالما أنه بطلب من حكومة «شرعية» تحت سقف الأمم المتحدة، وبذلك أصبحت سوريا والشعب السوري عبرةً لمن يعتبر من شعوب المنطقة، والعالم أيضاً، فالرسالة الواضحة والمعممة للشعوب والأنظمة الحاكمة معاً، هي أنه ليس على الطغاة ومجرمي الحرب سوى التنسيق مع قوة عظمى في مجلس الأمن إن أرادوا ارتكاب المجازر والإبادة الجماعية بحق شعوبهم، وأنه ليس لدى الشعوب من مخرج سوى القبول بطغاتها أو التعرض للقتل والنزوح والهجرة الجماعية، فمنذ الآن ليس أسهل على الحكومات من اتهام كل اعتراض أو معارضة بالإرهاب، وليس أسهل على الطغاة من الانتقال من الإبادة السياسية لخصومهم إلى الإبادة الجسدية لمعارضيهم أو زجهم في السجون، حيث قوانين مكافحة الإرهاب بالمرصاد والحماية الدولية للطغاة جاهزة. ليس على كل طاغية صغير سوى بيع سيادته وثروات بلاده إلى قوة عظمى، ليصبح شريكاً دولياً ضد أعدائه في الداخل. وبالفعل بدأنا نرى منذ عام 2015 حجَّ الطغاة والراغبين بالطغيان نحو موسكو، من مصر إلى تركيا ومن إيران إلى الجزائر مروراً بدول الخليج فرادى وجماعات، ولم يعدّل هذا الحج باتجاه موسكو سوى وصول ترامب للحكم في أميركا، لتصل وقاحة طلب «الجزية» مقابل الحماية حدوداً لم تصلها منذ زمن الامبراطوريات القديمة، ويصبح ترامب وبوتين وجهَيّ، بل وِجهَتَيّ النظام الدولي الجديد، النظام القَبَلَي وما بعد الحداثي في آن.

التحول العالمي لمعادلة منع إسقاط الأسد داخلياً أو خارجياً لم يعنِ إلا شيئاً واحداً بالنسبة لمنطقتنا، هو العودة للنمط القديم الذي ساد علاقة الدول الكبرى بالانقلابات العسكرية التي تلت مرحلة الاستقلال وتعميمه، بحيث تتكفل الأنظمة العسكرية/ العلمانية بقمع شعوبها، بينما تتكفل الدول الكبرى بحمايتها وإضفاء الشرعية الخارجية عليها مقابل عمالتها الكاملة وسرقة ثرواتها التي هي ثروات الشعوب. والمعروف أن ذلك النمط جَعَلَ من دول المنطقة تُختَصر بأنظمتها عبر عضوية ومساواة السلطة بالدولة دون باقٍ، وجَعَلَ من شرعية تلك الأنظمة داخلياً ليست أكثر من شرعية القوة المحضة، وسياستها ليست أكثر من الحرب على الشعب والإبادة السياسية؛ والعسكرية إن اقتضى الأمر، للخصوم والمعارضة.

ولكن سؤال اليوم الذي يطرحه إعادة تأهيل الأنظمة العسكرية من جديد هو: هل ينجح ذلك النمط القديم من الاتكاء على الأنظمة لقمع الشعوب ومنع الديموقراطية بعد ثورة الاتصالات والمعلومات والعولمة، وثورات الربيع العربي، مثلما نجح سابقاً؟ حتى الآن يظهر على أنه ناجح في مصر، وتحثّ تركيا الخطى نزولاً نحو الطريقة المصرية، بينما يتم إنجاحه بالقوة في سوريا عبر إبقاء الأسد حاكماً فوق الركام والمجازر، ولكن هذا الطريق نحو استعادة النمط القديم، لن يكون معبداً بالسهولة التي مرَّ فيها سابقاً، بل هو طريق حروب أهلية مستمرة ومديدة، فبعيداً عن غياب العدو الخارجي المُوحِد والمُوحَد الذي كان عماداً لصناعة الديكتاتوريات المركزية في السابق، والانقسام الأفقي والعامودي للمجتمعات الأهلية، هناك حقيقة واضحة باتت أكبر من إخفائها القسري الذي يحصل اليوم عبر ما يسمى الحرب على الإرهاب، وهي أن شعوب المنطقة التي كان من السهل إغفالها وإغلاق أفواهها والتحكم بمصائرها عبر الأيديولوجيات الكبرى والعدو المشترك وبروباغندات الإعلام المركزي الموحد والخطابات القومية أو الإسلامية الرنانة وشعاراتها الجوفاء… إلخ، هي شعوب لم تعد قابلة للتحكم والسيطرة كما كانت قبل عام 2011، فالوعي الجمعي للسوريين مثلاً، تمّت خلخلته بالكامل. إسرائيل؛ العدو التاريخي، لم تعد أسوأ أو أخطر من إيران، ونظام الأسد لم يعد نظاماً وطنياً أو ممانعاً حتى في عين موالاته، وحزب الله لم يعد حزب مقاومة كما كان يراه الحسّ العام عام 2006، والإسلاميون لم يعودوا ممثلين لطريق الخلافة الأخضر حتى في عين المسلمين الصراطيين.

لقد بات الانكشاف أكبر من أن تغطيه دعوة أو بروباغندا أو «أخوة» أو إيديولوجيا أو عقيدة أياً كان نوعها، وتجربة السوريين المريرة، والتي أُريد منها أن تكون درساً للجميع، ربما أصبحت درساً مؤقتاً بالفعل، لكنها لن تعيد الشعب السوري، ولا شعوب المنطقة، كما كان وكانت. لن تعيده صفاً واحداً خلف القيادة الحكيمة، فبعيداً عن أن «القيادة الحكيمة» باتت خاضعة شرعياً لاحتلالين على الأرض، فإن القسر الذي يحتاجه تركيب شعب سوري واحد، يجمع الأكراد مع العلويين مع السنة مع الدروز وغيرهم، تحت بسطار عسكري مركزي واحد وبالقوة، سيتجاوز القسر الذي تعرّض له السوريون حتى اليوم لكي يحقق نتائجه، وهذا بالمجمل لن يخدم مطالب الأمن والاستقرار التي باتت تحتاجها وتسعى نحوها روسيا وأمريكا وأوروبا، لكي تتناهش امتيازات ما بعد الحرب، وتقلل من خطر الإرهاب والهجرة والنزوح. ولذلك فإن الاعتماد على ديكتاتور عسكري على طريقة زمن ما بعد الاستقلال؛ وإضافة إلى أن تناقضاته الذاتية أكبر من حمله، لن ينجح مهما دعمه بوتين أو رغب فيه ترامب أو عززه ماكرون، كما أن نجاحه الظاهر في النموذج المصري تحت حكم السيسي، يَعِدُ بالأزمات والانفجارات الأهلية والدول الفاشلة، أكثر مما يَعِدُ بأي استقرار ممكن.

كاتب وباحث سوري

موقع الجمهورية

 

 

متى ينتصر بشّار الأسد؟/ حازم صاغية

متى نتأكّد من أنّ «إعادة تأهيل» بشّار الأسد قد اكتملت، وأزيل آخر العوائق من أمام استقباله إقليميّاً ودوليّاً؟

الجواب: حين تنطلق عبوة أو رصاصة تقتل سياسيّاً أو صحافيّاً في بيروت.

اليوم، من لبنان إلى مصر إلى تونس إلى فرنسا والولايات المتّحدة، فضلاً عن روسيا وإيران بالطبع، تُبذل الجهود لـ «إعادة تأهيل» الأسد. جهود ديبلوماسيّة جبّارة تصبّ في هذه الوجهة. دماء كثيرة تُسفك من أجل ذلك. أكاذيب على شكل «أفكار» تُروّج لتمرير ذلك. «الطرق إلى القدس»، المستقيمة منها والالتفافيّة، تُباع بأسعار مخفّضة في الأسواق خدمةً لهذا الهدف.

طبعاً هناك سوابق مع بشّار جرت في ظروف أقلّ دراميّة وخطورة بلا قياس، كانت أهمّها سابقة نيكولا ساركوزي التأهيليّة. لكنّ مناخ الثورة المضادّة العربيّ لا يكترث بالعِبَر. أهمّ منها بكثيرٍ لهفة الملهوفين إلى البلايين التي تدرّها إعادة إعمار تلي إعادة التأهيل. تفاهة وانحطاط ما آلت إليهما المعارضات السوريّة، المسلّحة والسياسيّة، تبريرٌ مشجّع للعاملين على ردّ السوريّين إلى بيت الطاعة.

لكنْ لماذا سيكون الاغتيال في لبنان إشارة الانطلاق إلى المرحلة السوريّة المقبلة؟

بشّار ونظامه سيّدان على هذا الصعيد – صعيد الدم. به يفتتحان تاريخهما المستأنَف. ثمّ إن لم يكن الأمر اغتيالاتٍ، فماذا يكون؟ ماذا في الجعبة غير ذلك؟ وعود تاريخيّة كبرى؟ طور نوعيّ من التنمية؟ قفزة في مجال التعليم؟ الموجود هو القتل، والنظام الأمنيّ يجود بالموجود. البراعة في القتل تتصدّر الـ «سي في» الفارغ من كلّ مزيّة أخرى. ثمّ إنّ هذا النظام ثأريّ وانتقاميّ بطبيعته وبشهادة سجلّه، فكيف وهناك لبنانيّون، من «أهل القلم» ومن «أهل السيف»، يناشدونه أن افعلْ: خلّصنا من العملاء والخونة والجواسيس الذين يعترضون طريقنا إلى القدس. اقتل. اقتل. والمثل الشعبيّ يقول: لا توصِ حريصاً!

وبما أنّ الثورة السوريّة صدّعت هيبة الحاكم والنظام اللذين يقومان على هيبة مفروضة بالقوّة، فإنّ في وسع الرعب الذي يثيره الاغتيال أن يردّ شيئاً من الهيبة. أن يوحي، على الأقلّ، بذلك. يضاعف الحاجة إلى مسرح دمويّ كهذا أنّ السلطة الفعليّة موزّعة بين الروس والإيرانيّين وميليشياتهم. إذاً: هذا فحسب ما يتبقّى لهم من سلطة.

لكنْ أيضاً: لبنان هو الساحة السهلة. النظام السوريّ أدرى بشعاب لبنان وشعاب الاغتيالات فيه. خبرتُه هنا تفوق كثيراً خبرته في إدارة اقتصاد بلاده أو إدارة تعليمها، بل تفوق خبرته في الاغتيال في «ساحات» أخرى. سهولة الساحة اللبنانيّة يزيدها واقع ازدواج السلطة مع «حزب الله». تحالف الطرفين في الموضوع السوريّ، وأخيراً، شعبيّة «الانتصارات» التي يحقّقانها، المعزّزة بـ «حلف الأقلّيّات»، تفتح الدروب المغلقة. تذلّل العراقيل. تصوّب يد القاتل حين تعوجّ.

والتاريخ يشير في الاتّجاه هذا. في لبنان البرلمانيّ القديم لم يكن رائجاً التخوين الذي يتلوه القتل. والاغتيالات، كما نعلم، أعلى مراحل التخوين. «فليرحلوا عنّا»، يقول المحرّضون على القتل، أمّا التتمّة الضمنيّة فهي: إن لم يرحلوا عن البلد رحّلناهم عن الدنيا.

في الماضي، خلاف بشارة الخوري وإميل إدّه لم يؤدّ إلى تصفيات دمويّة، ولا خلاف كميل شمعون وحميد فرنجيّة، أو فؤاد شهاب وكميل شمعون، أو صائب سلام ورشيد كرامي، أو كمال جنبلاط وكميل شمعون. في الزمن الاستقلاليّ، جاءتنا «ثقافة» الاغتيال من طرفين هما ابنا عمّ: الأحزاب التوتاليتاريّة النشأة والتكوين التي افتتحت القتل بقتل رياض الصلح، والأنظمة الأمنيّة- العسكريّة التي افتتحته بقتل كامل مروّة.

دمشق اليوم تحضن التقليدين. لهذا فحين يُغتال أحدهم في لبنان، وحين تقطع الراديوات والتلفزيونات بثّها لنقل الخبر العاجل… قلْ: عاد بشّار حاكماً سيّداً. فبالموت سوف يبدأ العهد الجديد، بعد عيش العهد القديم طويلاً في الموت.

الحياة

 

 

هل يمكن للسوريين التعايش مع بشار الأسد؟/ غازي دحمان

هناك توجه دولي يقضي بإبقاء رأس النظام السوري بشار الأسد على رأس السلطة في سوريا، بذريعة عدم توفر البدائل القادرة على إدارة مؤسسات الدولة وضبط القوى المختلفة، مع الأخذ بالاعتبار أن كفته في ميدان القتال أصبحت أكثر رجحانا من كفة خصومه، وعليه، فإن الواقعية الساسية تستدعي القبول بهذا الخيار.

أكثر من ذلك، يذهب المروجون لهذا الخيار بأن بشار الأسد هو الضامن لأمن ومستقبل الأقليات في منطقة تموج بالصراعات الطائفية، وأن التحالفات التي أرساها في سوريا والإقليم ليست موجهة ضد الأكثرية السنية في سوريا، بل هي لحماية الأقليات في المنطقة وطمأنتها على مستقبلها، وعدا هذا وذاك، فإن بشار الأسد لا يهدّد الغرب ولا إسرائيل، وليست له طموحات خارج كرسي السلطة في دمشق.

لكن هذا التوجه، وما يحتويه من مزاعم، تفنده وقائع مضادة كثيرة، كما تقف  دونه عقبات موضوعية كثيرة:

أولا: فيما يتعلق بالأبنية المؤسسية والهياكل الإدارية، التي يسعى المروجون إلى إثبات أن الأسد يمتاز عن الأخرين بحيازتها، فقد أثبتت الوقائع أن هذه المنظومة غارقة في الفساد إلى أبعد حدود وغير قادرة على إدارة البلاد، وما هو حاصل في المناطق التي تخضع لسلطة النظام أن الإدارات أصبحت مهمتها محصورة في منح المرتبات للعاملين فيها فقط، لإثبات ان هناك دولة ومؤسسات عاملة، ولضمان بقاء هذه الكتلة مؤيدة للنظام وضمان الاستفادة من صوتها في أي انتخابات قادمة.

أما على مستوى الفعالية والإنجاز والخدمات، فالسائد في هذه المناطق ” كل واحد يدبر حالو”، لا أحد يلحظ وجود الدولة ومؤسساتها إلا على حواجز النظام وفي حملات الاعتقال والاعتداء على المواطنين، أو من خلال الضرائب التي يتم فرضها على أصحاب الورش والمحلات، أو من خلال الأتاوات التي يفرضها شبيحة النظام وعسكره على المزارعين ومربي المواشي.

وهذه المواصفات كافية بحد ذاتها لإسقاط الشرعية على نظام الأسد، حتى لو لم تقم ثورة ضده ولم يرتكب كل ذلك الكم من الجرائم، ذلك ان العقد بين السلطة والمجتمع يتأسس على تقديم الخدمات والحماية للشعب مقابل الرضاء عن ممارسة الطرف الأخر السلطة، وأي إخلال بالبنود من جهة السلطة يستتبع فك العلاقة واستبدال الحاكم بأخر.

في المقابل، تشكّلت في المناطق المحرّرة على مدار السنوات الخمس السابقة تجارب إدارية حققت إنجازات مهمة، رغم انعدام الموارد وقلة الإمكانيات، في حلب ودرعا والغوطة الشرقية، ومئات الأحياء والقرى، كانت هناك إدارة تعمل بمنطق إدارة الأزمات والكوارث وفي ظل ظروف كارثية، أطقم طبية كاملة، ومثلها لتأمين الخدمات وتسيير الشؤون الاجتماعية وتقديم الخدمات الإعلامية، وجميع هذه الكوادر مدربة وخبيرة، كما أن السلطة وإن كانت بيد الفصائل العسكرية، إلا أن مجتمعا مدنيا حقيقيا راح يعمل إلى جانب سلطة الفصائل، وأصبح شريكا في القرار، دون أن ينفي ذلك حصول بعض الأخطاء.

ثانيا: فيما يتعلق بالسلطة والنظام، لا يخفى على أحد أن أجهزة سلطة الأسد، الأمنية والعسكرية، لا ترتبط بالنظام إلا لجهة كونها متورطة بالجريمة والفساد بدرجة كبيرة، وأغلبها أصبح يعمل بشكل قطاعي، وخاصة لجهة تحصيل التمويل والموارد، كما أن بعضها صار أقرب لصورة فرق المرتزقة التي تحركها المكاسب المادية، إذ على سبيل المثال فإن قوات صقور الصحراء التي يقودها العقيد محمد جابر تقوم بحماية المنشأت النفطية مقابل حصة تحصل عليها من النفط، كما أن المليشيات التي يقودها سهيل الحسن الملقب بـ”النمر” تعتمد على الخوّات التي تفرضها على مناطق سيطرتها وتجارة الممنوعات.

ولا شك أن هذه المنظومة لن تكون كفؤة لإدارة الدولة السورية في المرحلة الانتقالية، من الحرب إلى السلام، كما أنها مرشحة لدخول صراعات طاحنة بينها يؤجلها الآن إحساسها بوجود تهديد مشترك ضدها.

في المقابل، ليست الصورة على شاكلة ما يجري تصويره داخل المعارضتين السياسية والعسكرية، ذلك أن الثورات وحركات التحرر غالبا ما تكون عبارة عن اجتماع لتيارات وقوى متعدّدة، كما أن هذه الأطراف قابلة للهيكلة ضمن أطر محدّدة، وهو ما يبدو أن المعارضة مقبلة عليه في المرحلة القادمة.

وفيما خصّ حماية الأقليات، فالثورة لم تقم ضد الأقليات ولم تحصل تجاوزات بحقها من قبل الثوار، وقد رفضت الثورة تسمية الأحداث في سوريا بـ”الحرب الأهلية”، كما ان أي تسوية في سوريا ستنطوي على ضمانات وتؤسس لميثاق يضمن حقوق الجميع بالتساوي، وبالأصل هذا مطلب الثورة قبل ان يكون مطلبا لأحد.

أما عن كون أن الأسد لا يسبب أضرارا للخارج، فهذه ليست منّة، وهذا مبدأ تلتزم فيه جميع الأنظمة السياسية في العالم، ليس لأن أخلاقها تفرض عليها ذلك، بل لأن توازنات القوى ومصالحها تفرض حصول ذلك، إلا إذا كانت الأطراف الخارجية تعتقد أن داعش أو القاعدة هي من سيحكم سوريا.

هذا في الجوانب التقنية، التي تشكّل الذريعة الأساسية للأطراف التي تطالب ببقاء الأسد، أما على مستوى السياسة، فلن تستطيع كل نظريات الواقعية تجميل مجرم حرب ارتكب كل أنواع الجرائم ضد شعب البلد الذي يحكمه، واستأجر القتلة من الخارج، واستدعى قوى خارجية لتساهم في قتل الشعب السوري بعد أن رهن ثروات سوريا وباع أرضها؛ فقط ليبقى على كرسي الحكم.

ليس من الواقعية بمكان قبول شخصية “سياسية” اتهمت شعب البلد بالخيانة؛ لأنه اعترض على سياسات تتنافى مع القيم البشرية، فضلا عن الفساد والمحسوبية وتغوّل الأجهزة الأمنية، حتى لو أن الأسد استطاع البقاء على كرسي السلطة بمساعدة روسيا وإيران وأحزاب ومليشيات إرهابية خارجية، فهذا مبرّر غير كاف لبقائه في السلطة، ويستحيل تصوّر أن يقبل السوريون بهذا الأمر بعد أن مات الولد وتدمّرت البلد.

عربي 21

 

 

 

أهي نكسة أم تفاحة؟/ عمر قدور

كان ينبغي أن يتسرب ما قاله وزير الخارجية السعودي في اجتماعه مع رئيس الهيئة العليا للمفاوضات، وفحواه القبول ببقاء بشار الأسد طوال المرحلة الانتقالية، كي يقتنع بعض المكابرين بحجم التردي الذي وصل إليه حال المعارضة السورية. وزارة الخارجية السعودية في تعليقها على التسريبات لم تنفِها، وإن أشارت إلى موقف المملكة الثابت على عدم قبول بقاء الأسد في مستقبل سوريا، فكلمة المستقبل هذه تستخدمها دول أخرى تعلن قبولها ببقائه ضمن مرحلة انتقالية غير واضحة المعالم والمدة حتى الآن. جدير بالذكر أن المملكة استقبلت مستشار بشار للأمن القومي علي مملوك، قبل سنتين بالضبط، وعرضت صفقة تنص على وقف دعم المعارضة مقابل انسحاب حزب الله وباقي الميليشيات الشيعية من سوريا. والمملكة، مثل أي طرف خارجي، لها حساباتها التي تخص أمنها أولاً، والتي تخص مجمل الصراع في المنطقة تالياً. وما يصح على المملكة يصح على دول إقليمية أخرى، كان لها في ما مضى أدوار ومطامع في النفوذ، انتهى بعضها وحُجِّم بعضها الآخر بحكم التواجد الأميركي والروسي في الساحة.

وكما هو معلوم تعكس الرسالة السعودية لهيئة التفاوض حصيلة التفاهمات الدولية، ولن يكون من شأن الهيئة التغيير فيها، بل يمكن بسهولة ربما تغيير تركيبة الهيئة لتتلاءم مع التوجه الجديد. ولقد اختبر السوريون خلال سنوات تغييرات في السيطرة على أطر المعارضة تعكس تبدل موازين القوى الإقليمية، أو تعكس الرغبة الدولية في نقل الإشراف على الملف السوري من جهة إقليمية إلى أخرى، ومرت تلك التغييرات بسلاسة، بل لاقى بعضها الترحيب على أمل حصول تطور ما في التعاطي الدولي والإقليمي، إلا أن النتيجة كانت دائماً المزيد من الانحدار في مكانة المعارضة، والمزيد من الاستهتار بالقضية الأساسية للسوريين.

ما سبق كله كان ينبغي توقعه على أرضية التحول المستمر في القضية السورية إلى كونها قضية خارجية، وارتهانها للصراع الدولي، وأيضاً للصراع الإقليمي. فالقضية السورية على سبيل المثال دفعت ثمن الخلافات الإقليمية حول انقلاب السيسي في مصر، ما أفقد الدول الإقليمية المعنية قوة تأثيرها على إدارة أوباما، وأفقد بعضها القدرة على الوصول إلى الداخل السوري ودعم بعض الفصائل إلا من خلال غرفة المخابرات الأميركية في الأردن. ومن المؤكد أن تدفع القضية السورية ثمناً ما للخلاف الخليجي الأخير، بخاصة بعد أن قفز إلى الصدارة ليبدو كأنه أم المعارك في المنطقة، وغير بعيد عنه يُسوّق اليوم لدور مصري في سوريا، مع معرفة موقف مصر السيسي المحابي لسلطة الأسد. أما تسليم لبنان للوصاية الإيرانية، على نحو مفاجئ وغير مسبوق، فلا يبشّر جواره السوري بالخير.

هذا الوضع يشبه إلى حد كبير وضع القضية الفلسطينية عشية حرب حزيران 1967، فحينئذ كانت القضية الفلسطينية ممسوكة من أنظمة تدّعي أنها ستحرر كامل التراب الفلسطيني، ويتوعد بعضها الإسرائيليين بالرمي في البحر قريباً. حتى في خضم الخسارات أثناء الحرب كانت الإذاعتان المصرية والسورية تبثان أخبار الانتصارات، على النحو الذي ستشهده لاحقاً المؤتمرات الصحافية لوزير خارجية وإعلام صدام”محمد سعيد الصحاف” عام 2003. وكما هو معلوم أفاق “الجمهور” في الحالتين على واقع شديد البؤس، أولهما باحتلال إسرائيل مساحات واسعة إضافية وثانيهما بسقوط بغداد سريعاً. سيختبر السوريون في ما بعد تصريحات دولية وإقليمية طنانة من نوع أن استخدام السلاح الكيماوي خط أحمر، أو أن اقتحام النظام مدينة حماة خط أحمر ولاحقاً مدينة حلب، أو من نوع أن الأسد سيرحل طوعاً أو بالقوة.

إلا أن أهم ما في هزيمة حرب 1967 هو ما ثبت من تهافت الأنظمة التي أعلنتها نكسة فحسب، ما دامت هي نفسها لم تسقط! فإثر الهزيمة تقدمت حركة التحرير الوطني “فتح” ليأخذ الفلسطينيون قرارهم بأنفسهم، ومن ثم تقدمت منظمة التحرير الفلسطينية لتصبح ممثلاً شرعياً وحيداً للفلسطينيين باعتراف من الأنظمة التي حاولت السطو على القضية، قبل أن تحاول السطو في ما بعد على قرار منظمة التحرير. بهذا المعنى كانت الهزيمة درساً قاسياً ضرورياً للتخلص من أي وهم حول الأنظمة القائمة، وهو درس كان ثمنه عملية تهجير وتغيير ديموغرافي تفوق بحجمها بين الداخل والخارج ما رافق قيام دولة إسرائيل، وإن بدا هذا الحجم أصغر من عمليات التهجير التي قام بها تنظيم الأسد بينما كان “أصدقاء الشعب السوري” يطلقون الوعود.

لكن، لكي يأخذ السوريون زمام المبادرة على نحو ما فعل من قبل الفلسطينيون، يلزم أولاً ألا يتبعوا سياسة الإنكار، أي ألا يكونوا في موقع الأنظمة التي أنكرت الخسارة الفادحة في حرب حزيران. الصمت الحالي، عما حدث ويحدث، لا يبتعد كثيراً عن الرغبة في الإنكار أو عدم مواجهة الواقع، وفي أحسن الأحوال يعكس تدني الثقة بالنفس إلى حد كبير يدفع إلى محاباة “الحلفاء”، ولو على حساب مطالب أساسية ثار من أجلها السوريون. لقد انطلقت الثورة لإسقاط النظام السياسي الأمني لطغمة الأسد، لا من أجل مشاركتها السلطة بحسب ما هو مطروح حالياً، والقبول بذلك تحت أية صيغة لا يعني سوى ترميم النظام على الضد من الثورة.

وسط الصمت والعجز الحاليين سيكون مؤسفاً أن ترتفع أصوات تلعب دور مذيع صوت العرب عام 1967 أحمد سعيد أو دور الصحاف عام 2003، فتتحدث ببساطة عن انتصار الثورة الحتمي وكأن هذا يحدث تلقائياً وبالإصرار على تكرار الأخطاء ذاتها! يرى الكاتب الفرنسي المعروف جان جينيه أن الكلمات وجدت لتستخدم في مكانها الصحيح المناسب، ولولا ذلك لما كان هناك من داعٍ لوجودها. ويروي صديق حادثة جرت في صفه عندما كان في المرحلة الثانوية؛ إذ يسأل مدرس العلوم مع انتهاء درس عن جهاز الهضم عما إذا كان لأحد من الطلاب سؤال؟ تسأله إحدى الطالبات عن معنى فتحة الشرج؟ يجيبها: فتحة الشرج هي الطيز. فتنكب الطالبة برأسها خجلاً على المقعد. يذهب المدرس إلى الطالبة ويطالبها برفع رأسها، ثم يؤكد عليها بالقول: يا آنسة، فتحة الشرج هي الطيز، ماذا تريدين أن أسميها لك؟ تفاحة؟ أغلب الظن أن الهزيمة الكبرى تبدأ بإنكار الواقع، وبدل فهمه ومحاولة تغييره الإصرار على أنه تفاحة!

المدن

 

 

 

 

السعودية و«المعارضات» السورية: إكراه السياسة وباطل التمثيل/ صبحي حديدي

مضى زمن شهد شيوع سردية رسمية أطلقها النظام السوري خلال الأشهر الأولى التي أعقبت انطلاق الانتفاضة الشعبية في سوريا، آذار (مارس) 2011، مفادها أنّ الأمير السعودي بندر بن سلطان هو الذي يقف وراء «المؤامرة»؛ أي التسمية، الرسمية بدورها، التي استقرّ عليها النظام في توصيف الحراك الشعبي، الذي بدأ سلمياً تماماً، رغم لجوء النظام إلى العنف منذ تظاهرات درعا البلد. كذلك اتُهم الأمير، وعلى نحو شخصي وفردي أحياناً، بأنه يموّل أطراف تلك «المؤامرة»، خاصة بعد أن مضى النظام أبعد في ستراتيجيات التأثيم المعمم، فأطلق على الناشطين صفة «الإرهابيين». فيما بعد، عند تشكيل معارضات الخارج، وتوزّع غالبية المعارضين (عبر «المجلس الوطني» أولاً، ثمّ «الائتلاف الوطني») في ولاءات عربية وإقليمية ودولية؛ تولى معارضون أفراد (أمثال أحمد الجربا وميشيل كيلو واللواء سليم إدريس…)، تثبيت علاقة الأمير بهذه المعارضات، الإسطنبولية تحديداً كما يجوز القول، وتأكيد الكثير مما يُقال عن تحكّم المملكة العربية السعودية بإرادة «الائتلاف»، أفراداً ومؤسسة.

وفي ربيع 2014 أصدر الملك سلمان بن عبد العزيز أمراً بإعفاء الأمير من منصبه كرئيس لـ«مجلس الأمن الوطني»، «بناءً على طلبه»، كما نصّ القرار؛ مما عنى أنّ مسؤولياته في «إدارة» تلك المعارضات قد آلت إلى جهة أخرى، تبيّن سريعاً أنها لم تعد استخباراتية صرفة، بل عُهد بها إلى وزير الخارجية عادل الجبير، ضمن متغيرات أخرى في سياسات المملكة الإقليمية، خاصة تورّط الرياض في اليمن وتشكيل تحالف «عاصفة الحزم». وعلى خلفية رغبة أمريكية في إعادة هيكلة المعارضات السورية، بعد أن ترهلت صيغة «الائتلاف» التي ولدت على أنقاض «المجلس الوطني»؛ تبنّت السعودية خيار «هيئة التفاوض»، وجمعت أطياف المعارضين (بما في ذلك الفصائل المسلحة، «الجيش الحرّ» أسوة بالجهاديين…) في مؤتمر الرياض، أواخر 2015. آنذاك، كان خطاب الجبير يسير هكذا، على سبيل الأمثلة: «بشار الأسد سيرحل عن الحكم في دمشق سواء كان عاجلاً أم آجلاً لأنه انتهى»؛ أو: «إن لم يستجب الأسد للحل السياسي، فإنه سيبعد عن طريق حل عسكري»، و»المسألة مسألة وقت»…

وكان اجتماع الرياض قد توصل إلى جملة «ثوابت»، أبرزها أنّ هدف «التسوية السياسية» هو تأسيس نظام سياسي جديد لا مكان فيه «لبشار الأسد وزمرته»؛ قوامه الالتزام بآلية الديمقراطية، والنظام التعددي الذي يمثل أطياف المجتمع السوري، الحفاظ على «مؤسسات الدولة السورية»، وضرورة «إعادة هيكلة وتشكيل مؤسساتها الأمنية والعسكرية». كذلك اتفق المجتمعون على تشكيل فريق للتفاوض مع ممثلي النظام (ترأسه رياض حجاب، الذي انشق عن النظام وهو في منصب رئيس الوزراء؛ وتألف من 33 عضواً، بينهم 11 عن «الفصائل الثورية»، و9 عن «الائتلاف»، و8 عن المستقلين، و5 عن «هيئة التنسيق»). كان سياقات المشهد العامّ في سوريا، يومذاك، تحكمها عناصر كبرى مثل التدخل العسكري الروسي المباشر، وتحولات الموقف الأمريكي نحو اعتماد الفصائل الكردية في الحرب ضدّ «داعش»، وتركيز الموقف التركي على قطع وتفكيك أيّ احتمال لإقامة كيان كردي على الحدود السورية ـ التركية وغرب نهر الفرات.

وقبل أيام، في أعقاب اجتماع بين الجبير وحجاب، راجت معلومات تفيد بأنّ الرياض أبلغت هيئة التفاوض أنّ الاهتمام الدولي لم يعد يشدد على رحيل الأسد في المرحلة الانتقالية، لأنّ التشديد انتقل إلى ملفّ محاربة الإرهاب؛ وبالتالي على الهيئة أن تعيد ترتيب خياراتها. وقيل كذلك إنّ الجبير تحدّث عن «إعادة هيكلة» الهيئة ذاتها، الأمر الذي قد يفسّر ـ في قليل أو كثير، لكنه غير منقطع الصلة كما يلوح ـ إعلان الهيئة عن عزمها عقد مؤتمرها الثاني، بعد الأول التأسيسي، في تشرين الأول (أكتوبر) المقبل؛ تحت عنوان «اجتماع موسع مع نخبة مختارة من القامات الوطنية السورية ونشطاء الثورة، من أجل توسيع قاعدة التمثيل والقرار». وليس واضحاً، بعد، ما إذا كان هذا الاجتماع سوف يشهد انضمام ممثلي منصتَي القاهرة وموسكو، لكنّ الكثير من المؤشرات تذهب نحو هذا المآل. من جانبه كان جورج صبرا عضو هيئة التفاوض وممثل الائتلاف، قد أوضح أنّ الجبير «لم يمارس أي ضغوط، كلّ ما قاله إن ثمة متغيرات على الساحة الدولية والإقليمية فيما يتعلق بالوضع السوري وإن الأولوية أصبحت للإرهاب وليس إسقاط الأسد، وعليكم أن تراعوا هذه المتغيرات»؛ موضحاً أنّ الوزير أكد على استعداد المملكة «لدعم المعارضة أيا كانت القرارات».

وبين ما راج في الأخبار، من تهمة تخلّي الرياض عن خيارات الأمس القريب بخصوص مصير الأسد؛ وما جزم به صبرا وسواه، من تبرئة ساحة الرياض وتنزيهها عن أيّ ضغط؛ ثمة ذلك الواضح المسكوت عنه من عناصر هذا التأزم، الأحدث عهداً، في حال المعارضات السورية عموماً، وهيئة التفاوض خصوصاً: 1) أنّ ما يُسمّى «المجتمع الدولي» لم يعد، بالفعل، ملتزماً بمبدأ إبعاد الأسد عن المرحلة الانتقالية (فما بالك بإسقاطه، حسب تعبير صبرا!)، وهذا واضح في تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وتغريدات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب؛ و2) أنّ المعارضات السورية، ذاتها، واقعة في حيص بيص، من حيث ما تبقى لها من أوراق تفاوض على الطاولة، وتمزيق بنيتها بين هيئة التفاوض ومنصة موسكو ومنصة القاهرة؛ و3) ما ينعكس على حركة هذه المعارضات من ضغوطات النزاع الخليجي ـ الخليجي الراهن، واعتماد الرياض مبدأ الانحياز القسري وقاعدة «مَنْ ليس معنا فهو ضدنا»…

ومع ذلك، وأياً كانت التبدلات التي طرأت على علاقة السعودية بالمعارضات السورية، في إسطنبول كما في الرياض؛ فإنّ الجوهر الأكبر، القديم والمتجدد، سوف يظلّ يدور حول السؤال الكبير: مَنْ نصّب هؤلاء، أينما كانوا وكانت صفاتهم ومؤسساتهم، ممثلين للشعب السوري؛ منذ جنيف 1 وحتى جنيف 7، ومنذ أستانة 1 وحتى يشاء الله؟ وهل يكفي القول، كما جاء في بيان الرياض 2015، إنّ المشاركين «ينتمون إلى كافة مكونات المجتمع السوري من العرب والأكراد والتركمان والآشوريين والسريان والشركس والأرمن وغيرهم»، لكي ينطبق الزعم على الواقع؟ أم تُفرض شرعية التمثيل، اعتباطياً وعشوائياً، لمجرد تأكيد البيان أنه «شارك في الاجتماع رجال ونساء يمثلون الفصائل المسلحة، وأطياف المعارضة السورية في الداخل والخارج»؟ أو تُختلق هذه الشرعية، كما يجري الزعم الجديد حول الاجتماع المقبل، بسبب من حضور «نخبة مختارة من القامات الوطنية السورية ونشطاء الثورة»؟

ألم تمارس السعودية، منذ أن أسلمت معارضات إسطنبول والرياض قيادها لأجهزة المملكة، طرازاً مزدوجاً من التدجين، قوامه إكراه السياسة (بمعنى فرض أجندات المملكة، الداخلية أو الإقليمية أو الدولية)؛ واستغلال باطل التمثيل (بمعنى إدراك هزال ما يمثله زيد أو عمرو في عمق الشارع الشعبي السوري، ومقادير تبعية هذا واستزلام ذاك)؟ ألم تُختبر سلوكيات تلك المعارضات، على مستوى «المجلس الوطني» ثمّ «الائتلاف الوطني» وصولاً إلى «هيئة التفاوض»؛ بحيث نشهد اليوم كسوراً وانشقاقات وتباينات حادة، حتى في إسقاط ثوابت كبرى؛ كما اعترف صبرا نفسه، مؤخراً: «لم يعد خافيا أنّ البعض بات يصرّ على بقاء الأسد في المرحلة الانتقالية، وحتى من داخل هيئة المفاوضات العليا هناك من يعتقد بإمكانية أن يبقى الأسد في المرحلة الانتقالية، أما المنصات الأخرى فهي لم تعد تخفي هذه المطالب»؟

إلام، إذن، هذا التمادي في خداع الشعب السوري، والغرق أكثر فأكثر في حضيض سياسة بالإكراه، وتمثيل لا ينهض إلا على باطل؟

٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

القدس العربي

 

 

 

الاستسلام السوري إذ يؤسس للمستقبل/ عمر قدور

على رغم أهمية التطورات الأخيرة، بخاصة لجهة إنشاء «مناطق خفض التوتر» وتحويل بعض الفصائل العسكرية أسلحتها في اتجاه «داعش» فقط، لم تصدر عن هيئات المعارضة السورية أفكار توضح موقفها مما يحدث، ولم يحدث نقاش سوري عام يليق بهذه النقلة الجديدة. الطابع الغالب هو الاستسلام لفكرة تقاسم النفوذ، مع تقاسم الفصائل المحلية، إذ لا مكان لحديث جاد عن وجود السوريين الآن، أو في اللحظة التي يرى كثر أنها تؤسس لمستقبل البلد.

فكرة خروج الصراع نهائياً من أيدي السوريين تظهر كمنقذ من حال العجز والمراوحة السابقين، وتنفي ادّعاءات النصر والهزيمة. إذ لا النظام يملك قراره، أو يحظى باحترام مؤيديه، ولا المعارضة تملك القرار وتحظى باحترام جمهور الثورة. ويمكن بسهولة الانتباه إلى غياب مظاهر الجدل بين معسكري الموالاة والثورة منذ مدة طويلة، من ردح متبادل ونكايات متبادلة على وسائل التواصل الاجتماعي، في دلالة على غياب حيوية الصراع الداخلي، وقناعة طرفيه بهامشيتهما.

ذلك لا يعني طبعاً المساواة القيمية بين جمهور أيّد الإبادة وشجع عليها وآخر انحاز إلى قيم الحرية والمواطنة، إلا أن لحظة الاستسلام الحالية تضمر فقدان طرفيها أهدافهما، فلا الحرية متاحة في الأفق المنظور، ولا استمرار الإبادة يبشر بمردود ما للموالين. ومن المرجح ألا تنعكس الخسارة المزدوجة تقارباً بين الطرفين، فما من نزاع أهلي طغى عليه البعد الخارجي إلا وطال أمده، وعملت القوى المحلية الوكيلة على تأبيده ضماناً لدورها.

نظرياً، يُفترض التعويل على معسكر الثورة في الخروج من فكرة الاستسلام المطلق لما تقرره القوى الخارجية النافذة، فأهل هذا المعسكر هم من أعلن وصول مزرعة الأسد إلى نهايتها، لا لتكون مجموعة من الإقطاعيات العسكرية والسياسية ذات الارتباطات الخارجية. المسؤولية الأدبية هنا لا تأتي فقط من مشروع المواطنة الذي خسر رهانه، وإنما أيضاً من أرجحية معرفية واقعية، ومن أنّ من تبقى في مزرعة الأسد لن يجترح معجزة ليكون غير ما كان عليه حتى الآن.

سيكون هذا التعويل بلا أسس واقعية مع تفشي الإحباط، ومع تفشي الفكرة القائلة بأن الثورة وصلت إلى النهاية المرسومة لها دولياً، وأنه لم يكن بالإمكان أفضل مما كان مهما فعلت المعارضة خلال السنوات الماضية. وللفكرة الأخيرة أنصار كثيرون، يخلطون غالباً بين الأحقية الأخلاقية للثورة وقدرات أهلها السياسية، لمصلحة إهمال أهمية الأخيرة وتأثيرها. نقد تجربة المعارضة والثورة يفقد جدواه عندما يوضع بالتوازي مع انعدام حساسية العالم إزاء المأساة السورية، لأن أي تقصير أو ضعف في الأداء يظهران كأخطاء ثانوية غير مؤثرة في عالم كلي القدرة، وغير متبدل في المصالح والرؤى إلا لأسبابه الذاتية. أما المقارنة مع القدرة السياسية لسلطة الأسد، لدى الخوض في فكرة البديل، فهي وإن لم تكن لمصلحته فإنها تتجاهل استناده إلى شبكة دعم صلبة وشبكة مصالح عمرها أربعة عقود.

بالتأكيد لم يكن محتماً مع أفضل أداء للثورة والمعارضة الوصول إلى إسقاط سلطة الأسد، وفي الوقت نفسه لم يكن محتماً الوصول إلى هذا الدرك من تشرذم القضية السورية وارتهان ممثليها للقوى الخارجية، طوعاً أو كرهاً. الحديث عن هشاشة السوريين بالمقارنة مع قوى تمسك بالملف السوري سيكون وجيهاً، لكنه يتجاهل حاجة تلك القوى إلى سوريين يمنحونها معبراً للنفوذ، إذ ثبت خلال خمس سنوات من الانخراط الخارجي القوي عدم رغبة تورط أصحاب النفوذ بتقديم تضحيات على الأرض، وثبت معه وجود نوع من الاستثمار السهل والمريح بتعاون من يقدّمون تلك التضحيات.

في الواقع يمكن اعتبار الحديث الدولي المتكرر عن عدم وجود بديل ناضج للأسد ذريعة لا أخلاقية، لكن الذريعة تتغذى من أداء المستوى السياسي للمعارضة الذي يفتقر بشدة إلى الكفاءة، والذي يُنتقد بشدة في أوساط الثورة منذ وقت مبكر. انعدام الكفاءة هو ما حرم السوريين من تبلور قضية سورية شديدة الوضوح بمراميها وتكتيكاتها، ولو كانت قضية خاسرة، وهو ما حرم السوريين من تشكيل خبرات تكون بديلاً عن سلطة الأسد، ولو حُرم البديل دولياً من فرصة قيادة التغيير. القول إن فكرة تجهيز البديل مناقضة لجوهر الديموقراطية لا يعدو كونه جدلاً إنشائياً، إذ ليس من المطروح فرض البديل على شاكلة سلطة الأسد، بل المطلوب هو توظيف الكفاءات وإفساح المجال لتدريب كفاءات جديدة على النحو الذي لم يفعله حكم الأسد.

مع التشديد على أن البديل ليس شخصاً أو مجموعة تتسلم السلطة بدل زمرة الأسد، من دون التأسيس له لن تكون هناك قضية سورية، ومن دون إقناع العالم به ستبقى العلاقة معه خاضعة لإملاءاته وابتزازه. سورية المستقبل يُفترض ألا تنطلق من مجرد شعارات عامة مثلما كانت «سورية الأسد»، والمعارضة التي تنقسم وتتهافت لاعتبارات شخصية تارة، أو لتضارب الولاءات تارة أخرى، لن تكون قادرة على صياغة نهج سياسي ينال رضا السوريين واحترامهم قبل رضا الخارج واحترامه.

الاستسلام للواقع الحالي يسنده ما يُشاع بقوة عن إبقاء بشار في السلطة، وهو ما تعوزه الدقة، فالإبقاء على بشار لا يُطرح حتى من قبل العديد من حلفائه كخيار مستدام، وثمة خلافات حول مدة وطبيعة المرحلة الانتقالية التي سيغادر في نهايتها. وإذا بقي حال المعارضة على ما هو عليه فمن المرجح أن تطول الفترة الانتقالية، ما سيمنح فرصاً أكبر للتصالح الدولي مع بقاء بشار، ويمنح الأخير فرصة التباهي بعدم وجود بديل للشيطان الذي سيقبل به الغرب في النهاية.

لقد استنفدت المعارضة الحالية فرصتها كاملة، كأطر وكأشخاص، وفشلت فشلاً ذريعاً. الفشل الخارجي كان تتويجاً لاضمحلال ثقة السوريين بها، ولا يمكن تصور بناء أي جديد من هذا الركام، وإذا قامت سلطة الأسد على منع السياسة فقد أدت المعارضة دورها في تنفير السوريين منها. ذلك عنى من قبل وسيعني لاحقاً صعوبة البدء من جديد، مع صعوبة توافر حد معقول من استقلالية القرار. غير أن المستقبل الذي يتأسس الآن لن ينتظر، ومن المؤكد أن من يتسابقون على ركوبه يفضّلون ترك السوريين في لحظة العجز الراهنة.

الحياة

 

 

 

امتحان الثورة في سوريا/ رياض نعسان أغا

ليس سراً أن هناك توجهاً دولياً لإبقاء الأسد رئيساً في المرحلة الانتقالية، سيليه توجه أشد لمشاركته في الانتخابات المقبلة بعد الحل السياسي، وربما لتنفيذ الشعار الشهير «الأسد للأبد».

هذا ما تريده روسيا وما أعلنته منذ بداية تدخلها غير المباشر في الدفاع عن النظام، وقد صار هدفاً لها بعد التدخل المباشر قبل عامين، ولم يكن أحد يوافقها أو يفوقها حماسة للدفاع عن بقاء الأسد غير إيران، فهي تعتقد أن غياب الأسد سيعني غياب حضورها كله في المنطقة، فهو مفتاحها لدخول لبنان والسيطرة على مقدراته، وهو داعم امتلاكها للقرار في العراق.

ولن أتحدث عن الموقف الإسرائيلي الذي يخشى انتصار الثورة السورية، فما يعنيني هنا هو موقف أصدقاء سوريا الذي يشهد تبدلات حادة ربما عبر عنها إعلان ماكرون وقبله جونسون وقبلهما نيكي هايلي التي صرحت ثم اعتذرت. وثمة التصريحات والتلميحات في الحديث المتواتر عن ذريعة عدم وجود بديل للأسد، ومثل هذا الكلام ليس فيه احترام لائق لشعب سوريا العريق ممن لا يرون فيه رجلاً واحداً جديراً بأن يكون رئيساً لجمهورية مدنية ديمقراطية، وشعبنا لا يبحث اليوم عن ديكتاتور أو مستبد.

لقد كانت الإدارة الأميركية السابقة أول دولة أعلنت أن الأسد فقد الشرعية، وكادت تشن حرباً بعد أن أدين عالمياً باستخدام الكيماوي في الغوطة، والجميع يعلمون أن الجهد الروسي نجح في إيقاف الحرب الدولية، واكتفى الجميع بإلقاء القبض على السلاح وترك المجرمين بلا عقاب أو مساءلة.

وحين جاء الرئيس ترامب جدد إنذاره إلى حد قصف المطار الذي استخدم منه النظام السلاح الكيماوي ضد خان شيخون، وسبق لي أن وصفت تلك الضربة بأنها ضربة على الطاولة للتحذير من استخدام الكيماوي، ومع أنني ضد أي تدخل أجنبي عسكري في سوريا، فقد كنت منذ البداية من دعاة الحل السياسي، إلا أنني والكثرة من السوريين فقدنا ثقتنا في جدية موقف المجتمع الدولي (على الأعم) من الجرائم الكبرى التي ترتكب ضد شعب قتل منه نحو مليون إنسان وتعرض نحو مليونين منه للإعاقة، واعتقل منه نحو مليون، وشرد منه 14 مليوناً بين نازح ومهجر قسري ولاجئ!

ومع ذلك يريد بعض المجتمع الدولي أن يكافئ من ارتكب كل هذه الجرائم فيمنحه شرعية جديدة، غير مبال بمشاعر ملايين السوريين من ضحايا هذا النظام المسؤول وحده عما حدث، فهو الذي اختار الحل العسكري منذ بداية الأحداث، وهو الذي دمر القرى والمدن واستباح دماء السوريين وقادهم إلى القتال مجبرين للدفاع عن حياتهم وأعراضهم، وقد استمروا في احتجاجاتهم السلمية ثمانية أشهر يتحملون الموت اليومي، ولولا أن النظام زج الجيش بكل قواه لمحاربة الشعب لما انشق آلاف الضباط الذين أسسوا الجيش الحر وبدؤوا الدفاع عن أهلهم.

ولقد فوجئ الشعب بكون النظام يستقدم المحتلين إلى سوريا، فقد أدخل جيوش «حزب الله» وإيران، وميليشيات الإرهاب الدولي حتى باتت بمئات الأسماء، وأطلق سراح المتطرفين والمتشددين دينياً كي يخلط الأوراق وهو يعرف أن هؤلاء لا يملكون مشروعاً وطنياً وأنهم سيحاربون الجيش الحر والثوار، وسيرفعون شعارات تؤكد دعواه بأنه يواجه متطرفين.

وما أظن دولة في العالم يخفى عليها سر «داعش» وأمثالها، فهي لم تنبت في الأرض السورية ولم تخرج من جوف المجتمع السوري، وزعماؤها جميعاً استقدموا من الخارج، ورعتهم إيران بوصفها الدولة الراعية للإرهاب في العالم.

ومشكلتنا اليوم لم تعد مع النظام وحده، فحين تعرضت سوريا للاحتلال، صارت القضية أخطر وأعم، فظهرت مواقف مستجدة من المعارضة، وسعت نظرتها للقضية، فبات همها استقلال سوريا وطرد الغزاة منها، وإيقاف نزف الدم، وإنهاء معاناة الشعب التي بلغت حداً لا يحتمل ولا يطاق على صعيد إنساني، وقبلت الهيئة العليا للمفاوضات بتشاركية مع النظام، وأعلنت ذلك في رؤيتها بدوافع واقعية، لكنها اشترطت في بيان مؤتمر الرياض بألا يكون للأسد ومن شاركه من المجرمين دور في المستقبل السياسي، وأن تنتقل صلاحيات الرئاسة إلى هيئة حكم انتقالي، كما في بيان جنيف والقرارات الدولية.

ومع ظهور توجهات دولية تروج لبقاء الأسد وظهور حملات شعبية سورية ترفض ذلك رفضاً قاطعاً، جاءت تصريحات الخارجية السعودية تشد أزر الشعب السوري، وتطمئنه إلى ثبات مواقف الأشقاء، وتكشف زيف ما تشنه الحملات المضادة والهادفة إلى زعزعة الثقة. ولا يخفى على أحد أن بقاء الأسد سيجدد الصراع ويعيد الحال إلى نقطة الصفر، وأي انتصار عسكري للنظام لن يكون ضمان استقرار ما لم يتحقق حل عادل ومقبول على صعيد شعبي.

ومن غرائب ما يحدث في المجتمع الدولي أن يقول بعض أصدقاء سوريا إنهم معنيون بمحاربة الإرهاب، وتبريرهم هو حاجتهم إلى أن يقوم النظام بمساعدتهم بمحاربة الإرهاب.

الاتحاد

 

 

 

سوريا المقبلة في رؤية نظام الأسد/ فايز سارة

لفترة طويلة من التاريخ المعاصر، نظر نظام الأسد إلى سوريا، باعتبارها مزرعة تخص العائلة ورأس العائلة ليس إلا؛ ولهذا لم يكن من الغريب أن تسمى بـ«سوريا الأسد»، وبالتبعية فإنه لم يكن ينظر للسوريين، إلا باعتبارهم أتباعاً وعبيداً في «سوريا الأسد»، لا دور لهم في الحياة إلا خدمة العائلة ورأسها، والتصرف وفق رغباتها ومصالحها الضيقة. ولهذا؛ فقد كان من الطبيعي ولعقود طويلة مكتوب لكل سوري يحقق إنجازاً في مجال ما، أن يهديه للرئيس، الأب والقائد وصاحب المكرمات إلى آخر القائمة، التي تجعل من السوريين مجرد أتباع، يستجيبون لرغبات رأس السلطة الذي اختار لمرحلة وراثته ابنه باسل، وهيأ السوريين لتقبل الفكرة، وعندما مات باسل في حادثة ملتبسة سرعان ما استبدله بوريث آخر، سلمه سدنة النظام الورثة قبل أن يجف الماء على قبر أبيه.

ولأن الأسد الأب استطاع الحفاظ على سلطته في سوريا المكتوبة على اسمه وسط معادلات محلية وإقليمية ودولية، ضمنت بقاءه لثلاثين عاماً متواصلة على سدتها. فإن وريثه، فشل في تحقيق تلك المعادلة؛ مما عزز عوامل التفجير في مزرعة أبيه، فانفجرت ثورة السوريين من أجل مطالب الحرية والكرامة والعدالة، ومن أجل مستقبل مختلف لسوريا والسوريين.

ومرة أخرى، أثبت الوريث فشله في استخدام أدوات السيطرة، التي كانت خليطاً من الإكراه والمراضاة، واستخدام القوة العارية، واقتصر على الأخيرة باعتبارها الطريق الوحيدة والممكنة من أجل إعادة سيطرته وعائلته على البلاد وأهلها؛ مما عمق الاختلالات في المعادلات الداخلية من جهة وفي المعادلات الخارجية؛ الأمر الذي دفعه للارتماء في أحضان تحالف إقليمي دولي، لم يكن أبداً بين خيارات أبيه القريبة، فأصبح الابن رهينة خياراته الإيرانية – الروسية من جهة، ورهينة ما أفرزه الصراع الداخلي في سوريا، وهما العاملان الأساسيان اللذان يرسمان صورة سوريا المقبلة في رؤية النظام.

إن الأساس في اختلال المعادلات الداخلية عمليات القتل والاعتقال والتدمير والتهجير التي طالت غالبية السوريين وأغلب المدن والقرى السورية، وخلفت قطيعة بين أكثرية السوريين والنظام، وفتحت في الوقت نفسه، أبواب خيارات أخرى في عدادها السعي إلى دولة مدنية ديمقراطية، ومثله السعي إلى دولة إسلامية، وصولاً إلى دولة خلافة على نحو ما ترغب جماعات التطرف والإرهاب من «داعش» و«القاعدة» وأمثالهما.

وهكذا نرى أن الإيرانيين وميليشياتهم أقرب إلى مشروع سوريا محكومة بأنصارهم لضمان بقاء سوريا المستقبل في حدود السيطرة الإيرانية باعتبارها جزءاً من رقعة الانتشار الاستراتيجي الإيراني في الشرق الأوسط، وحلقة في الطريق من طهران إلى البحر المتوسط عبر العراق ولبنان، وتتجاوز حدود هذا الطموح البُعدين السياسي والعسكري إلى بعد آيديولوجي، تركز إيران من خلاله على أهمية حضورها الحاسم ومشروعها في سوريا والمنطقة؛ ولهذا السبب فإنها في التفاصيل تسعى لبناء وجود إيراني سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي في سوريا وبخاصة في العاصمة دمشق ومحيطها عبر شبكة معقدة من المؤسسات والعلاقات، وهي تضع وجود ونشاط الميليشيات الشيعية التابعة لها في خدمة مشروعها.

ولا يختلف هدف الروس الرئيس في سوريا كثيراً عن هدف إيران في ضرورة أن تكون سوريا المستقبل جزءاً من رقعة الانتشار الاستراتيجي في شرق المتوسط، بما يوفره الانتشار من مصالح سياسية وعسكرية واقتصادية، لا تتعلق بسوريا وحدها إنما بمحيطها الإقليمي وتفاعلاته القريبة والبعيدة، وهو الأساس الذي قام عليه التدخل والوجود الروسي وعلى أساسه، يمكن فهم السياسات والممارسات الروسية، التي تتغلغل في عمق الحياة السورية، وتنظم شبكة علاقات داخلية وإقليمية قوية ومعقدة، توظفها جميعاً لتعزيز وجودها الاستراتيجي في سوريا.

ورغم أن طموحات نظام الأسد بسوريا المستقبل، ليست بعيدة عما كانت عليه صورتها في الماضي، باعتبارها مجرد مزرعة لرأس النظام والعائلة، لكن بتعديلات، تضمن إبعاد بعض عوامل التفجير الداخلي الجغرافية والبشرية بواسطة جراحة العنف التي لجأ إليه نظام الأسد في السنوات الماضية دون توقف، وبالاستناد إليها، تم طرح مشروع سوريا المفيدة، والتي يمكن توسيع مساحتها أكثر، طالما كان الأمر متاحاً بمساعدة الإيرانيين والروس أو غيرهم، بمن فيهم الأميركيون والأوروبيون والإسرائيليون الذين لن يمانع نظام الأسد في القبول بمصالحهم، طالما تم الحفاظ على النظام ورأسه في السلطة.

سوريا المقبلة في رؤية نظام الأسد، هي سوريا الممكنة في المعادلة الداخلية – الخارجية، التي ترضي شهوة البقاء في السلطة واستعباد السوريين ولا شيء آخر.

الشرق الأوسط

 

 

 

 

عن المرض الأسدي بالطائفية/ ميشيل كيلو

ليس وباء الطائفية مرضًا عادياً. إنه نوع قاتل من الوباء، برز في نصف القرن الماضي من تاريخ سورية، بتخطيط وجهود نظام أسدي يعاقب من لا يعتبره محض”علماني”، وسرعان ما قوّض كثيرا من مشتركات السوريين الوطنية التي كانوا قد بلوروها خلال التاريخ السابق لانقلاب سرقه عسكر “البعث” عام 1963، قبل أن ينتقل إلى تخريب بنية سورية، دولة ومجتمعا، وتدمير كيانها الوطني وتنظيماتها السياسية والحزبية وثقافتها، وإخضاعها لاستبداد وحشي لم تعرف له مثيلا طوال تاريخها القديم والحديث.

بعد سيطرة ضباط “البعث” على انقلاب 1963، بدأ تطور معاكس كبح الاندماج الوطني، رعته سلطة أخذت تطيفها أوساط قيادية في الجيش، بدلت بقرارات متعاقبة اتخذتها بنية المؤسسة العسكرية، ثم أسست منظومة كاملة من أجهزة مخابراتية غطت جميع قطاعات الدولة والمجتمع، اكتمل بها وبنشاطها تطييف “الدولة العميقة” التي طبقت خططا عالية التنظيم، تركّزت على احتلال مؤسسات ومرافق الدولة “المدنية” طائفيا، والإمساك بجسور تواصلها مع المجتمع، بتنظماته ونقاباته وهيئاته المدنية، وصولا إلى إقامة بيئة طائفية شاملة وثابتة، تغطي شؤون الجماعات والأفراد، وتحتجزها داخل شبكة علائقية وقوانينية محكمة الحبك واسعة الانتشار، يحدث نسجها ودورها تبدلا نوعيا يضع السياسة والمجتمع والاقتصاد والثقافة في خدمة السلطة، بصفتها طائفة تنفرد احتكاريا بالمجال العام.

هذا البناء السلطوي/ الدولوي الذي استند إلى الطائفة كتكوين ما قبل مجتمعي/ ما قبل دولوي، تمت إشادته في ظل وبذريعة تحقيق، شعارات كان يفترض أنها ستكرس الدولة الوطنية، وتتخطاها، في الوقت نفسه، إلى اقامة دولة قومية موحدة من جهة، وتتجاوز النظام الرأسمالي إلى بديله الاشتراكي من جهة ثانية، وتحل محل أنظمة القمع نظام حريات عامة وشخصية، لا قيد عليه من جهة ثالثة، يعد بأن ترتقي بسورية والعرب إلى صعيدٍ من الحداثة، يقوّض بنيويا أي تكوين ما قبل مجتمعي في الدولة، وخصوصا الطوائف.

تاريخياً وعالمياً، قام الرهان الثوري على خطة من مرحلتين: يتم في أولاهما تحطيم الدولة بعد الاستيلاء على السلطة وتثويرها، وتحويلها إلى أداة تبني دولة جديدة، ثورية حكماً، مهمتها

“أليس مرضاً قاتلاً أن ترى الأقلية العلوية في بشار خيارها الوحيد، وتنسى أو تتناسى تكلفته الباهظة جدّاً بالنسبة لها؟” الرئيسية تثوير المجتمع في المرحلة الثانية، والقضاء على بنيته الطبقية ونظامه الاستغلالي/ الاستبدادي. تم تطبيق هذه الخطة بعد انقلاب حافظ الأسد عام 1970، ولكن في اتجاه مضاد للثورة، حيث تم تطييف السلطة في مرحلة أولى، وحين نضج تطييفها، انتقلت تاليا إلى استخدام مواردها وأجهزتها لتطييف الحياة العامة والمجتمع. هذا ما تعلمته الأسدية من النظرية الثورية، وهكذا جرّدتها من مضمونها الثوري/ التحديثي، واستخدمتها ضد الثورة، ومن لهم مصلحة فيها: فئات المجتمع الدنيا وطبقاته، فلا عجب أنها استهدفت، بعدائها وقمعها، حملة قيم الحرية والديمقراطية واحترام الانسان وحقوقه والمطالبين بها. ومن الطبيعي أن تسلب السوريين حريتهم وحقهم في ثروات وطنهم وعوائد عملهم باسم حرية شعاراتية، انقلبت إلى استبداد عملي أعمى، ووحدة قومية فرّقت صفوف المواطنين ومزقتها، واشتراكية لم يعرف التاريخ نظام نهب واستغلال أشد وقاحة منها.

في هذا الانقلاب البنيوي العميق، استخدمت “الدولة العميقة” حاضنة جسّدت الطائفة في مستواها الخاص، وعزّزت قبضتها على المجال العام خارجه، من خلال أدوات السلطة العامة “الشرعية”، في حين باع “البعث” وجبهته الوطنية هذه السيطرة على الدولة والمجتمع، بحجة أنها الترجمة الثورية “للوحدة والحرية والاشتراكية”، وأن إنجاحها يتطلب سلطة شديدة المركزية، بل شخصية وفولاذية اليد، يمسك بها قائد مطلق الصلاحيات، هو تحديدا حافظ الأسد أو أحد ما من نسله المعصوم، يعني أي اعتراض أو تحفظ على قراراته جريمة وطنية تستحق أشد العقاب.

حين انتصرت ثورة إيران “الإسلامية” عام 1979، كان النظام الأسدي قد أنجز أكثر صور تطييف سورية اكتمالا، وكان قد أخضع علاقاته العربية والإقليمية والدولية لمعيار وحيد، هو تعزيز طابعه الطائفي ومصالح سلطته. وقد احتفى الأسد بالملالي كمذهبيين شيعة يشاركونه العداء للمسلمين، ويعلنون تصميمهم على تصدير ثورتهم، أي مذهبهم، إلى البلدان المجاورة، بدءا بالعراق، عدو الأسدية اللدود الذي اتحد النظامان الطائفيان ضده لكونه حاجزا يصعب دون كسره اختراق المشرق إيرانيا، ويمثل خطرا رئيسيا على طائفيي دمشق. في فترة تالية، تحالف النظامان، وأسّسا مركز تنسيق وقيادة موحد قوّى مركز الأسد في النطاق الإقليمي، وسهل اختراقات الملالي المجال العربي، ثم تخطى تحالفهما المجال السياسي/ الأمني، وذهب نحو تدامج بشري/ مصالحي، يرتكز على شراكة عقيدية برزت أكثر فأكثر في مواقفهما من قضايا المنطقة التربية ودولها من جهة، ومن التطلعات الديمقراطية والعلمانية، ونشطاء حقوق الإنسان والمعارضة داخلهما من جهة أخرى.

عند هذا المستوى من تماهي علاقاتهما، وضع الطرفان برنامجا موحدا هدفه تحقيق اختراقات استراتيجية في بلدان المشرق والخليج، من خلال تعبئة وتنظيم وتمويل وتسليح أطراف من مكوناتها الشيعية، وتحويلها إلى فصائل مسلحة ملحقة بحرس طهران الثوري ومخابرات الأسد، تحتل بلدانها وتنفذ مهام يُفترض أن ينجزها الجيشان الإيراني والسوري. بهذه النقلة المهمة، عرفت دول المشرق صراعاتٍ لم تعد تقوم على تعبئة داخلها لحماية نفسها من الأخطار الخارجية، أو لتحرير بلدانها من التبعية والتخلف، وإنما جرتها إلى صراعات داخلية المركز، مذهبية وطائفية المحتوى، تفتيتية وتمزيقية، قوّضت مجتمعات عربية كانت متآلفة أو متعايشة في الأمس القريب.

بالتسيّد المتعاظم للقيم والممارسات الطائفية/ المذهبية، تم تدمير وتقليد ما كان قد تم تحديثه

“تم تدمير وتقليد ما كان قد تم تحديثه نهضويا في سورية وبلدان المشرق” نهضويا في سورية وبلدان المشرق، وأبطلت السياسة بوصفها فاعلية مجتمعية عامة، وقضي على الحريات والحقوق والقوانين، وعلى الوطنية باعتبارها رابطة مواطنة وحرية ومساواة وعدالة. وتخلقت بدل مجتمع سورية الموحد “جمعات” متناحرة أدارت السلطة وغذت تناقضاتها. وحلت محل تحرير الجولان معركة الثأر للحسين، وتصحيح تاريخ أعطى الخلافة لغير مستحقها: علي بن أبي طالب رضوان الله عليه !.

كشفت الثورة السورية المدى الذي بلغه الاندماج الإيراني/ الأسدي، وبين كم صار البلدان جسما أمنيا وسياسيا واقتصاديا متشابكا، وأكد دور إيران ضد الثورة منذ لحظتها الأولى أن الملالي لا يقلون عداءً لها من بشار الأسد، وأنهم وراء الحل الأمني الذي حملوا معه، وربما أكثر منه، عبء تطبيقه. والآن، إذا كانت الثورة قد قامت، على الرغم من الواقع الذي وصفته، وكان صمودها قد فضح عجزهما عن تركيعها، ألا يكون من حقنا طرح الأسئلة التالية:

ـ هل هناك عقل واحد سوي يصدّق أن الطائفية نظام طبيعي، ويستطيع تعطيل تطور الشعوب نحو الاندماج والوحدة، ويتيح لطائفة أقلوية أن تفرض سيطرة دائمة على مجتمعٍ يرفض انفرادها بالحكم وشؤونه؟.

ـ وهل يصدّق عاقل، بعد ما تخطته الثورة السورية من خطوط حمراء سلطوية وعلاقات قوى إقليمية ودولية، كانت ضدها ولصالح الأسد، أن من انفردوا بالسلطة نيفا ونصف قرن، ثم عجزوا عن منع السوريين من القيام بالثورة، وعجزوا كذلك عن قهرها نيفا وستة أعوام، سيقنعون “شعب الجبارين” السوري بالاستسلام لنظامهم الطائفي؟.

ـ أليس مرضا قاتلا أن ترى الأقلية العلوية في بشار خيارها الوحيد، وتنسى أو تتناسى تكلفته الباهظة جدا بالنسبة لها، وأن هذا الشخص هو الذي تسبب شخصيا في قتل معظم القسم المنتج بشريا من أبنائها، وفي الإساءة إلى صدقيتها الوطنية وانتمائها لشعبها، علما بأن خسائرها بلغت حجما من شأنه أن يحول بينها وبين حكم سورية بما بقي لها من قوة بشرية؟.

ـ وهل سيهنأ الناجون العلويون من مقتلة الإبادة بالعيش في خوف مقيم، لن يخرجهم منه غير تخليهم عن مستبد ضحّى بعشرات الآلاف من أبنائهم كي يبقى كرسيه، واستعادتهم دورهم المؤيد لحرية وطنهم وكرامته، وانضمامهم إلى مطالبة شعبهم بالخيار الديمقراطي ووقف الحرب التي أوهمهم بشار بأنه يخوضها دفاعا عنهم، ويتبين لهم مع كل ضحية منهم أنها كانت حرب إبادتهم دفاعا عن كرسي، لن ينجح في المحافظة عليه، بما ارتكبه من جرائم ضد العلويين أيضا؟.

ـ لنفترض الآن أن العلويين انتصروا في الصراع الحالي، كم عاما سيبقى مستسلما لهم شعب

“هل بلغت طائفية العلويين حداً يستهينون معه بمصيرهم، دفاعاً عن شخصٍ سيغادر سورية يوما ليلحق بأمواله” قتل مليون ونيف من أبنائه، وهل سينتصرون في المرة المقبلة؟. لم يكن النظام الطائفي في أي يوم مصلحة للعلويين، وكيف يكون مصلحة لهم، إن كان قد وضعهم في مواجهة شعبهم وجعلهم طعاما للمدافع؟ أليس للعلويين مصلحة حياتية في النجاة من السيطرة الإيرانية على وطنهم، وفي الانضمام إلى معركةٍ ستضمن لهم ما تضمنه لإخوتهم السوريين من عدالة ومساواة وكرامة إنسانية؟.

ـ أليس ضربا من انتحار مواصلة معركة إن ربحها الأسد اليوم خسرها غدا، هدفها إنقاذ شلة متسلطة، لطالما اضطهدت علويين، وحولت آلافا من شبابهم إلى حراس لثرواتها وفسادها في دمشق وغيرها، لو كان أمرهم يهمها، لبادرت إلى قبول حق الشعب السوري الواحد، بمن فيه العلويون، بالحرية؟.

ـ أخيراً، هل بلغت طائفية العلويين حداً يستهينون معه بمصيرهم، دفاعاً عن شخصٍ سيغادر سورية يوما ليلحق بأمواله، وسيتخلى عمّن يموتون اليوم دفاعا عن كرسيه، وسيعيش متنعما بمسروقاته التي يعرف كل علوي أن جزءا منها أخذ منه هو أيضا؟.

من الممكن أن تنتصر أقلية منظمة ومسلحة بعض الوقت على أغلبية مفككة ومن دون قيادة. لكنها تحكم على نفسها بالإعدام، إذا توهمت أن انتصاراتها لا تعلم الأغلبية كيف تهزمها، وأن هزيمتها تحتاج أكثر من خسارة واحدة.

تقول وثيقة جنيف بضرورة قيام شراكة في الحكم، تتمتع بتراضي الطرفين السوريين المتصارعين: أهل النظام وأهل المعارضة. أليس من الجنون أن يتجاهل العلويون فرصةً تضمن أمنهم دوليا، وأن يواصلوا الانتحار، دفاعا عن كرسي لا يحب غير نفسه، يكره حتى من حرّضهم على قتل غيرهم وأنفسهم، بينما يوجد حل ينقلهم قبوله من نظام إقصاء واستبداد أسدي إلى نظام حرية وعدالة ومساواة بضمانات دولية ووطنية، هو نظام مواطنة ومساواة أمام القانون يجرّم الطائفية وممارسيها والمحرضين عليها، ويرفض مبدأ الأغلبية والأقلية المذهبي، ويعاقب من يبني مواقفه تجاه مواطنيه عليه؟.

ينفخ المدافعون عن حكم الطوائف والأقليات في قربة مقطوعة، ويتجاهلون أنه تنتظر طوائفهم هزيمة لن تتمكن من تجنبها، لا مفر من أن تنزل بها ذات يوم، إلا إذا قبلت شراكة حرية ومصير في وطن هو لها كما لغيرها.

ـ هل يعقل العلويون فينجون، أم يبقون أسرى عصابة ألقتهم إلى المهالك، فيندمون ساعة لا ينفع ندم؟.

العربي الجديد

 

 

 

 

نهاية حقبة الأسد وبداية مرحلة «بوجود الأسد»!/ لؤي حسين

كل من بقي يُعمِل تفكيره في الشأن السوري وكأن هذا الشأن ما زال على بقائه ضمن الحقل الاصطلاحي الذي أعطى لمسارات الصراع مسمياتها المعروفة منذ ربيع ٢٠١١، بات من دون شك يفكر خارج الراهن التاريخي. إذ إن قطعاً باتّاً وقع على مسار هذا الصراع خُتمت بواسطته المسارات السابقة، وبدأت مرحلة جديدة وإن لم تتبدّ ملامحها بوضوح لجميع الناظرين. هذا مع أن هذه المرحلة تسير حاثة الخطى في إعادة تشكيل الواقع العسكري والأمني والسياسي وفق معطيات ومقومات تضعها الأطراف الدولية المنتصرة في الحرب السورية.

فما يتم الآن يبدو قليل الأهمية الاستراتيجية إلا أنه سيحدد مسارات الصراع القادم: أطرافه، آفاقه، ميادينه، غاياته، وغير ذلك من مقومات ضابطة له.

لقد تأسس لهذا القطع في الانتصار الروسي الإيراني (حزب الله ضمناً) في معركة حلب، حيث كان انتصاراً نوعياً، ولم يكن بتاتاً مجرد انتصار في معركة جغرافية. لكن الأمر احتاج للقمة التي جمعت الرئيسين الأميركي ترامب، والروسي بوتين، في 7 آب (أغسطس) الماضي في هامبورغ، لتصقل هذا القطع وتجعل نصله حادّاً لا يبقي أثراً بين مرحلة انقضت وأخرى بدأت، وذلك بما أظهره ترامب من أن الولايات المتحدة فارغة الرأس من أي أجندة أو مقترح، وستبقى على تخبطاتها «الصغيرة» في الوضع السوري. ولا ينتظرنّ أحد أن تقوم واشنطن بأي فعل يغير المآلات التي بات واضحاً أنها تصب جميعها في الحضن الروسي. وأنها ستبقى محتفظة بمقعدها بصيغته الشَرَفية على الطاولة السورية التي يرعاه لها الطرف الروسي لأن ذلك يمكّنه من تحييد خصومه الأوروبيين عن هذه الطاولة.

إذاً، من هنا وصاعداً يتوجب علينا عند الحديث عن هذا الصراع أن نتحدث عنه باستخدام صياغات وتعابير تفيد بأنه مضى، كأن نقول «ذاك» الصراع، أو «الصراع السابق»، أو أي تعبير يشير إلى أنه بات مجرد مادة تاريخية تتقبل الدرس واستخلاص العِبَر تحت عنوان «تجربة الصراع العنفي السوري»، ليستفاد منها في تجارب لاحقة قد تحصل في غير بقعة من المعمورة.

ذاك الصراع بلغ الختام بعدما وصل منتصروه إلى خط النهاية، وتساقط مهزوموه على أطراف مضماره. فالمنتصر بات واضحاً والمهزوم بيّناً. ولا أعتقد أنه كان مفاجئاً للبعض ألا يرى أي طرف سوري عند خط النهاية. فقد كان واضحاً للجميع أن الشعب السوري مجرد رصْف مسارات الصراع وميادينه، وأن مصير الأطراف السورية مكبّ الخُسران. أما الرهان فعلى اسم الدول المنتصرة: أهي أميركا وحلفاؤها أم روسيا وإيران؟

من ناحية أخرى، فبعض السذاجة أو كثيرها اعتبار أن النظام هو المنتصر، أما حلفاؤه فمجرد مستفيدين من نصره هذا. لكن صلافة الواقع تقول إن النظام سلّم مفاتيح قلعته لموسكو وطهران، وبات لا يملك سوى الفتات الإعلامي الذي يتركونه له على أن يقول ما يريدونه. فالنظام هو الخاسرون الكبار وبالمطلق، فقد بات مكبّل العقبين والمعصمين من حلفائه، وبات فاقد القدرة على فعل أي شيء، بما في ذلك التململ وعدم الرضا على ما يفعله أو يقوله الحلفاء. أما المعارضة فوضعها أكثر قرفاً بعدما اندثرت كلياً، وما عدنا نسمع منها إلا أصوات فقاقيع غرقها في قعر دلو الماء.

مع انتهاء الصراع الوجودي، الذي بدأ بعد أشهر قليلة جداً من انطلاق التظاهرات في آذار (مارس) ٢٠١١، توجد الآن فرصة طيبة لإعادة الصراع إلى مستوى الرشد، إلى المستوى اللاعنفي. فإن كان ممكناً للنظام والمعارضة الاستفادة من تلك التجربة، والتحول إلى طرفين وطنيين يعتبران مصلحة الوطن فوق جميع المصالح، فعليهما الاتفاق على قواعد صراع سياسي لا عنفي. وهذا يتطلب مبادرة طليعية من المعارضة بعد قيامها بعملية فرز ذاتية. فتجمع من بين مكوناتها القوى والشخصيات المستعدة للمشاركة بعملية سياسية بالتشارك مع النظام السوري وعلى رأسه بشار الأسد مصحوباً بصلاحيات محدودة ومضبوطة لا تكفي لأن يكون ديكتاتورياً. فضلاً عن القبول بتوزيع النفوذ الوطني بين روسيا وأميركا وإيران وتركيا. لأن كل من يرفض العمل بهذه الظروف سيجد نفسه على الهامش بين «الخرابيش».

حال النظام لا يختلف هنا عن حال المعارضة إذ لم يبق منه سوى المسمّى، فقد سقطت عنه الفاعلية، لدرجة أنه ما عاد يمكن اعتماده في المصالحات المناطقية الجزئية في الأحياء والبلدات، فجميعها تجري عبر روسيا وإيران (حزب الله ضمناً).

ما لدينا الآن بلد خَرِب، بلد مَوات، لا حياة فيه ولا عُمران. نظامه متهالك، مكبَّل، مُثخن بالجراح. إنسانه محطم الشخصية والهوية. أديانه أيديولوجيات عدوانية. أقوامه متنابذة. لا اجتماع فيه ولا اقتصاد، كل ما فيه سكان متجاورون لا رابط بينهم سوى الخوف. والمال في الأسواق هو الفائض من المنح الدولية المقدمة لاستمرار التحارب.

إن كل ما كنّا فيه بات من عصر غابر لم تعد لنا حاجة به. فنحن الآن بمرحلة جديدة تختلف في جميع مقوماتها عن سابقتها، فلا يوجد بينهما أي رابط استمراري، فالقطع وحده هو التَخْم بينهما. إنه عبارة عن هوّة لا مجال لعبورها أو القفز عنها.

إذاً، لم يعد هذا الصراع «حيّاً يرزق»، بل تقطّعت فيه سبل الرزق. مات أهله، وانفضّ عنه محبوه ومشجعوه، خاب أملهم فيه بعدما تعشموا فيه خيراً قبل أن يعرفوا أن لا خير يرجى من العنف. تأكدوا الآن أن الصراع المسلح محكوم بالفشل، بغض النظر عن وجهات النظر المتعددة في أسباب فشله. والجميع الآن ينتظر معرفة ماذا ستكون عليه الحال بعد ذلك. فالإجابات قليلة، والطروحات شحيحة، والتصورات متداخلة. ما هو مؤكد أن كامل المنظومة الاصطلاحية التي حكمت ذاك الصراع انتهت صلاحية عملها وفاعليتها، مفهومياً وإجرائياً وعلى صعيد مواقف الدول من بعضها، أو من الأطراف المحلية.

فشعار إسقاط النظام بالعنف، مثلاً، كان بمثابة مقولة محدِّدة لنهج وفهم سياسي، ومشكِّلة لحركات جهادية اعتُبرت زوراً وبهتاناً على أنها «الثورة السورية»، وكأن السوريين ليسوا قادرين على القيام بثورة تليق بهم وبالإنسانية غير هذه «الهوجة» التي تشاركت مع النظام بتدمير البنية السورية، التحتية منها والاجتماعية والفكرية والأخلاقية والدينية والسياسية، أو حتى البنى الفردية النفسانية. وفضلاً عن ذلك حددت هذه المقولة مواقف ونهج عدد من الدول التي أرادت رؤية سقوط النظام وفق الطريقة الليبية. فهذا الشعار «انشقت الأرض وبلعته»، وبات في غياهب التاريخ، بعدما استطاع تغطية «عين الشمس» بغربال.

الساحة السياسية السورية خالية الوفاض الآن من المصطلحات والشعارات، بل من الأهداف والرؤى. لكن يوجد اختراق في هذا الخلو. فبعض منا ما زال يحمل روحاً تواقة للحرية، لا تهتم بنتائج المعارك العسكرية، ولا يهمها من المنتصر ومن المهزوم، فكلاهما بالنسبة إليها عدو للحرية الفردية. كل ما يهمها صمت المدافع لتعود وترفع صوتها مجدداً تنادي بالحق المطلق للأفراد بأن يكونوا أحراراً لا يحق لأي جهة أن تعتدي على حريتهم. هذه الأصوات تريد العودة إلى ما كانت عليه في بدايات التظاهرات الخلاقة في ذاك الربيع الزاهر. تريد العودة لرفع صوتها بما قالته في مؤتمر سميراميس (حزيران / يونيو ٢٠١١): إن عليها إنهاء النظام الاستبدادي بطرق سلمية للانتقال إلى الدولة المنشودة، دولة الحرية والعدالة والمساواة، التي لا تمييز فيها ولا أفضلية لفرد على آخر بسبب الدين أو الطائفة أو الجنس أو العرق أو الثقافة.

يتحتم علينا الآن أن نبدأ ثورتنا الحقيقية، على الاستبداد والتخلف والطغيانات، ثورتنا إلى الحداثة، حيث يكون الإنسان السوري فيها غاية بحد ذاته، ويكون فيها هو «الأولَ» قبل الوطن والسياسة والدين والأخلاق، وقيمة مستقلة تُشتق منها القيم الأخرى. ثورة نبنيها خطوة خطوة (وهذا غير المكاسب التدريجية)، نقيمها على أسس مفهومية صحيحة، وليس على «هوبرات» غوغائية، وعلى الأرض السورية حيث النظام يطغى على شعبه، وليس في الشتات.

وهذا ليس كلاماً إنشائياً بل مداميك صلبة تبنى عليها الدول التي تريد لنفسها ألا تكون ورقة في مهب الرياح، بل علامة فارقة بين الدول، لكن ليس بغلو استبدادها، ولا بغلو القتل باسم جهاد أفُلت حيثياته، بل لأن إنسانها حرّ كريم لا يطاوله الغبن ولا الضيم.

أن نفعل ذلك بوجود النظام أمر ليس يسيراً البتة، بل هو في غاية التعقيد والمخاطرة. لكنه ليس أعقد ولا أصعب من اختراع أبجدية، وقد اخترعنا نحن السوريين مثل هذه الأبجدية قبل أن نصبح مسلمين وقبل أن نصبح عرباً، اخترعناها عندما كنا سوريين. لهذا فإني أجزم بأنه إن عقدت نخبنا العزم على صناعة تاريخ جديد للأمة، وهذه مهمتهم، فهم قادرون على إعادة مواطنيهم النازحين واللاجئين إلى الوطن، وعلى صوغ النصوص الكفيلة بإقرار الحرية الفردية، حرية الرأي والاعتقاد والتعبير، وعلى الضغط المثمر لإقامة سلطة قضائية مستقلة عن أيدي الاستخبارات يمكنها حماية الحريات والحقوق وصونها.

إن النخب السورية قادرة على فعل الكثير في ظل هذا الخراب والفقدان للسيادة. فهي قادرة على قيادة الأمة لصناعة تاريخ حديث لائق بالسوريين، وعدم ترك الأمر للعموم أو الرعاع تقود الصراع كما كان الحال طيلة السنوات الست الماضية.

كلي أمل بأن تنهض النخب السورية بمهماتها التاريخية وتبدأ ثورة السوريين التاريخية، ثورة الحداثة، وليس مجرد انقلاب مبتذل على النظام. أدرك أن ثورة سورية حقيقية أمر معقد ولكنها أبسط من اختراع أبجدية.

* رئيس تيار «بناء الدولة» السوري

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى